رحلةٌ إلى عنوانٍ مفقودٍ

بينَ الظّلِّ والتّصعيدِ الشّعريّ

حسين الهاشمي

ينتمي النّصُّ الحديثُ؛ شِعريًّا، إلى أبعادٍ لغويّةٍ وشكليّةٍ خاصّةٍ به.. انتماءٌ يُعلنُ عن شغفِهِ والتصاقِهِ الحميمِ بدلالاتٍ شديدةِ الحساسيّة في التقاطِ الصّورِ أو المفردات، ضمنَ المُكوّن الحسّيِّ المرئيّ أو المتخيّل، ولكن يتمُّ إرسالُها في دفق إشاريٍّ أو دلاليٍّ معيّن، وبثُّها ضمنَ نسيجٍ خاصّ، لا يخلو مِن تمرّدِهِ وانفلاتِهِ المُهمِّ والمؤدّي إلى اتّجاهِهِ المعنويِّ والجَماليِّ الخاصّ.

في نصٍّ للشّاعرة ــ آمال عوّاد رضوان ــ والموسوم (كم موجعٌ ألاّ تكوني أنا)، المنشور في صفحاتِ جريدةِ الزّمانِ الدّوليّة، تواصلُ الشّاعرةُ مسيرتَها عبْرَ عملِها الشّعريِّ الجديد (رحلةٌ إلى عنوانٍ مفقود)؛ نلتمسُ هذا الشّغفَ والالتصاقَ بالمتخيّل، ولكن بموجّهاتٍ بلاغيّةٍ تستنفرُ حسّيّةَ الصّورةِ إلى مدياتٍ إشاريّةٍ ومعنويّةٍ خاصّة، تقترنُ بمهارةِ تطويعِ هذهِ البلاغةِ وتشكيلِها، والتّلاعبِ بها ضمنَ عوالم منفتحةٍ ومرنة، لكنّها محسوبةٌ أيضًا، ضمنَ قصديّةِ النّصّ وثوابتِهِ المتّجهةِ إلى غاياتِهِ الفنّيّةِ والجماليّةِ بكلِّ انسياب:

أُنُوثَةً طَاغِيَةً

رَاقَصْتُكِ عَلَي هَفِيفِ قُبْلَةٍ

وَفِي رِحَابِ جَنَّتِكِ الْمُتْرَفَةِ بِاعْتِكَافِكِ الأَثِيرِيِّ

غَزَلْتُ مَلاَمِحَ أَصْدَائِكِ بِحَرَائِرِ الْغُوَايَةِ

أيَا سَاحِرَةَ أَشْجَانِي

كَيْفَ تَلاَشَيْتُ.. قَبْلَ أَنْ تَنْدَهَنِي مَلاَئِكَةُ الرُّوحِ؟

النّصُّ يتّجهُ إذن دونَ عبثٍ نحوَ التّرسيم الإشاريِّ والقصديّ، برغم (عبثيّتِهِ) الشّرعيّة والمميّزةِ في تشكيلِ المستوى البلاغيِّ في النّصّ، والمستوى التّخيّليّ للصّور المبتكَرة، وفقَ إيقاعٍ خاصٍّ يعملُ على دمجِ المستوى الصّوتيِّ للمفردة؛ بالمستوى الإشاريّ، وإطلاقِهِ وفقَ معياريّةٍ تركيبيّةٍ شفيفةٍ ومتساوقةٍ مع مجرياتِ الأداءِ النّصّيّ، كما نرى:

كَمْ دَارَتْ بِيَ السَّمَاءُ

أيَا لَيْلَ حُلُمِي الْمَنْسِيِّ

وَفِي عَرَبَةٍ مِنْ نَار

عَلَتْ بِكِ طَاقَاتُ عُمْرِي نُجُومَ دُوَار.

كَيْفَ

تَ حُ طِّ ي نَ

بِي عَلَي شَفَةِ أُكْذُوبَة؟

آهٍ كَم مُوجِعٌ أَلاَّ تَكُونِي أَنَا!

ولعلَّ ما يهمُّ في هذا التّشكيلِ البلاغيِّ، الصّوريّ والتّخيّليّ؛ هو قدرتُهُ على التّصعيدِ دونَ أن يثيرَ الانتباهَ.. لماذا؟

ربّما بسبب، أنّ سطحَ هذا النّصِّ يوهمُ المتلقّي المُتعجّلِ وغيرِ المنتبه؛ بإيقاعِ أدائِهِ الوجدانيِّ والغنائيِّ الرّتيبِ والمكرورِ في تشكيلاتِهِ الحسّيّةِ والبلاغيّة، دونَ اتّجاهٍ تصاعديٍّ مُتنامٍ في خطِّ سيرِهِ الدّورانيّ هذا.. لكنّ الأمرَ غيرُ ذلك تمامًا، حينَ نرافقُ أداءَ النّصّ برويّةٍ وعناية، كي نرى في تشكيلاتِهِ المرسومةِ والمُوظّفةِ ما يوحي بشعريّةِ التّزاوجِ الخفيِّ والمُضمَر، بينَ إيقاعِ البلاغةِ اللّغويّةِ وإيقاعِ التّصعيدِ:

أَيَّتُهَا الْمِيلاَدُ الْمُضِيءُ بِجُنُونِي

أَفْعِمِينِي بمَجَامرِ جَمَالِكِ

كَيْ لاَ أَؤُولَ إِلَى رَمَاد

هَا تَصَوُّفِي فِي أَشُدِّهِ

يُورِقُ سَمَائِيَ بِبَتْلاَتِ نَكْهَتِكِ

وَأَنَا.. أَثْمَلُ تَمَامًا حِينَ تُزَقْزقِين!

ومِن الأهمّيّةِ والضّرورةِ الشّعريّة، أن يحصلَ هذا الاتّفاقُ والمُسايرةُ أو التّزاوجُ في مستوى الاشتغال، بينَ مستوييْن تبدو العلاقةُ بينهما في الغالبِ وكأنّها على طرفَيْ نقيض، لاسيّما وأنّ الاشتغالَ على المستوى البلاغيِّ الشّكليّ يعطي انطباعًا أوّليًّا، على أنّهُ انشغالٌ في الدّورانِ أو التّكرارِ، ضمنَ مساحةٍ فضفاضةٍ و منشغلةٍ في تعدّديةِ التّشبيه، ولكن بألوانٍ متباينةٍ، غير مؤدّيةٍ إلى تمركزٍ وانسيابٍ وتماسكٍ نصّيّ يوصلُ بينَ التّمهيدِ والختام.. غيرَ أنّ النّصّ عند آمال رضوان؛ يكسرُ هذا الإيهامَ ليفاجئَ المتلقّي النّابهِ، بروعةِ التّلازم والتّماسكِ ومِن ثمّ التّصعيد، ولكن مِن دونِ جلبةٍ واضحةٍ وافتعالٍ، بل مِن خلالِ مرورٍ شعريٍّ رشيقٍ نحوَ مبتغاهُ الفنّيُّ والجماليُّ الأنيق:

رَأفَةً بِي

أَيْقِظِينِي مِنْ حُلُمٍ تَغُطِّينَ فِي شَهْدِهِ

لـِ أَ نْ سِ جَ

مِنْ تَوَهُّجِ عَيْنَيْكِ الْعَسَلِيَّتَيْنِ

شُمُـوووووووسًا

يَااااااااااانِعَةً بِكِ

أَو أَقْمَارًا

تَغْسِلُ الْعَتْمَةَ عَنْ رمْشِ حُلُمٍ بِحَجْمِ دَمْعَة!

ولأنّ الشّاعرةَ ملتصقةٌ ومنغمسةٌ تمامًا ــ كما يبدو ــ في البيئةِ والمكان، فإنّ للنّصِّ ميولاً مهمّةً في الإيحاء، بأنّه يروي أو يسردُ بطريقةٍ مبتكرةٍ ومدمَجة السّيرةَ المكانيّةَ بالسّيرةِ الذّاتيّة، ولكن وفقَ صوتٍ منولوجيٍّ مقترنٍ بصوتِ الآخر ــ المكان ــ وإيقاعِهِ المؤثّرِ في تشكيلِ الصّورةِ الشّعريّةِ، ووفقَ الأبعادِ الإشاريّةِ والحسّيّةِ التي تحيا ضمنَ النّسيجِ البلاغيِّ والنّصّيِّ المتساوقيْن إلى حدٍّ بارعٍ ومهمّ، إضافةً إلى الانتقالاتِ الدّاخليّةِ للنّصِّ وحركتِهِ المؤدّيةِ لمرورِ هذا الصّوت والشّكل، لاسيّما في الانتقالاتِ المقطعيّةِ وفي التّعدّديّةِ والتّكرار، أو التّنوّع الأداتيِّ في التقاطِ مفرداتِ التّوصيل، وربْطِها في منظومةٍ متجانسةٍ ضمنَ المناخ العامّ لهذهِ البيئةِ، أو - المكان الحاوي - للأشياء، وطقوس الذّات في صوتِها المنولوجيّ والسّيريّ، وهي تروي ما تراهُ وما لا تراه!

:

لاَ تَتْرُكِينِي أُعَانِي خُوَائِي

مُنذُ فَقَدْتُ عَمَامَةَ وَلاَئِكِ

مَا تَنَعَّمَتْ بِيعَتِي بِاخْضِرَارِكِ الْخَالِدِ

وَمَا فَتِئْتُ أَسْتَسْقِي دُمُوعَ سَمَاوَاتِكِ الْبِكْر

وفِي قَطْرَةٍ تَتَنَدَّرُ بِهُطُولِكِ

يَصْدَحُ صَمْتِي الْعَارِمُ بكِ:

حِصَارُكِ تَلْوِيحَةُ هَدِيلِي

كَانْتْ قُطُوفُهُ أَحْضُانُ لَيْلِكِ

وَمَا انْفَكَّتْ تُذْكِيهِ ذَاكِرَتِي الزّاهِيَةُ بِأَهَازِيجِ اللَّيْلَكِ

أَنَّي تُفْسِحِينَ لِيَ الْهُرُوبَ إِلَيْكِ

أَوِ الْغَرَقَ

فِي ضَوْئِكِ الْعَصِيِّ عَلَي كُلِّ غِيَاب؟

إذن؛ هناكَ علائقُ مهمّةٌ بينَ الاشتغالِ الشّكليِّ لدى الشّاعرةِ والاشتغالِ المضمونيِّ أو مدلولاتِهِ القيميّةِ والمعنويّة، مصدرُهُ أو مبعثُهُ - البيئة - أو المكان، وهو اختبارٌ مهمٌّ جدًّا لاكتشافِ أصالةِ النّصّ مِن عدمِهِ، أو اكتشافِ طبيعةِ التّوافقِ والتّلاحمِ في الأداءِ بين المناخ العامّ والمناخ الخاصّ للشّاعرة، وهي تروي - بشعريّةٍ - بلاغةَ الإقامةِ في المكان - الأصل - والزّمان المتحرّر مِن ربقةِ اليقينِ في تلكَ الإقامة!

تلكَ هي مهمّةُ الشّعرِ ربّما، لأنّ النّصَّ وِفقَ طبيعتِهِ هذه؛ يعملُ على تشكيلِ تلكَ البلاغة الصّوريّة أو اللّغويّة، وكأنّها خارجةٌ مِن رحمِ الوهم دائمًا، أو الاحتمال الّذي مصدرُهُ رحمُ المكان، وكذلك الزّمان المتحرّر بولادتِهِ الاحتماليّة:

أَنْتِ مَنِ ارْتَشَفَتْكِ فَنَاجِينُ سُهْدِي

مَا أَسكرَنِي.. إِلاَّ رَشْفُكِ

وَمَا ارْتَوَي بُوَارُ سَجَائِرِي

إِلاَّ بِعَزْفِكِ الْمُعَتَّقِ بِأَفْوَاهِ شَيَاطِينِي!

مُذ بَذَرْتِ أَنْفَاسَكِ

بَعِيــــــــــــــــــــدًا

عَنْ خُضْرَةِ اشْتِعَالاتِي

غَدَوْتُ غَبَشَ آيَاتٍ تُتْقِنُ الْبُكَاءَ

تَجَنَّيْتُ عَلَيَّ فِي ارْتِدَادِي

فمَا أَنْبَانِي أَنَّي أَعُودُ مِنْ وَجَلي

وَمَا عُدْتُ بَعْدَكِ إلـهًـا.

أَتُرَاكِ

تَصْدُقِينَ فِي نَسْجِي غَفْلَةً تَؤُوبُني

لـِ تَ حِ ي ك ي نِي

وَهْمًا؟

هذهِ هي بعضُ إشاراتِ التوصيلِ - الحسّيّ والدّلاليّ - في آنٍ معًا، عبْرَ التّشكيلِ البلاغيِّ والصّوريّ ذي التّدليل والتّوجيهِ المُعبّرِ عن التصاقِ النّصّ برحْمِهِ المكانيِّ والزّمانيّ، وهي خاصّيّةٌ نجدُها في أعمالِ الشّاعرة – آمال - على الدّوام، مِن دون أن تُقحمَ المتلقّي بعيدًا عن حلميّةِ هذا الأداءِ وطراوةِ المفرداتِ في سبيلِها الرّوحيّ الشّعريّ، وهي تروي ذاكرةً حاضرةً وماضيةً ومؤجّلةً:

كَم غَفَرْتِ لِي زَلاَّتِ اهْتِزَازِي

وإلَى عُمْقِ أَنْفَاسِكِ

كنتِ تُعْلِينَنِي مِنْ سَقْطَتِي

رُحْمَاكِ

أَخْضِعِينِي لِتَجْرِبَتِكِ فَأَطْهُرُ مِنْ كُلِّ رِبْقَة!

فَجِّرِي مَاضِيًا كُنْتُهُ عَجُوزَكِ الْمُسْتَعَار

رَاعِيَ انْتِظَارَاتِكِ الْمُؤَجَّلَةِ بِفُوَّهَةِ مَغَارَتِي الْخَضْرَاء

أَحْرُسُ بِمَشَاعِلِي عَرَائِشَ كُرُومِكِ

حِينَ تتَسَلَّقُنِي دَوَالِي قَلْبِكِ الْبَرِّيَّة

وَتَتَعَرْبَشُنِي ذِكْرَاكِ الْمُقَدَّسَة!

إنّها لا تُصرّحُ في وجهتِها، كراويةٍ شعريّةٍ، ولا تُسطّحُ ركامَ الشّجنِ والألم والعاطفةِ المخبوءةِ تحتَ غطاءٍ مِن موجٍ عارم، بل تُقيمُ في ظلّ ذلك، وتوهمُ المتلقّي بنمطٍ مِنَ الغزلِ الوصفيّ الّذي يبدو مكشوفًا لأوّلِ وهلة، لكنّهُ نمطٌ مِن الأداءِ الصّوريّ والبلاغيّ المُتنعّم والمقيم في ظلالِهِ العجيبة، حينَ تقومُ بتنشيطِ المُكوّناتِ الشّكليّةِ الخاملةِ، حيثُ (الشّعرُ الّذي يقترحُ إعادةَ خلقِ اللّغة، وحيثُ الشّاعرُ الرّائي الّذي يجدُ نفسَهُ مشدودًا بينَ ضرورةِ التّصوّفِ والضّرورةِ الشّعريّةِ أو السّحريّةِ إن صحّ القول)

:

أَنَا الْمُحَصْرَمُ بِهَوَاكِ

مَنْ تَعَذَّرَ الْتِقَاطُهُ الْفَجُّ

لِمَ وَجَدْتُنِي مكدّسًا على رُفُوفِ نُضُوجِكِ؟

أَفْسِحِي لِي أَبْوَابَ جَنَّاتِكِ

اُفْرُطِي قُطُوفَ أَسَارِيرِي عَلَى أَطْبَاقِ بَرَاءَتِكِ

وَبِعَشْوَائِيَّةٍ لَذِيذَةٍ نُصِّينِي

أَبِّدِينِي دَهْشَةَ صَمْتٍ

تَعْبُرُنِي كَالرِّيحِ فَوْقَ وَشْوَشَةِ فُصُولِي

بِأَحْضَانِ سَحَابَةٍ مُتَنَكِّرَةٍ

خَصِّبِينِي بِخَفْقَةِ وَمْضِكِ

لأَتَرَاذَذَ "آمَالاً" تَتَلأْلأَ بِكِ!

ليسَ دائمًا يُخفقُ الشّاعر في التّكلّم عمّا يُحبّ، كما يريد - رولان بارت-  أن يُصوّرَ لنا حين يقول:

(إنّنا نفشلُ دومًا في التّكلّم عمّا نحبّ)، بل يمكنُ لذلكَ الحبّ أن يصوغَ قطعتَهُ الشّعريّةَ المتضمّخةَ باللاّيقين والاحتماليّة، وبشكلٍ احتفاليٍّ فوقَ سطحٍ مِنَ الشّجنِ المُضمَرِ بنداءاتِهِ الحسّيّةِ والرّوحيّة معًا، وبزهوٍ إنسانيٍّ يؤمنُ بالظّلّ، لأنّ (الأشجارَ لا تساوي نفسَها إلاّ بالظّلّ) كما يقول - نيتشة - والظّلالُ عندَ الشّاعرة آمال، شكلٌ ومحتوى، صوتٌ وإشارةٌ، إيقاعٌ وصورةٌ، وهي التّعويض - في المستوى الآخر-  عن كلِّ المفقوداتِ الّتي تنشدُها في رحلةِ الأوجاعِ والحنينِ والرّجفةِ والدّفءِ الشّاردِ، والأسى والآمال والأوهام واللّذّة والبراءة، كلّ ذلك وغيره في خضمِّ ذاكرةٍ متحرّكةٍ، تبدو وكأنّها رحلةٌ للتّصعيدِ الحسّيّ والرّوحيّ معًا، نحوَ مجاهلِ الذّاتِ عبْرَ الآخر وبالعكس، أو رحلةٌ إلي عنوانٍ مفقود.