القصيدة / الرؤية في شعر محمد بنعمارة
ذ. محمد دخيسي - وجدة المغرب
نواصل مع القارئ الكريم جولتنا في حقول الشعر المغربي المعاصر، وقد ارتأينا الاستهلال بشعراء المنطقة الشرقية ( عبد الرحمن بوعلي، ومحمد علي الرباوي) لنصل في هذه الحلقة الثالثة إلى رمز من رموز التشكيل الشعري، إبداعا ونقدا وتواصلا ( من خلال برنامجه الإذاعي / حدائق الشعر، الذي يشق به طريق الإعلام وتعليم أصول الشعر للمواهب السائرة على نهج الكبار). إنه الشاعر محمد بنعمارة الحاصل على درجة الدكتوراه أخيرا حول ( الأثر الصوفي في الشعر المغربي المعاصر)، وقد أصدر لحد الآن سبعة مجموعات شعرية: أولاها كان سنة 1972 (الشمس والبحر والأحزان) وآخرها ( في الرياح ... وفي السحابة ) 2001.
إن تجاوز مرحلة من مراحل الكتابة الشعرية لا يعني البتة الانسلاخ عن الماضي وتمثل أسس قضايا لم تكن في حسبان المبدع، لذلك فاقتران التجربة الشعرية عند محمد بنعمارة بالتجربة الصوفية في إبداعاته الأخيرة يكشف عن تطور في الفكر والتفكير، ويؤكد سمة التحول والاستمرار في البحث عن سبيل الخلاص من فضاحة الواقع ومتشدقيه. وتنبع لغة الشعر من عمق التجربة الشعرية التي يؤمن بها الشاعر، وتتجلى أيضا في ضوء الحقائق التي ينفعل معها، ويستلهمها لتكريس مبادئه، والإحاطة بكل مايدور حوه. ومن ثم يصبح المدلول الشعري خاصا به، منطلقا من ذاته إلى المتلقي وواسما شعره بخصوصية متفردة.
إن العالم الذي اختاره محمد بنعمارة، لا يخرج في نظرنا عن تيمتين رئيسيتين:
أولاهما: الرؤية الإسلامية التي تحولت في ما بعد إلى تجربة صوفية بتجلياتها الموضوعية والشكلية.
ثانيهما: مناجاة القصيدة والشعر، والحديث عن التجربة الشعرية باستخلاص الغايات والأهداف المنوخاة من العملية الشعرية.
وبماأن اللغة العربية تتسع لجملة من المجازات التي ذاع صيتها، فأصبحت متجاوزة ومألوفة، كالأسد دلالة القوة و... فإن محمد بنعمارة استطاع أن يبني صرح لغته ويلزمه في شعره. نذكر من بين ذلك ألفاظا استمرت مع شعره وتحولت دلالاتها من قصيدة لأخرى، كالنخلة، والحديقة والوردة والبحر والدم والماء والحرف و...
حقل الماء وتصوراته في المنجز الشعري لمحمد بنعمارة:
نضع القارئ في هذه الوقفة القصيرة عند سمة من سمات الخطاب الشعري عند محمد بنعمارة. إنه حقل الماء وما يرتبط به من نواحي الارتواء والخصب، وإنه مجال النص الشعري الذي يتوخى الشاعر من خلاله إنجاز منظومة فكرية مرتبطة بما هو مميز في القصيدة. ودلالة الماء عنده لا تخرج عن إطار اعتباره مصدر الحياة، والبحر كونه رافدا أساسيا له، يحمل دلالات الأعماق وسبر الأغوار. ويتعامل الشاعر معه انطلاقا من رؤية صوفية في أغلب الأحوال، ويجعله في مقابل لغته الشعرية تارة، أو صفة للبحر العروضي ( الشعري).
يقول محمد بنعمارة في قصيدة ( امرأة أخرى) من مجموعته الشعرية ( في الرياح ... وفي السحابة):
امرأة رمانة
تشفي
جرح الشاعر
وتضمد أحزانه
كانت كالموج
لها المد
لها الجزر
وكالموج يغير ألوانه
مثل الموج
ومثل الناي
إذا أرسل
في صمت الغابة
ألحانه
- أسألها:
من أنت
تخاطبني
بنشيد الإغراء
أنا البحر
وعاشقة إنسانه ( ص 74-75)
يمزج الشاعر في هذه القصيدة بين البحر / المرأة / القصيدة، في نص شعري منسجم دلاليا على اعتبار صياغة الصور الشعرية المسترسلة ضمن أس متدرج من الجزء إلى الكل: من المرأة فالمد والجزر والغابة إلى البحر دلالة عن القصيدة التي يكتبها التي تغير لغاتها ( أمواجه) وهي عاشقة إنسانه تعبر عن الملكوت الشعري الذي يعيشه الإنسان وضمنه الشاعر.
إن المرأة – الرمانة- الموج- الناي- الغابة- وبنت البحر.. كلها دلالات تنبع من ذات شاعرة خصبة ملؤها العشق الصوفي، والتورية البلاغية والتنفيس الدلالي الذيي يخلص اللغة من غموضها ومن سكونها، وجعلها تثبت رأي الشاعر وتنفذ به في أدغال المجازات لتثمين البعد الجمالي والشعري في إبداعه.
والقصيدة هي على التوالي:
امرأة: والمرأة هي الإنسان المغلق على هواجسه.
رمانة: والرمانة مغلقة لا يمكن التنبؤ بمضامينها إلا للعارف بها والمجرب لها.
فكمثل المرأة والرمانة نجد القصيدة الشعرية التي تشفي جرح الشاعر وتضمد أحزانه، الموج.... إنها الرؤية الشعرية التي يحمل الشاعر على كاهله التعريف بها في شعره ويعبر عنها بصيغ متفاوتة الدلالة ، من المعقد الغريب الذي لا ينكشف إلا بعد قراءات عدة ومتأنية، إلى اواضح الذي تنبع دلالته من المقروء اليومي العادي، كأن يقول في قصيدة ( في ظلها قد نستريح) في مجموعته ( في الرياح ... وفي السحابة):
لولاك...
أيتها القصيده
يا نخلة
في ظلها
قد يستريح المتعبون
يا مركبا
يأوي إليه المبحرون
يا نجمة
يرنو إليها المدلجون ( ص- 5)
إنها الرؤية الشعرية التي يحملها الشاعر، ومنها يتدفق مكنونه الشعري كي يعبر بأبهى الصور وأقربها إلى حقائقه الصوفية. ومحمد بنعمارة حين يلجأ إلى مثل هذه الدلالات فهو يعبر عن تجاربه وتحدياته. فالماء ليس هو الماء المعروف عندنا الذي يستخدم للشرب والنظافة و.. بل يستغله الشاعر في إبراز ملامح الكتابة الشعرية.
يقول في ديوانه ( مملكة الروح):
ثم نرى من عاد وأخرج موعده من ماء البحر
وعلمنا لغة المنفى ( ص- 59)
ويقول في مجموعته ( السنبلة):
يموت حرفها
فتشرق الجداول التي
مياهها الكلام ( ص- 35)
معنى هذا أن الماء هو الكلمة المعبرة عن آلام الشاعر وأشجانه. وأن المقصدية ثابتة في هذا المجال، وأن الشاعر أعطى أيقونات دالة على فعل الماء. ولم يكثف بدلالاته الإيحاية دون إرشاد المتلقي. لإن السياق عنده يوحي بما لم تنبه إليه الدلالات السطحية.
والماء ليس القضية الوحيدة التي تنبئ بهذه التحولات في دلالة النص الشعري عند محمد بنعمارة، بل مثله كثير وسيرة إنجازه متوفرة وغنية من حيث المضامين والأشكال التعبيرية، لذيك يمكن القول في آخر مقالنا إن التجربة الشعرية التي أصطفاها الشاعر محمد بنعماره في آخر نصوصه تظهر مدى تفكيره في تلقي النص، إذ لم يعد المبدع يغطي تجربته بوضوح متناه لا يترك معه سلطة القارئ بل تجنب المباشرة وانتقى الألفاظ المعبرة والإيحائية ليكون المعنى غير جلي إلا بكثرة القراءة للوصول للدلالة الحقيقية، ولم يعد النص الشعري صورة صاحبه، بل تبدت شخصيته في دلالات الإبداع ليصبح جزءا من العملية الإبداعية ذاتها.
فالرؤية الشعرية ضرورية لبناء صرح شاعر معين، وبعابرة أخرى لتشكيل خصوصيته الفكرية، ونقصد بالخصوصية كما عرفها الأستاذ مصطفى سلوي المنهج والطريقة في قراءة النص الشعرالتي تميز شعر شاعر بعينه من بين سائر أشعار الشعراء، سواء كان المقصود من هذا الشعر نصه أم خطابه.
يقول الشاعر محمد بنعمارة في قصيدة ( في الرياح .. وفي السحابة):
كالعباره
حرفها نور من الروح
ومزج
بين ناي، وربابه
وصلاة
ركعتاها
جمرتا عشق وموت
بين رؤيا
وكتابه ( ص- 59)
إنها إذن القصيدة بما تحمل من دلالات وعبارات لا متناهية تعبر عن مكنونات الشاعر وتنجيه من غول الفواجع، وتزيل عنه مد وجزر البحار الموغلة في الغموض. كما أنها صفة التضرع والابتهال إلى الله، وهي بذلك موجودة في الرياح وفي السحابة تمطر المبدع والمتلقي على السواء.