تساؤلات بين يدي بضاعة الشِعر الكاسدة

تساؤلات بين يدي بضاعة الشِعر الكاسدة!

علي الرشيد

[email protected]

أهداني أحد أصحابي الشعراء نسخة من مجموعة جديدة له صدرت عن إحدى دور النشر بدولته التي يعدّ سكانها قرابة خمسة ملايين نسمة، وقادني فضولي للتعرف على تفاصيل عملية النشر منه إلى اكتشاف حقائق مرة عن مؤشرات الظلم الذي يتعرض لها الشعر كأحد الفنون الأدبية الرئيسة خصوصا لدى العرب والتي تزداد تفاقما جيلا إثر جيل.

فاجأني صاحبي  أنه طبع من مجموعته الشعرية التي لا يزيد عدد صفحاتها عن 48 صفحة من القطع المتوسط  500 نسخة فقط لا غير، وقد جاء ذلك بناء على نصيحة صاحب الدار الناشرة بحجة أن سوق الشعر كاسدة وبضاعته غير رائجة لدى روّاد المكتبات وزوّار معارض الكتب، علما أن صاحبي ليس جديدا على هذه الصنعة الأدبية، فهو ينظم الشعر وينشره في المجلات والصحف، وله دوواينه الموجهة للكبار والصغار منذ ثلاثة عقود ونيف ، وعلاوة على ذلك فإن تكاليف الطباعة كانت على حسابه، وقيمة بيع النسخة الواحدة من المجموعة حسب مافهمت لا تتجاوز دولارين.

وتندّر صاحب آخر لي وهو شاعر فاز العام الماضي بالمركز الأول في مسابقة شعرية كبيرة بإحدى دول الخليج وحصل على جائزة مالية مجزية قائلا لمن حوله بعد استلامها : "كيف تقولون أنّ الشعر لا يطعم خبزا".. وقد أطلق مقولته بعد أن  تمكّن بقيمة الجائزة من شراء بيت له يؤويه ويؤوي أولاده بعد أن ظلّ طيلة فترات عمره الماضية يسكن بالإيجار، ولم يكن له ذلك إلا بعد أن جاوز الستين من عمره، رغم ما صدر له من  مجموعات شعرية ودوواين وما نشره في الصحف المحلية والعربية قبل ذلك.

ولو قارنت جمهور الشعر بغيره من جماهير ومحبي الفنون والهوايات الأخرى لوجدته الأقل على الإطلاق ـ  غالبا ـ  وللتأكد من ذلك حسبك أن تحضر أمسية أو صباحية أو ندوة شعرية.

لم يعد الشعر كما قال ابن فارس في فقه اللغة : والشعر ديوان العرب، وبه حفظت الأنساب، وعرفت المآثر، ومنه تعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله، وغريب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث صحابته والتابعين.

والسؤال الذي يطرح نفسه إزاء هذا الواقع المؤلم : أين يكمن الخلل؟ .. أهو في الشعراء والمستوى الفني لما يصدر عنهم ، أم هو في المتلقين وما وصل إليه حال ذائقتهم الأدبية والبلاغية ، أم في الوضع الذي آل عليه حال العربية عموما ومدى الاهتمام بها في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا العربية ومقدار تقديسنا وتقديرنا لنا باعتبارها لغة القرآن الكريم وإعطائها مكانتها اللائقة على المستويات الرسمية والخاصة ، أم بسبب عوامل الجذب والتشويق لفنون جديدة  صارت تشد أجيالنا على حساب الشعر العربي الذي بدا أن البساط  سحب من تحته..

قديما قالوا عن الشعر: (إذا لم يهززك عند سماعه فليس حرياً ان يقال له شعر) وقسموا الشعراء إلى أربعة أصناف : شاعر يجري ولا يجرى معه، وشاعر يخوض وسط المعمعة، وشاعر لا تشتهي أن تسمعه، وشاعر لا تستحي ن تصفعه.

إن الحقيقة تقتضي القول أن كثيرا من الشعر لم يعد يشنّف آذاننا ويطرب مسامعنا كما هو الحال عند سماع معلقات " امرؤ القيس وزهير والنابغة .." أو من جاء بعدهم كالبحتري والمتنبي وأبي فراس الحمداني، أو شعراء العصر الحديث كشوقي وحافظ إبراهيم والجواهري وعمر أبي ريشة وبدوي الجبل ومعروف الرصافي وفدوى طوقان ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب ونزار قباني ومحمود درويش وغيرهم .. وبالتالي فإن هذا الوضع يشير إلى تيار جارف من الشعراء قد لاتشتهي السماع لهم أو قراءة انتاجهم بسبب رداءة المستوى الفني وضعف سويته البلاغية.

 على الضفة الأخرى ثمة أسباب مهمة  وراء كساد بضاعة الشعر لدى أصحاب العلاقة والمتلقين، تبدأ من تردي مكانة اللغة العربية لدينا وإعلاء قيمة اللغات الإفرنجية الأخرى على حسابها، وضعف الإقبال على القراءة والمطالعة، وغياب مدرّسي اللغة العربية الأكفاء، الذين يحببون اللغة العربية لطلابهم منذ الصغر ويكونون قادرين على إيصالهم إلى تذوق آدابها شعرا ونثرا، بما تحويه من جماليات، وما تكتنزه من صور وانفعالات، أوتتضمنه من بيان مؤثّر وموسيقى ساحرة ، واقتصار دورهم ـ عوضا عن ذلك ـ  على التحفيظ والتلقين وتقديم المادة صمّاء جافة بلا روح .

وعندما يقال عن دولة كموريتانيا بأنها "بلد  المليون شاعر" فإن ذلك لم يتأت إلا لأن نظام التعليم هناك يهتم بالشعر العربي وقواعد اللغة وتحفيظ الصغار والكبار الكثير من عيون الشعر العربي فضلا عن إلمامهم الكبير بقواعد اللغة العربية .

لقد كان الخلفاء والسلاطين يحبون الشعر ويرحبون بالشعراء في مجالسهم ويجزلون لهم العطاء تعبيرا عن تقديرهم لديوان العرب، أما الآن  فإن الوضع اختلف والصورة تغيرت وصار الشعراء في دولنا العربية في الصفوف الخلفية على حساب شرائح أخرى،  يقاسون الأمرّين من أجل تدبير لقمة عيشهم دون أن تقدر مكانتهم الإبداعية إلاّ ما ندر .

ويضاف إلى ما سبق ظهور فنون وهوايات أخرى صرفت الشباب عن الشعر والأدب عموما، وساعد على ذلك تطور تكنولوجيا الإعلام والاتصال بكل ما فيها من مؤثرات  جذّابة، فعمل درامي أو فيديو كليب غنائي صار يستقطب الملايين من البشر عبر شاشات التلفزة، وصارت الرياضة ومباراياتها معشوقة الآلاف والملايين من الشباب والفتيات في الملاعب وعبر الشاشات الكترونية وهو ما يستدعي دراسة هذا الواقع واستثمار التقانة لصالح الشعر وإعادة الاعتبار له.

نريد أن تعود للقريض نضارته، وأن ينهض من يجدد له شبابه، ويضخ الدماء في عروقه، حتى يستعيد مكانته التي عرف بها، نريد أن تكون له منتدياته ومهرجاناته كما كان الحال في سوق عكاظ  ملتقى للشعراء وحاضنا لهم ومفجّرا لقرائحهم، تسهم كما ساهم في إخراج عدد من الأسماء والقصائد الشعرية الكبيرة (المعلقات) في تاريخ الأدب العربي.

ترى: " هل ترجع الدار بعد البُعد ثانية.. وهل تعود لنا أيامنا الأُول"، أم سنشهد مزيدا  تقهر مكانة الشعر العربي .. الأمر بيد هذه الأمة التي هي الخصم والحكم بآن معا.