نظرية التلقي في النقد الأدبي المغربي المعاصر
فؤاد عفاني
باحث من المغرب
نوقشت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية "جامعة محمد الأول" بمدينة وجدة المغربية أطروحة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه في الآداب أنجزها الطالب فؤاد عفاني، في موضوع "نظرية التلقي في النقد الأدبي المغربي المعاصر". وتشكلت اللجنة التي ناقشت الأطروحة من السادة الأساتذة من:
الدكتور عبد الرحمن بوعلي رئيسا
الدكتورة جميلة حيدة عضوا
الدكتور مصطفى السلوي عضوا
الدكتور أحمد طايعي عضوا
الدكتور إسماعيل إسماعيلي علوي مقررا
وفيما يلي نص التقرير الذي قدمه الطالب أمام السادة أعضاء اللجنة العلمية
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من أمة سيد الأنام، محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، هدى من شاء برحمته وفضله، ففاز بالمغفرة والرضوان، وأضل من شاء بعدله وحكمته، فباء بالإثم والخسران، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وبعد: فإن أطروحتنا المعنونة ب" نظرية التلقي في النقد الأدبي المغربي المعاصر" جهد ننشد من خلاله تقديم صورة واضحة لإحدى تجليات لقاء نقدنا الأدبي المغربي بالنقد الأدبي الغربي، وقد وقع اختيارنا على نظرية التلقي لدراسة مظاهر ذاك اللقاء والتفاعل. ومن هنا جاء مجهودنا المتواضع ليثير السؤال عن طبيعة هذا اللقاء بالدرجة الأولى.
لقد حاولنا، من خلال عملنا، أن نرصد أشكال استقبال النقد الأدبي المغربي لهذه النظرية كما أسس لها هانس روبرت ياوس وفولفغانغ أيزر وكذا أهم القنوات التي انتقل عبرها الوافد الجديد، وقد كان السؤال الذي أثار فضولنا العلمي قبل إنجاز هذا العمل: هل نتعامل مع النظريات النقدية بخطط واضحة تحدد حاجياتنا وتوفر لنا العدة المنهجية الكفيلة باستيعابنا لتلك النظريات أو أن الأمر لا يعدو أن يكون "مغامرة" منهجية قد تعود علينا بالخير كما قد تعود علينا بالضرر.
وهكذا، تأتي هذه الدراسة خطوة أولى لتمهيد الطريق أمام رصد تلقي النقد الأدبي المغربي لمناهج نقدية أخرى، وهي مبادرة ستقدم لنا صورة أوضح وأوسع عن طبيعة التفاعل بين نقدنا الأدبي والنقد الغربي، لندرس في خطوة موالية مكامن الضعف والقوة في طبيعة ذلك التفاعل حتى نتحرر من أغلال المماثلة و"الحاجة" المنهجية.
ولعل ذلك هو الأمل الذي كان يحذونا حين عقدنا العزم على خوض غمار هذا البحث، خصوصا وأننا وجدنا أنه ليس هناك عددا وافرا من الدراسات التي تعالج بطريقة مباشرة استقبال النقد الأدبي المغربي لنظرية التلقي. مع العلم أن أغلب الأبحاث التي تناولت نظرية التلقي اختار أصحابها المنحى التطبيقي وتركيز الرؤية على توظيف منجزات هذه النظرية وتقريبها من القارئ عن طريق اختبار فرضياتها على النسيج النصي أو أحيانا التعريف بالمفاهيم الهيكلية لنظرية التلقي. ومن النماذج الممثلة لذلك هناك عدد من الدراسات ضمن الأعمال التي نشرتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط تحت العناوين التالية: "نظرية التلقي إشكالات وتطبيقات"، "الترجمة والتأويل"، "من قضايا التلقي والتأويل"، بالإضافة إلى دراسات حميد لحمداني وإدريس بلمليح وأحمد طايعي والترجمات المغربية لمؤلفات ياوس وآيزر بالإضافة إلى مؤلفات أخرى وعدد من الدراسات التي تحتويها بعض المجلات المهتمة بالنقد والأدب. لكن هذا لا ينفي وجود أبحاث حاولت درس العلاقة التي جمعت بين نظرية التلقي والنقد الأدبي العربي عموما وكأمثلة لهذا النوع من الأبحاث نذكر: دراسة أحمد بو حسن "نظرية التلقي والنقد الأدبي الحديث"، والدراسة التي قدمها الباحث إسماعيل إسماعيلي علوي بعنوان "أثر استقبال نظرية التلقي على النقد العربي الحديث بين السلب والإيجاب" ودراسة ناظم عودة "طريق التلقي والتأويل".
وترجع أسباب توجهنا للبحث في هذا الموضوع لجملة من الأسباب الذاتية والموضوعية، فلقد توطدت عرى التواصل بيني وبين حقل النقد الأدبي منذ ولوجي أبواب جامعة محمد الأول، إذ وجدت في النقد الأدبي الفضاء الأمثل الذي يمكن أن نعايش فيه تحاولات كل الأجناس الأدبية، بل هو الموقع الأنسب الذي يخول لنا الانفتاح على مختلف الآفاق الأخرى، فكثيرا ما نتتبع إغراءات النقد الأدبي لنجد أنفسنا نغوص في مجال العلوم الطبيعية أو في أصول الفقه أو الفلسفة...
إن اختياري البحث في موضوع " نظرية التلقي في النقد الأدبي المغربي المعاصر" كان طموحا ذاتيا ناجما عن حب للدرس النقدي بالإضافة إلى إشارات أستاذي الفاضل إسماعيل إسماعيلي علوي الذي مد لي يد العون منذ لحظة الاختيار إلى غاية هاته اللحظة التي نأمل أننا بلغنا فيها المقصد من عملنا المتواصع هذا.
أما في ما يتعلق بالأسباب الموضوعية فإن البحث في نظرية التلقي يعد مواكبة لواقع النقد الأدبي المغربي الأمر الذي يسمح لنا بمعرفة التحديات التي يواجهها الفكر النقدي الأدبي بالمغرب، فكلما قمنا بمراجعة حصيلة تراكماتنا النقدية إلا استطعنا أن نحدد الرؤية بالنسبة لمشاريعنا النقدية المستقبلية.
أما من حيث هيكلة هذا العمل فقد أثث معمار الرسالة بابان، غلبت على الأول منهما حلة نظرية؛ فوسمناه ب: "نظرية التلقي في المحضن وخارجه"، بينما كان للثاني صبغة تطبيقية خولت لنا الوقوف عند "نظرية التلقي في النقد الأدبي المغربي"، وقد قسمنا كلا من البابين إلى فصلين، ضم كل فصل منها مباحث تتعالق من حيث الأهمية وتتكامل معا في تشييدها لصرح هذا البحث، وإن وجدناها تتنوع كما وعددا.
قسمنا الباب الأول إلى فصلين؛ اختص الفصل الأول منهما بتقديم تصور شامل عن نظرية التلقي في موطنها الأم نظرا لما يوفره ذلك التصور من جلاء للرؤية، فمعرفة تاريخ المفهوم ومنبته تذلل كثيرا من صعاب البحث وتيسر خطوات الرسالة كما تمكن القارئ من مسايرة القضايا التي يناقشها الباب الثاني.
وهكذا، كان المبحث الأول مخصصا للحديث عن نشأة مصطلح "التلقي"سواء تعلق الأمر بدلالته اللغوية أم بدلالته الجمالية والنقدية التي ولجت ساحة النقد الأدبي أثناء تبلور النواة الأساس لمدرسة كونستانس.
ولتعميق المعرفة بالثوابت التي خلخلتها نظرية التلقي في البناء النقدي الذي تقدمها، حاولنا وضع نظرية التلقي في سياقها التاريخي وذلك برصد حيثيات نقلة التمرد على النص والانتقال نحو القارئ الذي يمثل القطب الثالث إلى جانب قطبي النص والمؤلف، هاته الأقطاب الثلاثة التي احتضنت التحولات الكبرى في تاريخ النقد الأدبي.
ولأن التحول عملية محكومة بدوافع تتدخل فيها كل المكونات التي تؤثر وتتأثر بما يحدث في حقل الأدب، فإننا لم نشأ أن نصف صيرورة التحول نحو القارئ في الثقافة الغربية دون الكشف عن دواعي ذاك التحول التي غذاها بالخصوص ما كان يعتمل في حقلي الفكر الفلسفي والعلوم الطبيعية.
المبحث الثاني عنوناه ب"نظرية التلقي الأصول والمفاهيم" توخينا من خلاله تقديم بسط مركز لنظرية التلقي وذلك بإجراء بحث في أهم أصول هذه النظرية والمفاهيم الأساس التي تؤثث كيانها النظري، فكانت رحلتنا بذلك بين كل من: الفلسفة الظاهرية والهرمينوطيقا والشكلانية الروسية وبنيوية براغ وعلم الاجتماع.
أما الفصل الثاني الذي عنوناه ب:"دواعي انتقال نظرية التلقي إلى النقد الأدبي العربي وأشكاله" فتتجلى قيمته في كونه يمثل حلقة وصل بين ما تناولناه في الفصل الأول وما سننكب على دراسته في الباب الثاني، إذ نتصور أنه يتعذر علينا الخروج بنتائج حقيقية دون الإحاطة بما يقع في النقد الأدبي العربي، فنحن نؤثر فيه ونتأثر به في الآن ذاته. وبالتالي فدراستنا لنظرية التلقي في النقد الأدبي العربي نعتبرها خطوة ضرورية للانتقال من العام إلى الخاص ومن الكل إلى الجزء بالإضافة إلى أنها تمثل مناسبة للاطلاع على طبيعة حضور المنجز النقدي المغربي في الساحة العربية.
دأبنا في المبحث الأول من هذا الفصل على أن نفحص عملية انفتاح النقد الأدبي العربي على النقد الغربي وكيفية سيره التدريجي نحو المقاربات التي تعلي من شأن القراءة والقارئ مقابل تقويضها سلطة النص.
أما المبحث الثاني فقد ألقينا الضوء من خلال صحائفه على أشكال انتقال نظرية التلقي إلى النقد الأدبي العربي والتي تجلت في: الترجمة- محاولة التأصيل العربي لنظرية التلقي- الاكتفاء ببسط النظرية- التطبيق. وقد حرصنا على اختيار نماذج اعتبرناها تحقق التمثيل المتوخى من كل شكل.
الباب الثاني من الدراسة خصصناه لإجراء بحث معمق لحضور نظرية التلقي في النقد الأدبي المغربي. وبالنظر إلى طبيعية الإشكالات المنهجية المقاربة في هذا الباب فقد قسمناه إلى فصلين وزع كل منهما على ثلاثة مباحث.
الفصل الأول عالجنا من خلاله إشكالية انتقال نظرية التلقي إلى النقد الأدبي المغربي وأشكال هذا الانتقال، ولهذا فقد كان من اللازم أن نقدم في المبحث الأول صورة للمشهد النقدي الأدبي المغربي قبل استقطاب نظرية التلقي لنتمكن في المبحث الذي يليه من وضع اليد على الأسباب والظروف الحقيقية الكامنة وراء استنبات نظرية التلقي في تربة النقد الأدبي المغربي.
ولذلك، فالمبحث الثاني من هذا الفصل بحثنا من خلاله عن أسباب وظروف انتقال نظرية التلقي إلى النقد الأدبي المغربي، إذ جمعنا بفضل ما توفر لنا من نصوص المعطيات التي يمكن أن نفسر بها اقتحام هذه النظرية كنف النقد الأدبي المغربي.
وهكذا يأتي المبحث الثالث باعتباره سقفا لا تقوم له قائمة في نظرنا دون سابقيه فاستعرضنا فيه أشكال استقبال نظرية التلقي في النقد المغربي وآثرنا أن نعالج تلك الأشكال بتناول نماذج منتقاة، فمثلنا للترجمة بكتاب "جمالية التلقي من أجل تأويل جديد للنص الأدبي" لرشيد بنحدو ولمحاولات "عرض" النظرية بدراستين أولهما "الوقع الجمالي وآليات إنتاج الوقع" لعبد العزيز طليمات أما الثانية فهي دراسة معنونة ب: "حول كتاب «القارئ المفترض» قراءة الرواية كاكتشاف" لإبراهيم الخطيب. أما المحاولات التي سعت للتدخل في نظرية التلقي بإحداث تعديلات عليها حتى تتواءم والنص العربي فقد مثلنا لها بدراسة لمحمد مفتاح معنونة ب: "من أجل تلق نسقي".
ونظرا لتعذر تناول الدارسات المطبقة لنظرية التلقي -باعتبار التطبيق شكلا من أشكال تلقي هذه النظرية- في مبحث واحد فقد خصصنا لهذا الغرض الفصل الأخير من بحثنا ووزعناه على المنوال التالي:
المبحث الأول تناولنا فيه تطبيق نظرية التلقي على النصوص الشعرية من خلال كتاب "القراءة التفاعلية دراسة لنصوص شعرية حديثة" لإدريس بلمليح، أما المبحث الثاني فخصص لتوظيف نظرية التلقي من خلال النصوص السردية (الرواية والقصة) واعتمدنا في ذلك على كتاب "القراءة وتوليد الدلالة تغيير عادتنا في قراءة النص الأدبي" لمؤلفه حميد لحمداني.
إن طبيعة مقاربتنا لموضوع "نظرية التلقي في النقد الأدبي المغربي" أملت علينا دراسته وفق منهج يوظف تقنيات بحث تتمثل في جمع المادة وتصنيفها ثم قراءتها توسلا بالمقارنة أو الوصف أوالتحليل استجابة لخصوصية كل نص باعتبارها المسوغ الحقيقي لتأسيس مراتب القراءة.
إن تتبعنا لسيرورة اللقاء التي جمعت النقد الأدبي المغربي بنظرية التلقي أفضى بنا إلى نتائج يمكن تسجيل أبرزها على المنوال التالي:
· نظرية التلقي نظرية أينعت في تربة النقد الأدبي الألماني، ولا يمكن الحديث عن نشأة هذه النظرية ومرجعياتها دون استحضار الفكر الفلسفي الغربي.
· تبلور نظرية التلقي جاءت استجابة لتحولات فكرية واجتماعية وسياسية اعترت الفكر النقدي الألماني والثقافية الغربية عموما.
· دواعي انتقال نظرية التلقي إلى النقد الأدبي العربي عموما والمغربي خصوصا لا تكاد تختلف عن الأسباب التي استدعت انفتاح هذا النقد على النظريات الغربية السابقة، وهو انفتاح يكرس خضوعا لسلطة الآخر وبالتالي غياب القدرة على الإنتاج داخل سياقنا المعرفي.
· التأخر الزمني في استقبال نظرية التلقي والمتجلي بالخصوص في اتساع الهوة الزمنية بين تاريخ ترجماتنا وتاريخ صدور النصوص الأصلية في موطنها. وللإشارة ففترة التسعينات مثلت مرحلة الأوج الحقيقية لنظرية التلقي في المغرب.
· اقتفاء النقد الأدبي المغربي آثار النقد الغربي جعل الإقبال على نظرية التلقي يأتي نتيجة لانسداد آفاق البحث التي قدمتها المقاربات السابقة للعمل الأدبي، ف"استيراد" المناهج يفضي بطريقة غير مباشرة إلى معاينة النتائج ذاتها التي انتهى إليها الآخر في تجربته النقدية. ومن شأن اعتماد النقد الأدبي المغربي على منجزات النقد الغربي أن يؤدي إلى واحد من أمرين:
- تحقيق تراكم معرفي كفيل بتشييد ذات مبدعة على المستوى النقدي، وهو افتراض نراه مستبعدا لكون تجربة تحقيق هذا التراكم ليست تجربة ناجمة عن معاناة ذاتية، إنما هي –وكما أسلفنا الذكر- نتيجة الخضوع لمرجعيات "سلطوية".
- أواستمرار التبعية –وهذا ما نراه مرجحا-، ولهذا فالإقبال على نظرية التلقي هو بحث عن الحركية ونبذ للاستكانة النقدية بالدرجة الأولى.
· خروج نظرية التلقي في المغرب من رحم الجامعة وتكفل الأطر الأكاديمية بالتعريف بهذه النظرية وتقريبها من المتهم بحقل الأدب والنقد من خلال تبني كل الأشكال التي من شأنها أن تحقق استيعابا أفضل لنظرية التلقي.
· إسهام النقد الأدبي المغربي إلى جانب نظيره المشرقي بشكل فعال في إغناء المكتبة النقدية العربية، وتدعم استنتاجنا ملاحظتان؛ أولاهما ترجمة كتاب "نظرية التلقي (مقدمة نقدية) من قبل خالد التوزاني والجلالي الكدية، مع العلم أن الكتاب متوفر بترجمتين مشرقيتين وهو ما يؤكد أن الناقد المغربي لم يعد في حاجة إلى وساطة مشرقية، إنما بإمكانه أن يحصل المعرفة من منابعها وبكفاءة تضاهي كفاءة نقاد الأدب في المشرق. أما الملاحظة الثانية تتجلى في كون النقد الأدبي المغربي أضحى مرجعا لا يستغنى عنه لباحث في موضوع نظرية التلقي.
إن التصور العام الذي أطر بحثنا عن استقبال نظرية التلقي في المغرب تتحقق من خلال وقوفنا عند مرحلتين تؤسس الواحدة منهما للأخرى:
*مرحلة ما قبل تلقي نظرية التلقي: الإشكال الذي امتلكنا إبان هذه المرحلة هو: هل كان النقد الأدبي المغربي يعيش حقا مآزق استدعت توجهنا نحو الغرب للبحث عن بديل منهجي؟. لحل الخيوط المتشابكة لهذا الإشكال لم نستعجل الأجوبة إنما حاولنا أن نسترجع الخطوط العريضة التي ترسم مسيرة نقدنا الأدبي، فوجدنا أن هذا النقد يسير تدريجيا بخطى ثابتة نحو البحث عن الذات، إذ بدأ ينتفض من غبار الذاتية والخضوع للمركزية المشرقية ميمما شطر الغرب. وبالتالي فليس من الغريب أن "نجلب" نظرية التلقي، وحتى وإن لم نفعل ذلك فقد كنا سنجلب نظرية أخرى؛ ولا أدل على ذلك الزخم المنهجي الذي صارت تعرفه ساحات نقدنا الأدبي منذ انفتاحنا على الغرب، فنحن لا نكاد نفرغ من تعرفنا منهجا ما حتى "نصطدم" بموجة تشيد وتنافح عن منهج نقدي آخر. ورغم ما يمكن أن يتهم به هذا الرأي من مغالاة فهذا لا يمنع من كونه وجهة نظر مفسرة لواقع النقد الأدبي المغربي.
* مرحلة استقبال نظرية التلقي: وهي مرحلة تكشف أن علاقة النقد الأدبي المغربي بنظرية التلقي تتسم بمزيج من الجرأة والحياء؛ جرأة من جهة إقبال الناقد المغربي على تلمس غياهب الاتجاهات النقدية الأدبية الغربية واستقطاب ما يراه منها كفيلا بحل مشكلات النص الأدبي العربي عموما والمغربي خصوصا، وحياء نلمسه على مستوى المنجز كما بالدرجة الأولى، فما توفره المكتبة المغربية عن نظرية التلقي يبقى دون ما يتوقع منها. وهو الأمر الذي لا يعزى لغياب الدارسين الحقيقيين ولكن لظروف تتدخل فيها عوامل معقدة لا يتسع المقام للتفصيل فيها.
وفق هذا التصور أخذ بحث " نظرية التلقي في النقد الأدبي المغربي المعاصر" حلته النهائية، دون أن ندعي تحقيق الشمولية في تناولنا لهذا الموضوع، فمثل هذا البحث يحتاج إلى تضافر الجهود للإحاطة بجميع عناصره، فليس من السهل أن يلم باحث واحد بكل ما كتب عن نظرية التلقي في المغرب، ومن الأصعب أيضا أن تدرك نظرية التلقي بكل إشكالياتها وأصولها بجهد واختصاص واحد، فالنظرية لم تكن وليدة سياق فكري مفرد إنما انبثقت عن باقة من التيارات الفكرية والفلسفية المتباينة. ومن هنا جاء هذا البحث "مقدمة" تضع الخطوط الأساس التي من شأنها أن تحقق كليتها المرجوة إذا انضافت إليها جهود أخرى متممة.
إن تجربة البحث في هذا الموضوع لم تكن مبتغى هينا، إذ إن صعوبة استيعاب نظرية التلقي بإشكالياتها المنهجية والفكرية المستعصية وما تتطلبه من تنوع معرفي زادت العناء، فليس من الهين أن ننتقل من الفكرة في تركيبتها النظرية إلى تطبيقها على النص الأدبي ولكن التحلي بالعزم والإصرار والأمل دفعني إلى تذليل الصعاب وبذل ما أتيت به من جهد ومعرفة متواضعين لإتمام هذا العمل.
ختاما، إذا كان لا بد من شكر فهو لأستاذي الكريم إسماعيل إسماعيلي علوي الذي يعزى له الفضل الأكبر في إنجازِ هذه الأطروحة، فقد كان نعم الأستاذ الأخ، فله جزيلُ الشكرِ والامتنانِ وصادق العرفان، وأشكره كذلك على تحمله مشاق متابعة هذه الأطروحة عبر مراحلها، وعلى حرصه الشديد على أن ينال البحث أهدافه المرجوة، كما أشكره على توجيهاته وملاحظاته التي كان لها الأثر الإيجابي في البحث، فأسأل الله تعالى أن يجازيه عني خير الجزاء ويبقيه ذُخرا لطالبي العلم والمعرفة، ويبارك له في صحته وذويه. كما أتوجه بكل عبارات الشكر والامتنان إلى ابني لؤي وأمجد وجميع أفراد أسرتي خصوصا منهم أولئك الذين شهدوا بدايات هذا البحث ولم يمهلهم القدر حتى يشهدوا اكتمال هذا العمل. أيضا أتوجه بشكري الجزيل لكل الأصدقاء الذين أسهموا في توجيه هذا البحث وإرشاد صاحبه.
وإذا كنت وفقت فيما سعيت إليه، فبفضل الله أولا، ثم بتوجيهات أستاذي المشرف، وإن كان غير ذلك، فمن جهلي وقلة علمي، ومن الله تعالى الهداية والتوفيق. أخيرا، لا بأس من الاعتراف بأنني في تجربتي مع هذا البحث صرت أشبه بالشخص الذي تحدث عنه الأصفهاني حين قال: "إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه، إلا وقال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر وهو يدل على استيلاء النقص في جملة البشر".
والحمد لله الذي تتم بنعمه الصالحات، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.