قراءة في قصيدة "تقاسيم الكتاب القديم"
قراءة في قصيدة "تقاسيم الكتاب القديم"
للشاعر المغربي أنس الفيلالي
أنس الفيلالي
عبد الكريم شياحني
شاعر وباحث مغربي
حين تفر القافية من يباب القول المتلاشي، نحو ومض الحقيقة التي لن تشتهى إلا على مائدة البوح الطري..حين تستقر التقاسيم على النايات و تدعوا ما بقي من كمنجات الضرورة الجمالية إلى عرس للإيقاع الخارج عن التصنيف،حينها،يبكي الجلنار رمانه الآتي و تغتدي حدائقنا الخفية بصمت الرهبة و طول الأفق.حينها،نشد أحزمتنا المصنوعة من غيب الحلول،لنعشق الرحيل على متن قصائد خرجت لتوها من علبة ساحر،لا يملك إلا عصا المروق اللغوي الفاتن و عنفوان اللحظة و الذاكرة...
كمن يضع نفسه عرضة لصعقة الروح و اضطرام الصيغ،نخوض في التفاصيل الصغيرة،الكبيرة فتأبى القصيدة أن تمنحنا مفاتيحها إلا على خطى كلام يشبهها أو يقتفيها..هذا ديدن القصائد المغنجة..
موسومة بالتقاسيم،للموسيقى خلقت..و للتقاسيم قصص للطفولة و للحلم.هي التي تهدينا الدهشة المتواصلة و ترمم هذا الفراغ الذي يتسع فينا كل يوم..هي الذهاب بلا بوصلة للدرب و لا دليل،هي السفر إلى الباطني الذي لا يؤدي على هدف..
و الباطني كتاب قديم ،سقط سهوا من خرج قديس ينام على أعتاب المزارات،و يرقي التائهين في بلاد الخطيئة بما تيسر من ماء البنفسج و اليانسون.
حينَ يتمدّد لحامُ العُري
بإظهارِ سهوِ الشّوكِ
كان بالحصى أدراجُ الطّوفان
معراجُ المجدِ
الجهرُ المارقُ خفوًا
من وخزِ الحقيقةِ
يغفو كالخرافةِ
لو فجّرته العواقبُ!
لآخرِ المديحِ المبتهلِ
لأخرِ قطرةِ دمٍ
جبرًا للفراغِ
وتهمةَ الكافرِ
من الأجنحةِ حيث الطّوفان، وقصفةُ النّبيحِ
المروق و المجد،معادلة صعبة في زمن الخرابات الروحية و الوجودية الشاسعة.من منهما يصنع الآخر؟من منهما يقود إلى قصف التهم و إبطال الخرافات؟
منذ التداعي يفجر الشاعر إمكانيات التمدد كآفة لا تضمر فضائلها،إن للجسد كانت أو لما وراءه.
حينما يحترقُ النّزيفِ
بدُجى الهزيمةِ
في سورِ الأغطيةِ
والإسمنت لشرفةِ الفجيعةِ
وهْم الغَرقى في الماءِ
إلى حيث الأغاني الملتويةِ
في المشهدِ
كي ينبلجَ اللّيلُ،
وبخُطى الماشيةِ
إلى موضعِ العفنِ،
احتراق النزيف يفضح الأعطاب الموهومة ،المسكونة باحتمال الخلاص.لكن الفجائع اكبر من هذا الزيف الذي يلف ناصية الرحيل إلى حيث المراجعات المضطربة لاختيارات مفلسة أو لكلام مقهور.
ونحن نسدلُ خريطةَ الحدسِ
لاستقامةِ حيضِ الانهيارِ
شعابًا ملتويةً
تشربُ ماءَ الجحيمِ الهُلامي
شأنَ حرقةِ الحرقِ
غبارًا في العقرِ
ينخرُ بلا رصيفٍ
بيتَ الهزيمةِ
أو شكلاً للمقيتِ
عن أسرَِ الفيضِ
بلا عقمٍ
إنه الهروب العبثي من اليقظة الدلالية..و نحن نقرأ كف الاستعارة لنعود بالفتوحات،يروادنا الغبار راسما أشلاء الهزيمة و العسكر المنخورين حتى العظم..
يا المنسيّ في العقرِ
الفراغ الملتوي
من الموجِ الرّعاش
والخذلان والأنين، والوقت
وشفيف الورق والطين الحالك
وكلّ المروج..
......................................
يا الهالك في الهمّ
حدّ السّماء
برذاذِ البياض المعفّن
كما الشّرود المجفّف
في عقل العُباب
وانحسارِ التّبول في أبهى البهجةِ
في صحوة الظّن
نداءان ،أحدهما للنسيان و الآخر للهلاك..و جهان لوجع واحد،يتمجد في القصيدة كخروج من صبوة الكلمات و قفز رشيق على العقر،على الصلب،و على الشرود..
ما أعذبَها جغرافية الخنجر
بين لهثِ النّخيل
وشهوة القتيل المُبرّح
فالوجدُ تجرّدت أمكنتُه
بنعيقِ الكسرِ
عطر الحلم
لا شيءَ فوق ثغرِ العمارةِ
فالكتب المخبولة بالرّهبة كالقبرِ
لا أحد يترك الشّوكَ
غير الشّوك المُصاب.
من الجلاد و من الضحية؟قصيدة مفلسة أم شاعر خائب؟
يأتي الجواب عكس التوقع،تشعلنا العبارة بمزج رصين للتضاريس و للفوبيا "جغرافية الخنجر"..جغرافية الموت ،جغرافية الفناء..
و حكمة الشوك المصاب تضمد ما تآكل من هسيس لتقفل النص على كرسي للانتظار..
.....................................................
هذا الشاعر الذي فبرك الأماكن و رقص الموت من داخل القصيدة كائن يهوى الحبر و التسويد..كمن يلمح قمرا باردا يقطع عقده النهائي برداءة مكشوفة.
القصيدة صرخة مبلولة النوايا ،تغوص للقعر لتدرأ الهم عن هالة الكلمات التي وحده التاريخ يعمدها .
يوقظ أنس الفيلالي شرارة الهزيمة و نداء الصحو المتكرر،يختلي بالنداءات البعيدة و ينسف الخذلان و التراجع المبهم.
يصور حالات الضياع المنسوجة من غواية الفشل.
بأبجديات الياسمين و حمأة المعجم يدشن صوت جيل شعري يجدد القضية ،بعدما أوهمونا ان كل القضايا أحيلت على التقاعد أو سويت تحت الطاولات..
يحمل الشاعر روحه على راحة المجد المكرس بمنطق الميراث ليرسم خارطة أكبر لإمبراطورية الخنجر..يصرخ بالحكمة و بالشوك لعل السالكين دجى الكلام، ينفضون ما تراكم من صمت.
هي خواطر عجلى دوختها القصيدة،أرميها لسمو الشعر و عمق الطرح ..انفراد بهذا الجمال و همس له ..تقدير للشاعر و خشية من سخط المعنى.