ذاكرة مورقة في خريف العمر

ذاكرة مورقة في خريف العمر

قراءة في رواية ظلام النهار للكاتب جميل السلحوت

جميل السلحوت

[email protected]

نسب أديب حسين

كأني بالكاتب جميل السحوت يشرف من بيته في جبل المكبر على مدينته القدس بأطرافها المترامية، يستعيد ذاكرته يرصد أبطاله في تحركاتهم بين جبل المكبر ، سلوان ، البلدة القديمة ، طلعة الدكان  ويرويها لنا في رواية ظلام النهار، التي صدرت في طبعتها الاولى بداية هذا الشهر تشرين الاول2010 عن دار الجندي للطباعة والنشر والتوزيع، في 176 صفحة من القطع المتوسط.

تتناول الرواية حقبة أواسط الخمسينات من القرن المنصرم وحتى عام 1963، ويلتفت الكاتب ليرصد حياة من عاشوا جنوبي شرقي مدينة القدس تحديدًا في منطقة السواحرة في جبل المكبر.

الرواية واقعية بالتفاصيل التي تناولها الكاتب ودقة الوصف فيها للحدث وتحديد المكان، فهو يرصد جوانب عدة من حياة السكان اليومية ومناسباتهم كالاعراس، الحصاد، المرض، المشاحنات، المصالحة.. الخ. 

تبدأ الرواية بمشهد من ذاكرة الكاتب بمشهد عايشه، فيتذكر المس كنيون تلك العجوز الانكليزية التي أتت لتنقب في قرية سلوان فقد انطلقت الحفريات من زاوية سور القدس القديمة من الجنوب الشرقي حيث مقبرة باب الرحمة التاريخية. ومما عُرف عن المنقبة كاتلين كنيون التي أتت تبحث عن آثارٍ تثبت صحة التوراة ، أنها توصلت الى نتائج علمية لم ترض سلطة الاحتلال، فمُنعت من التنقيب في فلسطين ودخول الاراضي المحتلة خلال السنوات التي سبقت وفاتها عام 1978 وأصدرت نتاج بحثها في كتاب عنونته ( القدس/ حفريات 3000 سنة)ـ صدر عام 1967.

تدور معظم أحداث الرواية حول فتى أكتع يُدعى خليل.

بطل الرواية (خليل) من مواليد 1949 ، ابن الحاج منصور الملقب بأبي كامل من زوجته الثانية فاطمة، وهو ابنهما الثاني بعد شقيقه محمد. يتعرض خليل في صغره الى حادثة أثناء عرس أخيه كامل، فتتورم يده اليمنى وتؤلمه اليسرى، فيرسل أبوه بطلب الحاج عبد الرؤوف الذي يشخص حالة الطفل على أنها كسر في الذراع اليسرى ورضوض في اليد اليمنى. بعد مدة راحت تنبعث روائح تعفن من اليد اليسرى ويخرج منها صديد أسود ، ناهيك عن آلام عينيه واللجوء الى  الفتاحة أم صابر التي قدمت وصفتها برش براز حرذون في عينيه ليشفى، وعندما راحت حالته تسوء أخذه أخوه كامل الى الطبيب ومن ثم الى مستشفى الهوسبيس، وهناك تبين أن يد خليل اليسرى لم تكن مكسورة وانما كان بها جروح خارجية وقد تمكنت منها الغرغرينا ويجب قطعها في أقرب وقت حفاظًا على حياته. هكذا اصبح خليل أكتعًا بعد أن قُطعت يده من الكتف بسبب العلاج الخاطئ والتمسك بمعتقدات خاطئة.

يظهر مدى ذكاء خليل حين راح يتابع دروس صف الأول من على النافذة وهو لم يبلغ السادسة بعد ، اذ لم يتم استقبال من هم دون السابعة في الصف، أجاد الاجابة في دروس اللغة العربية والحساب دون إذن، لم يسمح له المعلم بدخول الصف حتى منتصف تشرين الثاني ، بعد أن أشفق عليه من المطر. وهنا لفت انتباهي وصف ملابس خليل ص104 (أمطرت السماء وخليل يلبس (البيجاما) التي اشتروها له وهو في المستشفى تلك (البيجاما) التي أصبحت رثة، وتغطيها رقع من أقمشة بالية متعددة الألوان) يظهر خليل فتى فقير في هذه الصورة لا يملك والداه شروى نقير. رغم أننا نعلم سابقًا ان أباه منصور لا يتورع عن ذبح الذبائح للضيوف، ودفع الكثير يوم عرس ابنه كامل مثل مبلغ خمسة دنانير ليُرضي خال العروس، أفلا يملك اثني عشر قرشًا لشراء (بيجاما) جديدة لخليل؟ أم أنه ليس على استعداد للصرف على أبنائه ولو مبلغ صغير، في حين يبذل الغالي والرخيص في سبيل الحفاظ على هيبته واظهار جوده وكرمه للناس، وهنا يظهر مظهر آخر للتخلف.

تفوق خليل على دفعته ليكون الاول بينهم رغم أنه أصغرهم سنًا، يتجلى كذلك خيال خليل الخصب ص33  في استلقائه مع اخوته أمام الخيمة في موسم الحصاد فيرى خريطة العالم على وجه القمر، ثم يرى وجه رجل وفوق أرنبة أنف القمر ترتسم مدينة القدس القديمة بجلالها وبهائها.

رغم اعاقة خليل الجسدية كان يظهر مميزًا في كثيرٍ من المجالات والمواقف التي يتواجد فيها كاصطياد الارانب، وقيادة البغل على البيدر لدرس القمح ، وكان من أوائل من تعلموا السباحة. وعندما أنهى صف الاعدادي الاول اختاره المستر ستيفن مساعد المس كنيون كي يعمل معه في التنقيب عن الاثار في سلوان، لقي معاملة خاصة منه اذ أعطاه (مسطرين) كأداه للعمل والتي كان في العادة من اختصاص الاجانب، وتقاضى خليل على عمله 35 قرشًا في حين تقاضى أقرانه خمسة وعشرين. في العام التالي في عطلة الصيف تعرف خليل على براون ابن مستر ستيفن وازدادت صداقتهما ليعتبر كل واحدٍ منهما أخًا له . وبعد سفر براون الى لندن بفترة أرسل الى خليل يدعوه للقدوم لزيارته ، وبعد نقاشات طويلة إقتنع والد خليل بالامر وسمح له بالسفر. هناك في لندن يرى خليل بيئة أخرى مختلفة وحياة مغايرة من ناحية المفاهيم الاجتماعية والعادات فالرجال مختلفون والنساء وحتى الكلاب. هناك تتقرب منه ام براون السيدة انطوانيت وتمنحه عطفها وحنانها وتعرضه على طبيب ليتم تركيب يد اصطناعية له. ويصاحب فتاة انكليزية تُعجب به كونه بِكرًا، يقيم علاقة  معها رغم خشيته مما قد يترتب عن ذلك ، ويُدهش حين يجد علاقته مشروعة أمام عائلته الجديدة وعائلة الفتاة. يعود بعد مدة شهر الى والديه محملا بالهدايا والاموال ليصبح مفخرتهما.

يظهر خليل كالشعلة وسط ظلام التخلف الذي يغلف عقلية البيئة التي نشأ فيها، ذاك التخلف الذي أفقده ذراعه. وهنا يكون ملجؤه ذاك الشيخ الابيض الذي يظهر في حلمه، فقد صحبه الشيخ بعد تفوقه في صف الاول الى جامعة في الحلم وقال له أن بامكانه اختيار أي مكتب ليعمل فيه ، فرَعي الأغنام وفلاحة الأرض ليست له، وهنا كان المؤشر الأول لخليل أن حياته لن تكون كحياة الاخرين. كذلك ظهر له حين وقع بالمآزق يوم عانى من آلام يديه ، وفي ليلته الاولى في لندن إذ شعر بالغربة.

كامل : الأبن الاكبر للحاج منصور من زوجته الاولى حلوة. تزوج وهو في العشرين من عمره من سعاد ابنة أبي حمدان، ومن خلال عرسه وسرد الكاتب للتفاصيل، يطلعنا الكاتب على عادات تلك المناطق في الأعراس بالتفصيل.

يظهر كامل في معظم الاحيان بموقف الداعم لخليل. شجاع ، جريء في ابداء معارضته لأبيه الذي يدعم مظاهر التخلف، فوجدناه يقف الى جانب خليل عندما أرسل أخوه براون يدعوه لزيارته، فأقنع والده بالسماح لخليل بالسفر وذهب به الى المطار في عمان. وعندما مرض خليل حاول كامل أن يقنع أباه بوجوب عرض الطفل على الطبيب وعدم تسليمه للحاج عبد الرؤوف، لكن الاب رفض. كذلك حاول معارضة تقديم وصفة أم صابر لعلاج عيني خليل لكنه أيضًا قوبل بالمعارضة. وعندما تردت حال خليل كثيرًا ص91 (قال الوالد : هذا أمر طبيعي الايد متورمة نتيجة الكسر، وبعد كم يوم بتشفى وبتعود أحسن من قبل، وحمار العينين بشارة خير معناه إنه الدوا بوخذ مفعوله، غير ان كامل قال: حالة الولد تدهورت كثير وما تحتمل التأجيل، لازم نوخذه فورًا للطبيب.

بعد نقاش صاخب قرروا أخذه الى الطبيب.)

ومن ثم تصدى للحاج عبد الرؤوف الذي أتى بيتهم لعيادة خليل، وكان يذكره بفعلته كلما سنحت له الفرصة. حاول كامل معارضة والده في تزويج أخته زينب وهي بعد في الثالثه عشر من عمرها، الا أن محاولته باءت بالفشل، ووجدناه في النهاية وبعد أن تجفل أخته من العريس وتصاب بصدمة نفسية يتحدى والده الذي أحضر فتاحة لعلاج الفتاة ، وطلبت منهم اعلامها إن فشل العلاج، فرفض واصطحب أخته وأمها الى المستشفى.

فاطمة: أم خليل وزوجة منصور الثانية. امرأة بسيطة، طيبة، تمثل حال معظم الزوجات في تلك الفترة. ظلمُ والدها وطباعه القاسية هما من دفعاها للزواج من منصور لتكون الزوجة الثانية. تظهر مغلوبة على أمرها حين يمرض خليل، فلا تملك أن تعارض زوجها الذي رفض أخذ ابنها الى الطبيب، تسهر  الليل مؤرقة حزينة مقابل ابنها تبكيه، تحاول التخفيف عن آلامه بعرضه على الحاجة ام صابر فقد كان هذا مقبولا على زوجها، لكنها تزيد آلامه آلامًا. يظهر أيضًا مدى ضعف فاطمة عند ازماع زوجها تزويج ابنتها زنيب وهي بعد طفلة ، فتحاول التخفيف من معاناتها بقولها: " البنات خلقهن ربنا للجيزة وهذا نصيبك.. اذا ما تجوزت اليوم بتتجوزي بكره.. والبنات ما بقدرن يقولن لا اذا أبوهن وافق.. امسحي دموعك يمّه قبل ما يشوفك أبوك.. اذا شافك رايح يقلب نهارنا ليل."

المرأة في الرواية:

تظهر المرأة في الرواية مغلوبة على أمرها، مُسيّرة خلف رجلها، وفي مكانة متدنية كثيرًا عنه ويتجلى هذا في مواقع كثيرة من الرواية:

ـ المرأة لا تدخل المطاعم إلا يوم كسوة  زواجها، تحمل الاغراض وتمضي سائرة على القدمين خلف الرجل الذي يعتلي الحمار أو البغل.

ـ تظهر الفتاة عند الزواج كسلعة في مفهوم والد العروس كما يظهر في ص59 عند زواج سعاد من كامل فتقول أمها: ( ـ خلينا نفرح بعرس سعاد يا أبو حمدان، فقال وتكشيرة تعلو وجهه:

ـ العرس لأهله مش إلنا " هم اشتروا واحنا بعنا" وفي الزواج الرابح هو المشتري والبايع خسران دايمًا).

ـ في الاحتفال بالعرس تسهر النساء طيلة الليل وهي تعمل على اعداد الطعام وفي النهاية تكون اللحوم من نصيب الرجال ولا يطالهن الا القليل.

ـ الزوجة لا تجرأ على معارضة زوجها كما تجلى في شخصية فاطمة، والفتاة لا تجرؤ على معارضة والدها كما رأينا في شخصية زينب.

ـ النساء اللواتي ظهرن بموقع الاهتمام والتقدير الكبير من قبل الرجال اتجاهن كانتا الحاجة ام صابر والفتاحة أم خالد.

مظاهر التخلف:

ـ الايمان والتشبث بمعتقدات ببركات الشيوخ والفتاحات ، واللجوء اليهم في العلاج والاستعداد لبذل المبالغ الطائلة في سبيلهم، على دفع مبالغ قليلة نسبيًا للعلاج عند الاطباء.

ـ التعصب القبلي، ونشوب المشاجرات التي تؤدي الى اصابات كثيرة وتكون اسبابها تافهة كالعراك الذي نشب بين سكان سلوان والسواحرة.

ـ تطليق الزوجات لاسباب تافهة، بسبب عدم تلبية دعوة عشاء ، بعد أن يكون الزوج قد حلف على مدعوه بالحضور وإن لم يأت سيطلق زوجته.

ـ تزويج البنات في سنٍ مبكر.

العنوان والاهداء :

إن التخلف الذي عايشه ويعيشه الكاتب يؤرقان مضجعه فيرى بهما الظلام الذي يذهب بالنهار، فقد كان التخلف سببًا لمشاكل عديدة ظهرت في الرواية.

الكاتب لا يقصي نفسه عن بيئته، ولا يكتب بهدف الاساءة الى وسط يعايشه، بل يكتب عن ألمه مما كان، ويكتب لأنه لا يريد لهذا الألم والظلام أن يستمر ويكون، فأتى بنموذج خليل وكامل اللذان يُعقد عليهما الأمل في سبيل الخروج من العتمة.

ويتجلى هدفه من الرواية في الاهداء:

{ الى الذين عملوا ولا يزالون يعملون على مقاومة العتمة.

والى الأجيال الصاعدة من أبناء شعبي على أمل أن لا تسقط الشعلة من أياديهم..}.

اللغة والاسلوب:

اللغة سلسة ، دمجت بين الفصحى والعامية ، وقد تم توظيف اللغة العامية في الأماكن المناسبة، وقد خدمت النص . الرواية ممتعة مشوقة، انتهت بنهاية شبه مفتوحة لتمكن الكاتب من الاستمرار وكتابة جزءًا آخر لها.

ختامًا من يعرف الكاتب الشيخ جميل السلحوت شخصيًا  يستطيع أن يشعر به بين جمل الرواية، ويسمع صوته يرويها، ويرى روحه الفكاهية في عددٍ من المواقف في الرواية.

من الملفت للنظر أن هذه الرواية التي تدور أحداثها في المناطق المحاذية لمدينة القدس القديمة، تطرقت الى الحياة الاجتماعية فقط دون التطرق الى الحالة السياسية، وهذا قلما نشهده في الكتابات عن القدس وضواحيها، وهنا نجد توجهًا جديدًا للكاتب في الكتابة عن جوانب أخرى من الحياة في المنطقة.

أخيرًا أدعو الله أن يمدَّ كاتبنا العزيز بالعمر المديد ويقدم لنا المزيد من الابداع، ويمتعنا بسلسلة تكون ظلام النهار الحلقة الاولى فيها.

* ورقة مقدمة لندوة اليوم السابع ـ المسرح الوطني الفلسطيني ـ القدس 21102010