القدس تهمس.. محمود يتذكر
نسب أديب حسين ـ فلسطين
إن المدن المحتلة تحتاج دومًا الى أبنائها كي يدافعوا عن حقها في البقاء، ويزيلوا الغبار والشوائب التي يحاول المحتل الصاقها بالمدينة ليغير من تاريخها وذاكرتها.
نلاحظ وعلى مدى السنوات الاخيرة أن العدوان الاسرائيلي بات يتخذ اشكالا أخرى، فاليوم نشهد حربًا ثقافية يحتاج فيها الاديب والفنان والموسيقي الوقوف جنبًا الى جنب لاثبات وجودهم وبقائهم للمحافظة على قضيتهم.
كان ذلك بارزًا بشكل خاص في العام المنصرم عند الاحتفاء بالقدس كعاصمة للثقافة العربية 2009 ، فقد حاولت سلطات الاحتلال منع كافة التظاهرات الاحتفاليه، مما أدى عدة مناوشات، وتم اغلاق معرض للفن التشكيلي للفنان أحمد كنعان في المسرح الوطني الفلسطيني، رغم أن المعرض لم يكن مرتبطًا بالاحتفالية لكن وجوده أقض مضجع المحتل فقرر اغلاقه. ومن الحوادث الاخرى الكثيرة التي حصلت في ذلك العام محاولة لافشال افتتاح احتفالية فلسطين للأدب في دورتها الثانية في المسرح الوطني الفلسطيني، وبعد سجالات مع الجنود تم نقل الحدث الى المركز الثقافي الفرنسي. وعلى طول العام حاول المحتل التصدي ومنع اقامة اي مناسبة ثقافية تقام ضمن (الاحتفاء بالقدس كعاصمة الثقافة العربية 2009) .
في المقابل تقام المناسبات الثقافية في القدس الغربية على مدار العام، فالقدس تحظى باهتمام واسع من قِبل الادباء اليهود ، والاحتفالات الموسيقية والفنية كالمسرح والسينما ومعارض الفن التشكيلي، وفي الوقت الذي يُغلق فيه معرضًا في شرق المدينة يفتتح معرضًا في غربها.
هنا وامام كل هذه التحديات نحتاج الى التكاتف جميعًا من ادباء وفنانين للوقوف في وجه المحاولات لتهويد المدينة ثقافيًا.
وفي خضم هذا يأتينا الكاتب المقدسي محمود شقير بكتابٍ يرصد ذاكرة وحس المكان، ليطلعنا ما قالت له المدينة ويعنون كتابه بعنوان "وقالت لنا القدس" الصادر عن وزارة الثقافة الفلسطينية عام 2010. يروي الكاتب قصة عشقه للمدينة التي ما انقطعت رغم نفيه القسري عنها مدة ثماني عشر عامًا، في تمهيدٍ أول وثانٍ.
يقسم الكاتب كتابه الى ثلاثة أقسام :
القسم الاول (المدينة كما كانت وكما هي الآن)ـ يقع هذا القسم في 74 صفحة.
في هذا القسم يحاول الكاتب الوقوف على جوانب عديدة من جوانب الحياة وخصائص المدينة فيتحدث عن اشخاصٍ كان لهم أثرًا كبيرًا في ذاكرة المدينة مثل خليل السكاكيني، فرانسوا أبو سالم وعادل الترتير. كما ويتحدث الكاتب عن بنات المدينة فيذكر دورهن في النضال من أجل النهضة والتنوير والتحرر من الاحتلال فيرصد الكُتب التي أتت على ذكر دورهن وكذلك الروايات التي حظيت البنات المقدسيات بدور البطولة فيهن.
يقف الكاتب وقفة طويلة أمام شبابيك القدس ليتأمل فيها، ويتحدث عن مبناها وشكلها الهندسي والهدف منها، الذي تغير مع الزمن والتبدلات التي حصلت على الصعيد الاجتماعي والصعيد السياسي كتحول الشبابيك لمواقع لسكب الزيت المغلي واسقاط أصص الورد المليئة بالتراب على جنود الاحتلال ايام الانتفاضة الاولى ص27. ويدافع الكاتب عما آلت اليه الشبابيك من وضع مزرٍ من صدأ وانخلاع اباجوراتها فيقول أن هذا يعود الى اهتمام المقدسيين بالمشهد من داخله الذي يتسع لهم ولأبنائهم نظرًا للضائقة السكانية التي يعيشها سكان البلدة القديمة.
تحت عنوان آخر يتطرق الكاتب الى ظاهرة ترييف القدس ويعزو هذا الى تحرك الريفيين نحو المدينة، ونزعة البيروقراطية التي مارستها قيادة منظمة التحرير في الخارج اثناء التعاطي مع الانتفاضة. (فأصبحت القرى والمخيمات وامتداداتها السكانية في المدن هي صاحبة الدور الأبرز في نضال الحركة الوطنية الفلسطينية، وأصبح الترييف وما يمثله من قيم محافظة هو السمة الاكثر وضوحًا في المجتمع الفلسطيني، وتراجع في الوقت ذاته دور المدينة ونخبها السياسية والثقافية، وما تمثله من قيم عصرية.)ص37 . يعبر الكاتب عن رأيه في هذا بعتبه على القوى الفلسطينية قائلا أن كان بإمكانها انعاش المجتمع المدني المقدسي بإعادة بعث النقابات والمؤسسات غير الحكومية والنوادي وتشجيع النشاط الثقافي والأدبي والفني.. لكن بدلا من ذلك نجد قيم الريف الداعية الى التقوقع والانغلاق تستفحل فيها، وحدث تحول في القيم فلم تعد للعقلانية وللتنوير واحترام العلم والثقافة والفن حظوة ذات أثر ملموس . وازداد الميل الى التزمت والتعصب، تضييق الافق والتضييق على النساء. وكان لكل هذا آثارًا سلبية على المدينة وتضافر غير مباشر مع السياسة الاسرائيلية على حد قول الكاتب لتصفية الانشطة الاقتصادية الحيوية في المدينة كالسياحة إذ تم اغلاق مطاعم وفنادق ودور سينما واماكن اخرى، الأمر الذي أثر سلبًا على الحركة السياحية وعلى مواطني المدينة وبالذات المسيحيين منهم.
ويصف محمود من خلال القسم ذاته التبدلات التي طرأت على شارع الزهراء الذي كان به مكاتب لصحف عديدة كالمنار والجهاد وكان مَعلمًا من معالم الحياة الثقافية في القدس. والتبدلات التي طرأت على شارع صلاح الدين وعلى مقاهي القدس.
يتحدث الكاتب عن وضع الثقافة في القدس تحديدًا الى تردي الاهتمام بها وما طرأ من تغيير في هذا المجال مثل اغلاق دور السينما بعد أن اصبح الذهاب الى السينما عادة غير مألوفة عند المقدسيين، تدني نسبة القراء الى أقصى حد ممكن، وعدم توفر سوى كتب غير حديثة الصدور. لكن بالرغم من هذا يوجد في القدس عشرون مؤسسة ثقافية والعديد من الانشطة التي تنظمها هذه المؤسسات ، فالمسرح الوطني الفلسطيني يقيم ندوة اليوم السابع الاسبوعية، عروضًا مسرحية.. ومؤسسة يبوس تقيم العديد من البرامج أهمها احتفالية فلسطين للأدب، والعديد من الأنشطة الاخرى الا أنه في معظم الأحيان تشهد هذه الأنشطة فقرًا بالجمهور.
القسم الثاني (المدينة كما هي في المشهد اليومي) ـ
يقع هذا القسم في 73 صفحة ويشمل مذكرات شخصية للكاتب من نيسان 1996 وحتى ايلول 2009 يتميز هذا الفصل بمصداقية ومعايشة الذاكرة الشخصية للمكان وللحدث ، وجدت في هذا الفصل عفوية وجرأة في نشر هذه المذكرات الشخصية.
القسم الثالث (المدينة كما هي في الشهادات) ـ
يشمل هذا الفصل مذكرات للكاتب لكن دون التقيد بالتاريخ والتسلسل الزمني للأحداث، فيتحدث الكاتب عن مكامن نفسه وارتباطه بالمدينة.
من خلال الاطلاع على الوضع الشخصي للكاتب نأخذ فكرة عن الوضع العام.
في البداية يحدثنا الكاتب عن بيت خليل السكاكيني الواقع في حي القطمون في القدس الغربية ، وقد احتله اليهود فغدا الطابق الاول منزلا لعجوزين، والطابق روضة لأطفال اسرائليين، وهذا الواقع يعمم على العديد من البيوت الفلسطينية التي تم احتلالها وسكنها من قبل المستوطنين في ذات الحي، الذي صار اليوم من الاحياء اليهودية الفقيرة نسبيًا بعد أن كان أحد الاحياء الذي تسكنه النخبة المقدسية المثقفة. ونجد المعاناة والتشتت الذي يحل بتركيب العائلة الفلسطينية والمقدسية بشكل خاص في ما كتب الكاتب عن عائلته الشخصية تحت عنوان (شتات العائلة). ضمن عنوان (مفارقات الحصار) يتطرق الكاتب الى واقع عصيب عسير على التفسير، فعندما أراد المشاركة في ورشة أدبية في هونغ كونغ في عام 2005 ، أرسل وثيقة سفره الى الجامعه هناك، فوجدوا تناقضات في كون الكاتب وُلد قبل أن تولد اسرائيل بسبع سنوات وفي أوراقه مسجل أنه وُلد في اسرائيل، وجنسيته أردنيه، فطلبوا منه أن يفسر كيف يمكن أن يكون كاتبًا فلسطينيًا..
في خاتمة الكتاب يراجع الكاتب كتاباته ويبحث عن القدس فيها، وينظر الى الخلف مليًا باحثًا كيف تغيرت وتبدلت علاقته بها، وكم يحاول التقرب منها، ونجده ينهي كتابه مطمئنًا الى أنه كتب وسيستمر في الكتابة عن هذه المدينة "التي لا تستنفدها الكتابة، لأنها لا تشبه أية مدينة أخرى في العالم، ولا تشبهها أي مدينة".
في الختام رأيت في الكتاب كتابًا قيّمًا عن مدينة القدس، وعن الكاتب محمود شقير الذي وجدته يربط سيرته بسيرة المدينة، فيحاول التقرب منها والتحدث عنها في مجالات عدة، لتكون محاولة منه للتصدي لتهويد المدينة من خلال ذاكرتها وذاكرته.
الكتاب يساعد القارئ المحب للمدينة في التقرب منها والوقوف على كثيرٍ من الأمور قد لم يتسن له معرفتها عن المدينة سابقًا، فهناك معلومات عن تحولات طرأت على المكان في النصف قرن المنصرم لا نعثر عليها في كتب التاريخ. يوجد في الكتاب بعض التكرار في ذكر معلومات أو حوادث معينة، قد يكون الكاتب اضطر اليها لذكر حوادث في ذات الفترة لكن في مواقع مختلفة من الكتاب، وقد يعود السبب الى أن الكاتب قد كتب كتابه في فترات متباعدة، لكن هذا لا ينتقص من قيمة الكتاب الذي يبعث بالقارئ الكثير من الحب والحنين الى مدينة حالما تقع في عشقها تسكنك، ويصعب أن تجد لهذا العشق من تفسير.
* مقدمة لندوة اليوم السابع ـ المسرح الوطني الفلسطيني ـ القدس ـ 1792010