كتاب "الطب النبوي" ليس للذهبي

د. عبد الحكيم الأنيس

كتاب "الطب النبوي"

ليس للذهبي

د. عبد الحكيم الأنيس

كبير باحثين أول بدائرة الشؤون الإسلامية بدبي

من الأمور المهمة في تاريخ العلم التثبتُ التام من نسبة المؤلفات إلى مؤلفيها، وتحقيق القول في ذلك ، لما ينبني على هذا من مسائل جليلة ، منها

نسبة الفضل إلى أهله.

والمعرفة الحقة بتطور التأليف في كل فن

والتقويم الصحيح لمؤلف الكتاب

وعدم الوقوع في الوهم والالتباس في نسبة الآراء والأقوال.

والخروج من الحيرة الكبيرة التي تسببها نسبة كتب إلى غير مؤلفيها إذا كان فيها ما لا ينسجم مع شخصية المؤلف المنسوبة إليه .

 ومن هنا تأتي أهمية هذه الدراسة التي تتناول كتاب "الطب النبوي" الذي نُسب إلى الإمام الذهبي ، والى خمسةِ مؤلفين آخرين عاشوا مابين القرن السادس الهجري إلى القرن العاشر، فمَن هو مؤلف هذا الكتاب مِن بينهم ؟

 وقبل الدخول في الجواب أود أن أحكي قصتي مع هذا الكتاب ، وهي باختصارٍ: أنني في سنة 1408 – 1988م اقتنيت كتاباً كُتِبَ على غلافه "الطب في الكتاب والسنة " للإمام موفق الدين عبد اللطيف البغدادي ، وحين طالعته اكتشفت أن هذه النسبة مزورة ، وذلك أن المؤلف ينقل في الكتاب عن عبد اللطيف البغدادي في عدة مواضع ، بل فيه نقول عن علماء وُلدوا بعد وفاة البغدادي –هذا غير الأخطاء الكثيرة التي وقعت فيه –

 ثم اكتشفتُ أن هذا الكتاب هو نفس كتاب "الطب النبوي" المطبوع منسوباً إلى الذهبي ،وكتبت في ذلك مقالاً نشرته جريدةُ الاتحاد في بغداد بعددها (107) الصادر في 1651409هـ - 23 11 1989 ذكرت فيه هذا وقلت : "فهل يُعد هذا اكتشافاً للمؤلف الحقيقي ؟ هذا مايحتاج إلى دراسةٍ أخرى فهناك أكثر من مؤشر شك في نسبته إلى الذهبي أيضاً "

 ومرت الأيام وأنا أتابع هذا الموضوع ، وقدّر الله لي أن أطالع كتاب "الجوهر المنضد في طبقات متأخري أصحاب أحمد " للإمام يوسف بن الحسن بن عبد الهادي المعروف بابن المبرد (840- 909 هـ) فرأيته ترجم لعالمٍ اسمُهُ داود المتطبب وقال عنه : "كان نصرانياً ثم أسلم على يد الشيخ ابن تيمية ، وبرع وصنف كتاب "الطب النبوي " وهو كتاب نافع، فيه علاجات ومفردات نبوية، وحكى فيه نصوصاً عن أحمد ، وكل ماذكر فيه من الطب مركب على قاعدة مذهب أحمد ، وذكر في آخره فصلاً في التشريح ، ولم أطلع على وقت وفاته ".

 وأحال محقق الكتاب الدكتور عبد الرحمن العثيمين في الحاشية على "المعجم المختص بالمحدثين " للذهبي فرجعت إليه فرأيت الآتي :

 " داود بن أبي الفرج ، الشيخ العالم الدمنهوري الدمشقي الطبيب . أسلم سنة إحدى وسبع مئة . وحفظ القرآن وتفقه وتعبد وسمع من جماعة، ونسخ صحيح البخاري وأتقنه ، ونسخ كتباً وأوقفها ، وارتزق بالمعالجة ، وكان تقياً مخلصاً ، توفي سنة سبع وثلاثين وسبع مئة عن أربع وستين سنة "

 وترجم له المؤرخ المحدث علم الدين البرزالي فقال: "وفي ليلة الاثنين خامس ربيع الآخر توفي الشيخ الصالح الفاضل جمال الدين داود بن أبي الفرج بن أبي الحسين بن عمران الطبيب ، ودفن بمقبرة باب الصغير . وكان رجلاً مباركاً أسلم إسلاماً جيداً ، وفارق أهله وأقاربه وجفاهم في الله عز وجل ، وأقبل على الاشتغال بالعلم والنسخ والعبادة ، ولم يزل عن ذلك إلى أن مات . ومولده في سنة أربع وستين وست مئة ، وسمع صحيح البخاري ونسخ بخطه ، وكتب الجمع بين الصحيحين وغير ذلك ، رحمه الله وإيانا"

 نقل هذه الترجمة ابنُ الجرزي في تاريخ حوادث الزمان وأنبائه ووفيات الأكابر والأعيان من أبنائه.

 أقول : والمعلومات الواردة عن الكتاب "الطب النبوي" وعن هذا العالم الصالح تنطبق تمامَ الانطباق على الكتاب المنسوب إلى الذهبي ، فأسلوب الكتاب أسلوب طبيبٍ لا محدِّث ناقد كالذهبي ، ومؤلفه حنبليٌ لا شافعي ، والذهبي شافعي باتفاق .

 ثم إني لم أجد أحداً ممن ترجم للذهبي نسب إليه كتاباً في الطب النبوي، وقد رسخ هذا في نفسي ونفيتُ نسبة هذا الكتاب عن الذهبي وارتحتُ كثيراً من الإشكال الذي نشأ في نفسي حين قرأته ، ففي الكتاب أحاديث ضعيفة وموضوعة لايمكن للذهبي أن يوردها ويسكت عليها فضلاً عن أن يحتج بها ، بل منها أحاديث حكم عليه بالضعف أو النكارة أو البطلان في كتبه كميزان الاعتدال.

 ونجد مؤلف الكتاب يقول في موضع منه :" قال ابن عباس : من اغتسل بماء مشمس فأصابه وضح فلا يلومن إلا نفسه " ثم يقول :"قال أهل العلم بالحديث : هذا حديث موضوع "

 فهو ينقل عن أهل العلم بالحديث , ولايمكن أن يكون هذا كلام الذهبي فهو من أهل الحديث الراسخين .

 وهذا غير تعابير كثيرة بعيدة كثيراً عن أسلوب الذهبي، وطرقِ أهل الحديث في ذكر الأحاديث والاستشهاد بها.

 ومن الشواهد على أن الاسلوب أسلوب طبيب قول المؤلف عن تحريم المعاشرة الزوجية في أثناء الحيض :" لأن هذا الدم هو دم فاسد فيضر بذكر الرجل ويقرحه , وقد رأيت ذلك " وليس للإمام الذهبي صلة بهذه الأمور .

 ثم إن مؤلف الكتاب يقول :" وقد سألني بعض الأخوان أن أذكر له شيئاً من التشريح , وكيف يصل الغذاء إلى الأعضاء فأجبت سؤاله " ولاصلة للذهبي بهذه المسائل أصلاً.

 وحَسَم َهذا الاجتهاد عثوري على نسختين من الكتاب كُتِبَ عليهما اسم المؤلف الحقيقي : واحدة من مصر، والأخرى من تركيا، وقد حصلت على مصورةٍ من النسخة المصرية وفيها على الغلاف :

" كتاب في الطب النبوي للشيخ الإمام العالم العلامة الشيخ داود بن أبي الفرج الحنبلي الدمشقي المتطبب.."

 ورأيت عبد اللطيف بن محمد رياضي زاده (ت :1078ه) كذلك قد نَسَبَ الكتاب إليه في كتابه " أسماء الكتب" فحمدتُ الله كثيراً على ماهداني إليه.

 أما العلماء الآخرون الذين نُسب إليهم هذا الكتاب فهم :

·  أبو الفرج ابن الجوزي (ت:597 هـ)

·  ابن قيم الجوزية (ت:751هـ)

·  جلال الدين السيوطي (ت:911هـ)

ولا يمكن أن يكون لواحدٍ منهم أبداً.

 وما يُقال عن نفي نسبته إلى موفق الدين البغدادي يُقال في نفي نسبته عن ابن الجوزي .

 ونسبته إلى ابن القيم جاءت بخطٍ حديث كما في نسخة المكتبة الظاهرية .

 ونسبته إلى السيوطي كما جاء في كشف الظنون خطأ قطعاً لأن المؤلف من أهل القرن الثامن بيقين إذ يذكر أربعة شيوخ له توفوا في ذلك القرن وهم : إبراهيم الرقي (ت704هـ) ، وعماد الدين الواسطي (ت711هـ) ، وابن تيمية (ت728هـ) ، والمزي (ت 742هـ) .

 هذه خلاصةُ رحلةٍ امتدت سنوات مع هذا الكتاب ، والحمد لله على توفيقه في الوصول إلى حقيقةٍ يطمئن إليها القلب وتضع حداً لهذا الاضطراب واللبس اللذين أحاطا بالكتاب منذ مئات السنين ابتداء من سنة 808هـ .

 وقد يُسأل : كيف حصل هذا اللبس ؟

 فأقول : لعل الذهبي كَتَبَ نسخةً منه بخطه فظُن الكتابُ له ، أو لعل أحداً رأى في آخر الكتاب فصلاً في السماع نَقل فيه المؤلفُ عن الذهبي بقوله :"قال الشيخ الإمام العالم المحدث الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي في مسئلته في السماع " وفي آخره تم كلام ابن الذهبي - كما في نسخةٍ- فظن الكتاب للذهبي . والله أعلم.

 هذا, وقد اغترَّ بهذه النسبة المزورة ابنُ طولون (ت:953هـ) في كتابه " المنهل الروي في الطب النبوي " فنقل منه على أنه للذهبي, وهذا جانبُ ضعفٍ في هذا الكتاب.

 ولقد طبع الكتاب منسوباً إلى الذهبي طبعات كثيرة منذ عام 1870م إلى اليوم, وآن أن يُطبع منسوباً إلى مؤلفه الحقيقي داود ابن أبي الفرج الدمشقي , وآن أن تُصحح نظرتنا إلى الذهبي بدفع التساؤل الكبير الذي يثيره ماوَرَد فيه من جوانب قصور.