عذبة
عذابات الوطن
توفيق الشيخ حسين
يسافر في عتمة الليل مع عذاب الغربة .. يلوذ بالصمت المشحون بالمأساة .. يزداد الحنين مع دفء الكلمات .. يعبر الآف الدروب الشائكة .. ليرسم خارطة للوطن .. يصغي لصوت الريح مع قلب موجوع بالأشواق .. فذاكرة الطفولة لا تموت وتتوّج الحزن بلهفة اللقاء .. يتذكر صور الأحباب التي دُفنت في جسد الأرض .. ويفتش عن جرح يتوهج في وطن الأعماق ..
رواية عذبة للروائي " صبحي فحماوي " تتحدث عن الجو الفلسطيني المشبع برائحة الأرض .. عن الذكريات المؤلمة التي تأبى ان تفارق الذاكرة من شدة اثرها ومرارتها عليهم وعلى مجرى حياتهم .. فالنكبة حاضرة في ذاكرة اللاجئين .. كان الماضي دوما يحمل في طياته للفلسطينيين لحظات الألم القاتل في الأحساس بفقدان الوطن وضياع البشر ..
نجحت الرواية في التعبير عن حياة البؤس والحرمان في المخيم والمنفى وتذكـّرهم في كل لحظة بالظلم الذي تعرضوا له ....
ععماد المنذر عجوز متصابي لم يتزوج بعد .. يسكن معسكر أنصار 20 في ولاية عروبستان , يقرر السفر من المعسكر الى مدينته حيفا ومن ثم الى قرية الفريديس في جبال الكرمل .. يعيش حالة من الهلوسة الى لقاء محبوبته " عذبة " التي تشده بشوق للعودة الى رفيقة طفولته وكأنه يعيش عامي سبعة وأربعين وتسعمائة والف , وثمانية وأربعين .. وعلى شفا الأجتياح الصهيوني لفلسطين .. لا يصدق ان ما حصل قد حصل .. كان كابوسا ً ثقيلا ً .. قاسية هي الحقيقة .. لكنها الحقيقة .. نكبتنا في انفسنا قبل ان تكون نكبة في سقوط البلاد ..
قرية "أم الزينات" حُوّ لت منازلها الى انقاض يتبعثر ركامها الذي اكتسحته الأشواك ونبات الصبـّار وأشجار التين والرمان ... مدينة "حيفا " تم محوها عن الخارطة بممحاة بلاستيكية ..
" هل من المعقول ان يـُجرّفوا شعبا ً كاملا ً من وطنه , هو وبيوته وأشجاره , زيتونه وبلوط غاباته , ثم يستوردوا أشخاصا ً آخرين من دول مختلفة ليحلوا محلهم , فيكوّنوا دولة جديدة بمستعمراتها وبمجوهرات يهودها وبرتقالها وصنوبرها , وكأن شيئا ً لم يكن ! "
عماد المنذر يدفعه قلبه للأنطلاق نحو عذبة .. ليشـّم رائحتها المعطرة بعبق أعشاب الشومر والزعتر وشذى رائحة أشجار البلوط .. غابات بكـر لم يمسها أحد , وفي الوديان تنبثق ينابيع عذبة نقية .. شعرها ليس منعثلا ً كغابة الكرمل بل أملس كالحرير ينساب على ظهرها كالشلال , عيناها خضراوان بلون غابات الكرمل .. يتخيلها جوهرة متلأ لئة في غابات الكرمل .. فيها جاذبية مغناطيس يناجيها وهو يحدث نفسه بصمت , والدموع تنط من عينيه فيمسحها عن وجنتيه وعن شاربيه ...
يافا عروس البحر المتوسط .. تعني كلمة يافا البرتقال .. المدينة الفلسطينية المشهورة بأنتاج البرتقال , أفضل وأشهر انواع البرتقال في العالم .. بيارات البرتقال تحيط بيافا من ثلاث جهات .. من الشمال , ومن الشرق , ومن الجنوب , اما من جهة الغرب .. فالبحر الذي تقوم على شاطئه الرملي الجميل , وعبير أزهار البرتقال والليمون تنعش الأنوف والنفوس من مسافات بعيدة .. سقطت مدينة يافا في ايدي القوات الأسرائيلية في عام 1948 واستولت التعاونيات اليهودية على مزارع البرتقال وصارت تدار من قبلها واصبح برتقال يافا رمزا ً لدولة اسرائيل ...
" عماد المنذر يتابع حديثه الصامت الى عذبة قائلا ً : حدثنا خالي أبو هاشم , اثناء زيارته لنا ذات مرة فقال : كانت رائحة زهر الحمضيات تعبق يافا وتعطر شاطئ بحر فلسطين وعندما عينت أمريكا قنصلا ً لأول مرة في يافا قام أخي الحاج حسن " رحمه الله " صاحب محلات الحاج حسن للمواد التموينية قرب الميناء في حارة المنشية , فعزم القنصل على داره القريبة من بيارات البرتقال وبعدما استراح الكولونيل روك , ووضع رجلا فوق رجل وأنشرح صدره في ذاك البيت الذي قعدته تفتح النفس , قال للحاج حسن يومها : لماذا تكلف نفسك يا حاج حسن وترش البيت بعطور الحمضيات ؟ فقال الحاج : نحن لم نرش البيت بالعطور يا كولونيل روك ! هذه روائح برتقال يافا تهب على بيتنا مع نسيم البحر , هكذا هي يافا يا كولونيل روك ! معطرة برائحة زهر البرتقال , مغسولة بأمواج البحر " ...
دخل الأنكليز الى فلسطين كمستعمرين جدد بعد انهيار الدولة العثمانية .. جاء الأنكليز الى فلسطين على شكل تجمعات عسكرية مدججة بالسلاح .. كانوا يأتون بلباسهم العسكري من حيفا .. ويحضرون معهم يهودا ً بلباسهم الأوربي المدني .. أهل القرى الفلسطينية كانوا بسطاء , في وقتها لم يفهموا ما هي الحكاية , لكنهم لم يستطيعوا ان يقفوا مكتوفي الأيدي يتفرجون على من يحتلون بلادهم , وكان لابد من المقاومة ...
يستمر عماد المنذر بسرد ذكرياته المأساوية عن العائلات الفلسطينية بصمت.. ذكرياته عن مجزرة مروعة لم يستطع التأريخ ان يمحيها من أذهان الشرفاء من أبناء الأمة .. مجزرة دير ياسين حصلت في الساعة الثانية من صباح التاسع من نيسان – أبريل – 1948 والتي تشكل ذروة الأرهاب الصهيوني ومما كان له الأثر في الهجرة الفلسطينية عام 1948 .. تؤكد الموسوعة الفلسطينية ان المجرم " بيغن " في حديثه عن المذبحة اعترف بأن العرب الفلسطينيين دافعوا عن بيوتهم ونسائهم واطفالهم بقوة , فكان القتال يدور من منزل الى منزل .. ولكن اليهود كانوا كلما أحتلوا منزلا ً فجروه على من فيه بالمتفجرات القوية التي احضروها معهم لهذا الغرض , وبعد اعلان دولة اسرائيل استولى على بيوت أهالي دير ياسين المهاجرون اليهود من بولندا وهولندا وغيرها .. واعاد اليهود تسمية قرية دير ياسين بـ " كفار شاؤل " وتمت تسوية مقبرة القرية بالأرض ومسح دير ياسين من الخريطة ..دير ياسين لم تكن الأولى ولا الأخيرة , فهناك الكثير الكثير أسماء لا تعد ولا تحصى ولكنها نقاط واضحة في ذاكرة كل فلسطيني .. عندها سجل التأريخ عنوانا لواحدة من اكثر المذابح العنصرية بشاعة ووحشية وكما قال المجرم " مناحيم بيغن " : لولا دير ياسين ما قامت اسرائيل ...
" في سكون الفجر الصامت هجموا على قرية دير ياسين , جيش منظم وعصابات مدربة بقيادة مناحيم بيغن لعصابة الأرغون تسفاي لئومي وعصابتي شتيرن والهاجاناة , فحاصروها من جميع الجهات , قرية مسالمة نائمة .. وراحت احذية المجندين الغليظة تخلع ابواب البيوت الريفية الخشبية التقليدية الواهنة , ومواسير البنادق الرشاشة تطلق زخات الرصاص أينما تشاهد حركة " ...
بعدها اقتحم مجندو غولاني بيت الحاج عبدالقادر , كبير البلد فوجدوه كهلا كبيرا – أبن الثمانين – فقال المجند بكل صلف : تفضل اطلع من البيت , فسأله الحاج مستنكرا ً : الى اين ؟ الى بلاد العرب ..فوقف الحاج عبدالقادر ممسكا ً متشبثا ً بباب بيته بتحـّد غريب وكأنه يرسم لوحة مأساوية للعلاقات الأنسانية ! صار يعرف انه سيقتل بيد هذا الجبان الواقف أمامه ولكن عقله كان يدور الف دورة متسائلا ً :
" لماذا يوجد معتد , ومعتدى عليه ؟ ولماذا يوجد قاتل ومقتول ؟ ولماذا لا يعيش الناس بعرقهم وجهدهم , فيشعرون بالراحة بعد التعب , والشبع بعد الجوع , والقناعة بدل الجشع ؟ ولماذا يسطو انسان على ممتلكات وأرض وعرض وروح أخيه الأنسان , ويتلذذ بالعودة الى رجل الغاب ؟ لماذا يأتون من بلاد الغرب ليقتلونا ثم يقعدون في بلادنا بدلا منا , هم وحدهم ؟ الا يمكن لهم ان يعيشوونعيش نحن أيضا ً ؟ لماذا يحب الأنسان ان يأكل لحم أخيه الأنسان ؟ وحتى السباع والضباع والذئاب والله لا تقتل مثيلتها ولا تأكل لحم بعضها ؟ وكيف يعودون بعد القتل الى بيوتهم فيلاعبون اطفالهم وقد صـُبغت أيديهم بدماء القتل , كريهة الرائحة , ثم يتحسسون دفء ولذة ممارسة الحب داخل بيوتهم ؟ كيف يكون الأنسان قاتلا ً وحنونا ً ؟ يسفك الدماء ويحب زرقة مياه البحر ! يخلف أطفالا ً رائعي الجمال يتلذذ بهم ويقتل أطفال الآخرين ! يصنع الجثث المنتنة ثم يتعطر بروائح البخور " ...
فأنطلقت الرصاصة داخل بيت النار ثم خرجت مدوية لتعلن مقتل عجوز هرم ...
بدأت الهجرة من فلسطين الى الدول العربية .. ظهر ان القضية لها ابعاد أقليمية ودولية ! سميت نكبة فلسطين .. ليست نكبة للفلسطينيين وحدهم وانما هي نكبة للأمة كلها .. اي نكبة اعظم من ان تفقد دارك ووطنك .. انتشر المشتتون متفرقين بلا هدف ولا قدرة للتفكير بما جرى .. انتشروا مشرّدين , محرومين من دفن جثث قتلاهم ! محرومين من قطعة قماش تقيهم شمس النهار أو برد الليل ! ..
ذكريات كثيرة تدور في ذهن عماد المنذر عما حصل وما يزال يحصل .. حديث الأحياء للأحياء الذين لم يموتوا .. قصص مأساوية كثيرة تعبـّر عن المأساة وانضوائهم تحت ظل الخيام , يلوكون ويجترون أحزانهم صامتين , ويخـزّنون مآسيهم .. يفكرون بضياع وطن هكذا مثل " فص ملح وذاب " فالأنسان لو ضاع منه صحن , فأنه يعز ّ عليه , فما بالك بضياع وطن .. الأوطان عزيزة على النفس , فكيف اذا كان هذا الوطن أرض النبوات والمقدسات , هذه الأرض المباركة اغتصبها اليهود الصهاينة ...
عرف الجميع نوعية الحياة التي عاشها اللاجئون الفلسطينيون في المخيمات التي اقامتها وكالة الغوث التابعة للأمم المتحدة في اماكن لجوئهم .. اذ تميزت هذه الحياة بقسوة لا مثيل لها .. فقد عاشوا في البداية في خيام بالية لم تتمكن من ان ترد عنهم برد الشتاء أو حر الصيف , معتمدين على المواد الغذائية القليلة مع انعدام الرعاية الصحية والأجتماعية ..
انتبه عماد الى انه لا يزال قابعا داخل الحافلة التي تقلهم الى حيفا .. كان مخه المهلهل يشتغل بطريقة أستنفار لم يسبق لها مثيل .. وعند العفولة تم تجزيء الركاب , وركب سيارة أجرة صغيرة من العفولة مرورا بوادي الملح باتجاه أم الفحم .. صعدت جبال الكرمل في غاباتها الداكنة الخضراء , حيث مرت على آثار قرية " أم الزينات " المهبطة جهة اليمين .. فعبقت روائح الصنوبر والبلوط والسنديان أنفه فأنعشت رئتيه وأستمتع بمشاهدة تربة أرضها الحمراء التي لا يختلف لونها كثيرا عن الحناء فاسترخى في جلسته وانتشى برائحة الوطن .. فأسكره الهواء العليل .. صارت مساحات عينيه السريعة غير قادرة على إزالة دموعه المتدفقة .. صورة غابات الكرمل مكتظة الأشجار , وصورة عذبة مغبـّشة وضبابية وشفافة تتمايل كالغمامة بين أفرعها وترنو اليه من بعيد ! وعند المنحدر الذي يصل الغابة بالبحر , انبلجت قرية الفريد يس جالسة على عتبة الشاطئ , على الرصيف بانتظار القادم من بعيد , بانتظار المغترب , المستشرق , المهجـّر , اللاجئ , النازح , المـُبعد , المنكوب , العائد الفلسطيني عماد المنذر ! وهناك من بعيد كانت عذبة بانتظاره تبتسم وتلـوّح له بيديها مرحـّبة بلقائه ...
يبقى الصمت نجمة الأحزان .. نزرعه في الأرض الممتدة عبر القرى المتقطعة الأنفاس .. خوفا ً من غزو أسراب الغربان .. ونبقى نلوك سنين الماضي البعيد .. وتبقى الغصـّة في القلب الواهن المقهور .. مع دفاتر الأوجاع التي تحاور الأشجار .. وتعبر ليل المسافات الطويلة لتبحث عن وجه الوطن .. بين فضاءات الزمن القاتل ...
*صبحي فحماوي , رواية عذبة , دار الفارابي , بيروت 2005