قالت لنا القدس في ندوة اليوم السابع

قالت لنا القدس في ندوة اليوم السابع

جميل السلحوت

[email protected]

ناقشت ندوة اليوم السابع الدورية الأسبوعية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس كتاب"قالت لنا القدس" للأديب محمود شقير،والكتاب من منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية هذا العام 2010.

بدأ النقاش موسى أبو دويح فقال:

كتب الصديق العزيز محمود شقير –حفظه الله وهداه سواء السبيل- كتابه "قالت لنا القدس"، والذي صدرت طبعته الأولى عن وزارة الثقافة الفلسطينية / الهيئة العامة للكتاب سنة 2010 في مئتي صفحة من القطع المتوسط.

قسم الكاتب كتابه إلى أقسام ثلاثة: نصوص، يوميات، شهادات.

فالقسم الأول تمهيد حول القدس كما كانت وكما هي الآن، وشبابيك بناياتها القديمة على الأخص ومقاهيها وتبدلات شوارعها وهكذا، وجاءت في ثمانين صفحة. والقسم الثاني المدينة كما هي في المشهد اليومي، وهي يوميات كتبها الكاتب بدأت من يوم 22/4/1996 إلى يوم 9/9/2009 وهي ثمانية وتسعون نصا يوميا، جاءت في ثلاث وسبعين صفحة. والقسم الثالث سماه "المدينة كما هي في الشهادات" وجاءت في خمسة مواضيع هي: بيت السكاكيني وشتات العائلة ومفارقات الحصار ومن القدس إلى برلين وأنا والقدس والكتابة، وجاءت في تسع وعشرين صفحة.

الكتاب كله ابداع، وأروع الإبداع فيه عنوانه "قالت لنا القدس". القدس عند كاتبنا تقول وتشكو وتبكي وتندب حظها، وتلوم أهلها فلسطينيين وعربا ومسلمين، والقول هو قول الكاتب على لسان القدس، والكلام كلامه، والوصف وصفه، والكتابة كتابته. ولكنه أبدع كل الإبداع حين سماه "قالت لنا القدس". فقال: قالت لنا القدس، ولم يقل قالت لي القدس وهذا غاية في التواضع، وترك الأنا وحب الذات، والذوبان في الجماعة، والإعتراف بأن المجتمع هو المؤثر والفاعل، وليس الفرد. والمرء كثير بإخوانه.

والكتاب يؤرخ للقدس ويصفها -شوارعها وشبابيكها- وصفا دقيقا، وعلى الأخص قبل حرب حزيران وبعدها إلى هذه الأيام.

لغة الكتاب لغة سهلة سلسة، لا تكلف فيها ولا تعقيد، تنساب انسيابا رقيقا، وتمتاز بالرقة والبساطة، استمع إلى قوله: "في القدس شبابيك مقموعة لا ترى الشمس، ولا تراها الشمس" (صفحة 25). وقوله: " قد تنجح حينا ولا تنجح في كثير من الأحيان" (صفحة 29). ويصف هدم المحتلين للبيوت العربية بقوله: "تنهار الحيطان التي انبنت بالجهد والعرق، وتتكوم الشبابيك بما فيها من زجاج وألمنيوم وحديد فوق الركام" (صفحة 30). وقوله في وصف شبابيك القدس: "وقد تبدو منطوية على نفسها، كما لو أنها تتوقع مفاجآت غير سارة، ذات صباح أو ذات مساء" (صفحة 30). وغير هذا كثير.

اختلف مع الأستاذ والصديق الكاتب في نظرته إلى إمكانية العيش مع يهود والتصالح معهم، فهذا أمر لن يكون، ولا يريد له اليهود أبدا أن يكون، ولا يقبل يهودي بالعيش مع الآخر، وإن وجد من يقبل ذلك من يهود، فإنه يكون قد تخلى عن يهوديته. وصدق الله العظيم "أم لهم نصيب من الملك، فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً" (سورة النساء الآية 53). هذا هو وصف الله ليهود ووصف الله لا يتخلف.

فلا حل وسطاً لقضيتنا، ففلسطين كلها لنا أو لهم، ولن تكون لنا ولهم، فهم لا يقبلون بذلك، وإن قبله أمثال كاتبنا الكريم الذين يحسنون الظن ببعض يهود.

جاء في التمهيد الأول في الصفحة السادسة "وهم يجتازون درب الآلام نحو المكان الذي صلب فيه السيد المسيح". وكان الأجدر بالكاتب أن يقول: "نحو المكان الذي صلب فيه المصلوب". فالسيد المسيح لم يصلب ولم يقتل، بدليل قول الله سبحانه: "وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه، ما لهم به من علم إلا اتباع الظن، وما قتلوه يقينا" (الآية 157 من سورة النساء).

يكاد الكتاب يخلو من أي خطأ في اللغة، خلا كلمتين فيهما خطأ في الطباعة، صوبهما الكاتب بقلمه وذلك في النسخة التي أهدانيها، الأولى في الصفحة 61، والثانية في الصفحة 97. وخلو الكتب من الأخطاء نادر في هذه الأيام.

وأخيرا الكتاب وثيقة من الوثائق النادرة التي تناولت القدس وأرخت لها ووصفتها –شوارعها وأزقتها وبناياتها- وعلى الأخص الشبابيك فيها، يستحق القراءة وحري بكل فرد أن يقرأ هذا الكتاب وأن يقتنيه، وأن يرجع إليه كلما أراد أن يستزيد معلومات عن القدس.    

أما جميل السلحوت فقد قال:

سيرة الأمكنة تقولها لنا القدس

محمود شقير كاتب متميز بطريقة لافتة، كتب القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا، وقصة الاطفال، ورواية الفتيان، وأدب السيرة، وأدب الرحلات، والمقالة النقدية، والمقالة السياسية، والمسرحية، والمسلسلات التلفزيونية، وصدر له حوالي اربعين مؤلفا، ومحمود شقير أبرز كاتب قصة فلسطيني، ومن كتاب الصف الاول في القصة القصيرة على مستوى العالم العربي، ترجمت بعض اعماله الى اكثر من لغة اجنبية.

وآخر اصداراته هو:(قالت لنا القدس) وهو مجموعة(نصوص،يوميات وشهادات) عن القدس.صدرت طبعته الاولى عام2010 عن وزارة الثقافة الفلسطينية.

وأديبنا محمود شقير المولود عام 1941 في جبل المكبر أحد أحياء القدس، مسكون بمدينته، هو يعيش ويسكن فيها، لم يفارقها الا في سنوات ابعاده عن ارض الوطن ما بين 1975-1993 لكن المدينة وهمومها تسكنه، تسكن وجدانه وعقله وفكره ،" هي مدينتي الأولى، لم اعرف أية مدنية قبلها "ص5 وهي أيّ القدس" بالنسبة لي حاضنة الروح ومهد الطفولة والشباب، لا يكمن ان أتصور تجربتي في الحياة دون ان تكون القدس حاضرة فيها تمام الحضور"ص5 والقدس بالنسبة لأديبنا ليست مدينة كسائر المدن،"هي مدينتي التي تعلمت منها، وهي التي ألهمتني كثيرا مما كتبت، وما زالت تلهمني، لها المجد والحرية والخلاص " ص7

ويظهر ارتباط أديبنا بعروس المدائن، ومدى سطوتها عليه من خلال كتاباته فمجموعته القصصية الاولى "خبز الآخرين" كل احداثها وحكاياتها تدور في القدس ، لكن أديبنا ما ان عاد الى مدينته بعد ابعاد قسري دام ثمانية عشر عاما، حتى ابدع لنا رائعته " ظل اخر للمدينة " اعتبرها سيرة للمكان، في حين يراها آخرون- وانا منهم- انها كانت جانبا من سيرة المكان وجانبا من سيرة الكاتب نفسه في المدينة، جاءت على شكل روائي ابداعي .

ثم ما لبثت ان صدرت له في العام 2010 مجموعة قصص قصيرة جدا تحت عنوان " القدس وحدها هناك" فيها استلهام أدبي لتاريخ المدينة وحاضرها ، جاءت قصصا قصيرة جدا، منفصلة عن بعضها البعض يربطها خيط دقيق لتشكل رواية القدس، فهل جاء اصداره الجديد "قالت لنا القدس" ليشكل ثلاثية عن جوهرة المدائن؟ أم أنها جاءت عفو الخاطر؟ وفي تقديري ان الكاتب لم يخطط لكتابة ثلاثية عن القدس، لكن القدس التي تسكنه، تدفعه وتحرضه للكتابة عنها، خصوصا وانه معاصر لأحداث يرى فيها ضياع المكان، ويري كيف يجري سرقة تاريخ المدينة بعد ان سرقت جغرافيتها، فيؤرقه ذلك، فيجمع أفكاره ويحاول ان يكتب تاريخ المكان كشهادة على مرحلة يجري فيها تزوير ماضي المدينة وحاضرها، ومحاولة بناء مستقبل زائف لها.

ومحمود شقير في كتابه هذا " قالت لنا القدس " ابتعد عن الأسلوب الروائي والقصصي، ولجأ الى المقالة، وأسلوب المقالة هذا لا يخلو من التأريخ تماما مثلما لا يخلو من الأدب، وهذا ديدن الأدباء، فعندما يكتبون حتى المقالة السياسية فإنها لا تخلو من الأدب.

والباحث في تاريخ القدس الحديث لا يمكن ان يقفز عن دور المفكر والمربي المقدسي خليل السكاكيني، الذي عاش في القدس القديمة وخارج أسوارها ، وبني بيتا في حيّ القطمون في القدس الغربية، حيث كان يلتقي كبار الأدباء الفلسطينيين والعرب، ومن خلال يوميات السكاكيني يروي لنا الأديب شقير كيف" تشكلت الجمعيات الاسلامية المسيحية ... الى جانب تشكيل الأحزاب السياسية، وتأسست تجمعات للمرأة الفلسطينية الى جانب تأسيس النوادي واصدار الصحف والمجلات " ص15 وكانت الحياة عامرة في القدس منذ بدايات القرن العشرين حيث الحفلات الغنائية والعروض المسرحية ودور السينما.

ولا يغيب عن بال الكاتب دور المرأة المقدسية حتى انه خصص له عنوانا " في مديح بنات القدس " ويذكر اسماء بعض الناشطات منهن مثل : شهندا الدزدار رئيسة جمعية النساء العربيات في القدس، وزليخة الشهابي التي اصبحت فيما بعد رئيسة الاتحاد النسائي في القدس، وسلطانة عبده زوجة خليل السكاكيني، وفاطمة البديري أول مذيعة ومعدة برامج، والشهيدة رجاء أبو عماشة وحياة المحتسب، ولا أعلم كيف غاب عن الكاتب اسم هند الحسيني مؤسسة دار الطفل العربي.

واللافت هو حديث أديبنا عن شبابيك القدس، فالقدس مدينة تاريخية، ابنيتها يطغى عليها فن العمار الاسلامي المطعم بالفن البيزنطي والفارسي والروماني فوظيفة الشبابيك " تمرير الهواء الى داخل البيت، وكذلك اشعة الشمس، أو تمرير شحنة من نور حيثما تكون الشبابيك واقعة في مدى أشعة الشمس" ص 25

وللشبابيك مهمة نضالية ايضا منها " سكب الزيت المغلي واسقاط أصص الورد المليئة بالتراب على جنود الاحتلال الذين يتعقبون شباب الانتفاضة " ص27

ويتحدث الكاتب عن "ترييف" المدينة ، من خلال هجرة أبناء الريف وأبناء المخيمات اليها، وما يترتب على ذلك من اضعاف الحياة المدينية والاقتصادية ، مما أدى الى هجرات من المدينة، خصوصا هجرة الفلسطينيين المسيحيين حيث كان يصل عددهم عام 1967 الى اثني عشر الفا والآن عددهم خمسة آلاف فقط ص39

ويعرج الكاتب على مقاهي القدس التي "تشكل مع النوادي ودور السينما والمكتبات والفنادق والمطاعم مظهرا من مظاهر النزوع المدني المرافق لنهوض الطبقة الوسطى " ص42

والمقاهي التي كان يرتادها المثقفون والوجهاء،  والمتقاعدون، لم تعد قائمة في غالبيتها مثلما أغلقت دور السينما ايضا، وقد عرفت المقاهي المقدسية " الحكواتي " الذي كان يحكي السير الشعبية القديمة، وهذا ما لم يتطرق اليه الكاتب.

ويبدي الكاتب أسفه لعدم ازدهار المؤسسات والأنشطة الثقافية في القدس ويصفها بأنها  في حال لا تسُرّ البال " ص46 ويبدي الكاتب حزنه لأن الابداع الفلسطيني في القدس وعن القدس قليل، ولا يتناسب وحجم المدينة التاريخي الحضاري، هذا الابداع الذي يجب ان يتواصل وينمو خصوصا وان المدينة تشهد حالة حصار يمنعها من التواصل مع محيطها الفلسطيني وامتدادها العربي، وان القوانين الاسرائيلية تحد من البناء العربي في المدينة، وتعمل على تهجير مواطنيها الفلسطينيين، اضافة الى تشتيت العائلات كما هو حال الشعب الفلسطيني. وهذا الكتاب بنصوص ويوميات وشهادات مؤلفه يشكل اضافة نوعية للمكتبة الفلسطينية والعربية عن مدينة تضرب جذورها في التاريخ، وتأبى أن تكون الا عربية.

وقالت نسب اديب حسين:

القدس تهمس.. محمود يتذكر

إن المدن المحتلة تحتاج دومًا الى أبنائها كي يدافعوا عن حقها في البقاء، ويزيلوا الغبار والشوائب التي يحاول المحتل الصاقها بالمدينة ليغير من تاريخها وذاكرتها.

نلاحظ وعلى مدى السنوات الاخيرة أن العدوان الاسرائيلي بات يتخذ اشكالا أخرى، فاليوم نشهد حربًا ثقافية يحتاج فيها الاديب والفنان والموسيقي الوقوف جنبًا الى جنب لاثبات وجودهم وبقائهم للمحافظة على قضيتهم.

كان ذلك بارزًا بشكل خاص في العام المنصرم عند الاحتفاء بالقدس كعاصمة للثقافة العربية عام 2009 ، فقد حاولت سلطات الاحتلال منع كافة التظاهرات الاحتفالية، مما أدى الى عدة مناوشات، وتم اغلاق معرض للفن التشكيلي للفنان أحمد كنعان في المسرح الوطني الفلسطيني، رغم أن المعرض لم يكن مرتبطًا بالاحتفالية، لكن وجوده أقض مضجع المحتل فقرر اغلاقه. ومن الحوادث الاخرى الكثيرة التي حصلت في ذلك العام محاولة لافشال افتتاح احتفالية فلسطين للأدب في دورتها الثانية في المسرح الوطني الفلسطيني، وبعد سجالات مع الجنود تم نقل الحدث الى المركز الثقافي الفرنسي. وعلى طول العام حاول المحتل التصدي ومنع اقامة أيّ مناسبة ثقافية تقام ضمن (الاحتفاء بالقدس كعاصمة الثقافة العربية 2009) .

في المقابل تقام المناسبات الثقافية في القدس الغربية  على مدار العام، فالقدس تحظى باهتمام واسع من قِبل الأدباء اليهود ، والاحتفالات الموسيقية والفنية كالمسرح والسينما ومعارض الفن التشكيلي، وفي الوقت الذي يُغلق فيه معرض في شرق المدينة يفتتح معرض في غربها.

هنا وامام كل هذه التحديات نحتاج الى التكاتف جميعًا من ادباء وفنانين للوقوف في وجه المحاولات لتهويد المدينة ثقافيًا.

وفي خضم هذا يأتينا الكاتب المقدسي محمود شقير بكتابٍ يرصد ذاكرة وحس المكان، ليطلعنا ما قالت له المدينة ويعنون كتابه بعنوان "وقالت لنا القدس" الصادر عن وزارة الثقافة الفلسطينية عام 2010. يروي الكاتب قصة عشقه للمدينة التي ما انقطعت رغم نفيه القسري عنها مدة ثمانية عشر عامًا، في تمهيدٍ أول وثانٍ.

يقسم الكاتب كتابه الى ثلاثة أقسام :

القسم الاول (المدينة كما كانت وكما هي الآن)ـ يقع هذا القسم في 74 صفحة.

في هذا القسم يحاول الكاتب الوقوف على جوانب عديدة من جوانب الحياة وخصائص المدينة فيتحدث عن اشخاصٍ كان لهم أثر كبير في ذاكرة المدينة مثل خليل السكاكيني، فرانسوا أبو سالم وعادل الترتير. كما ويتحدث الكاتب عن بنات المدينة فيذكر دورهن في النضال من أجل النهضة والتنوير والتحرر من الاحتلال، فيرصد الكُتب التي أتت على ذكر دورهن، وكذلك الروايات التي حظيت البنات المقدسيات بدور البطولة فيهن.

يقف الكاتب وقفة طويلة أمام شبابيك القدس ليتأمل فيها، ويتحدث عن مبناها وشكلها الهندسي والهدف منها، الذي تغير مع الزمن والتبدلات التي حصلت على الصعيد الاجتماعي والصعيد السياسي، كتحول الشبابيك لمواقع لسكب الزيت المغلي، واسقاط أصص الورد المليئة بالتراب على جنود الاحتلال ايام الانتفاضة الاولى ص27. ويدافع الكاتب عما آلت اليه الشبابيك من وضع مزرٍ من صدأ وانخلاع أباجوراتها فيقول أن هذا يعود الى اهتمام المقدسيين بالمشهد من داخله الذي يتسع لهم ولأبنائهم نظرًا للضائقة السكانية التي يعيشها سكان البلدة القديمة.

تحت عنوان آخر يتطرق الكاتب الى ظاهرة ترييف القدس، ويعزو هذا الى تحرك الريفيين نحو المدينة، ونزعة البيروقراطية التي مارستها قيادة منظمة التحرير في الخارج اثناء التعاطي مع الانتفاضة. (فأصبحت القرى والمخيمات وامتداداتها السكانية في المدن هي صاحبة الدور الأبرز في نضال الحركة الوطنية الفلسطينية، وأصبح الترييف وما يمثله من قيم محافظة هو السمة الاكثر وضوحًا في المجتمع الفلسطيني، وتراجع في الوقت ذاته دور المدينة ونخبها السياسية والثقافية، وما تمثله من قيم عصرية.)ص37 . يعبر الكاتب عن رأيه في هذا بعتبه على القوى الفلسطينية قائلا أنه كان بإمكانها انعاش المجتمع المدني المقدسي بإعادة بعث النقابات والمؤسسات غير الحكومية والنوادي، وتشجيع النشاط الثقافي والأدبي والفني.. لكن بدلا من ذلك نجد قيم الريف الداعية الى التقوقع والانغلاق تستفحل فيها، وحدث تحول في القيم فلم تعد للعقلانية وللتنوير واحترام العلم والثقافة والفن حظوة ذات أثر ملموس . وازداد الميل الى التزمت والتعصب، وتضييق الأفق والتضييق على النساء. وكان لكل هذا آثار سلبية على المدينة، وتضافر غير مباشر مع السياسة الاسرائيلية على حد قول الكاتب لتصفية الانشطة الاقتصادية الحيوية في المدينة، كالسياحة إذ تم اغلاق مطاعم وفنادق ودور سينما واماكن اخرى، الأمر الذي أثر سلبًا على الحركة السياحية وعلى مواطني المدينة وبالذات المسيحيون منهم.

ويصف محمود شقير من خلال القسم ذاته التبدلات التي طرأت على شارع الزهراء الذي كان به مكاتب لصحف عديدة كالمنار والجهاد، وكان مَعلمًا من معالم الحياة الثقافية في القدس. والتبدلات التي طرأت على شارع صلاح الدين وعلى مقاهي القدس.

يتحدث الكاتب عن وضع الثقافة في القدس تحديدًا الى تردي الاهتمام بها، وما طرأ من تغيير في هذا المجال مثل اغلاق دور السينما بعد أن اصبح الذهاب الى السينما عادة غير مألوفة عند المقدسيين، تدني نسبة القراء الى أقصى حد ممكن، وعدم توفر سوى كتب غير حديثة الصدور. لكن بالرغم من هذا يوجد في القدس عشرون مؤسسة ثقافية والعديد من الانشطة التي تنظمها هذه المؤسسات ، فالمسرح الوطني الفلسطيني يقيم ندوة اليوم السابع الاسبوعية، عروضًا مسرحية.. ومؤسسة يبوس تقيم العديد من البرامج أهمها احتفالية فلسطين للأدب، والعديد من الأنشطة الاخرى الا أنه في معظم الأحيان تشهد هذه الأنشطة فقرًا بالجمهور.

القسم الثاني (المدينة كما هي في المشهد اليومي) ـ

يقع هذا القسم في 73 صفحة ويشمل مذكرات شخصية للكاتب من نيسان 1996 وحتى ايلول 2009 يتميز هذا الفصل بمصداقية ومعايشة الذاكرة الشخصية للمكان وللحدث ، وجدت في هذا الفصل عفوية وجرأة في نشر هذه المذكرات الشخصية.

القسم الثالث (المدينة كما هي في الشهادات) ـ

يشمل هذا الفصل مذكرات للكاتب لكن دون التقيد بالتاريخ والتسلسل الزمني للأحداث، فيتحدث الكاتب عن مكامن نفسه وارتباطه بالمدينة.

من خلال الاطلاع على الوضع الشخصي للكاتب نأخذ فكرة عن الوضع العام.

في البداية يحدثنا الكاتب عن بيت خليل السكاكيني الواقع في حي القطمون في القدس الغربية ، وقد احتله اليهود فغدا الطابق الاول منزلا لعجوزين، والطابق الثاني روضة لأطفال اسرائليين، وهذا الواقع يعمم على العديد من البيوت الفلسطينية التي تم احتلالها وسكنها من قبل المستوطنين في ذات الحي، الذي صار اليوم من الاحياء اليهودية الفقيرة نسبيًا بعد أن كان أحد الاحياء الذي تسكنه النخبة المقدسية المثقفة. ونجد المعاناة والتشتت الذي يحل بتركيب العائلة الفلسطينية والمقدسية بشكل خاص في ما كتب الكاتب عن عائلته الشخصية تحت عنوان (شتات العائلة). ضمن عنوان (مفارقات الحصار) يتطرق الكاتب الى واقع عصيب عسير على التفسير، فعندما أراد المشاركة في ورشة أدبية في هونغ كونغ في عام 2005 ، أرسل وثيقة سفره الى الجامعه هناك، فوجدوا تناقضات في كون الكاتب وُلد قبل أن تولد اسرائيل بسبع سنوات وفي أوراقه مسجل أنه وُلد في اسرائيل، وجنسيته أردنيه، فطلبوا منه أن يفسر كيف يمكن أن يكون كاتبًا فلسطينيًا..

في خاتمة الكتاب يراجع الكاتب كتاباته ويبحث عن القدس فيها، وينظر الى الخلف مليًا باحثًا كيف تغيرت وتبدلت علاقته بها، وكم يحاول التقرب منها، ونجده ينهي كتابه مطمئنًا الى أنه كتب وسيستمر في الكتابة عن هذه المدينة "التي لا تستنفدها الكتابة، لأنها لا تشبه أية مدينة أخرى في العالم، ولا تشبهها أي مدينة".

في الختام رأيت في الكتاب كتابًا قيّمًا عن مدينة القدس، وعن الكاتب محمود شقير الذي وجدته يربط سيرته بسيرة المدينة، فيحاول التقرب منها والتحدث عنها في مجالات عدة، لتكون محاولة منه للتصدي لتهويد المدينة من خلال ذاكرتها وذاكرته.

الكتاب يساعد القارئ المحب للمدينة في التقرب منها والوقوف على كثيرٍ من الأمور، قد لم يتسن له  معرفتها عن المدينة سابقًا، فهناك معلومات عن تحولات طرأت على المكان في النصف القرن المنصرم لا نعثر عليها في كتب التاريخ. يوجد في الكتاب بعض التكرار في ذكر معلومات أو حوادث معينة، قد يكون الكاتب اضطر اليها لذكر حوادث في ذات الفترة لكن في مواقع مختلفة من الكتاب، وقد يعود السبب الى أن الكاتب قد كتب كتابه في فترات متباعدة، لكن هذا لا ينتقص من قيمة الكتاب الذي يبعث بالقارئ الكثير من الحب والحنين الى مدينة حالما تقع في عشقها تسكنك، ويصعب أن تجد لهذا العشق من تفسير.

وبعد ذلك جرى نقاش مطول شارك فيه كل من الكاتبة نزهة أبو غوش، الأستاذ خليل سموم، والأديب ابراهيم جوهر.