روائع القصة القصيرة للناقد الدكتور الطاهر مكي
روائع القصة القصيرة
للناقد الدكتور الطاهر مكي
صلاح حسن رشيد - مصر
*أسماء : محمد تيمور ، ويوسف جوهر ، و نجيب محفوظ ، وإحسان عبد القدوس ، وتشيخوف ، و مورافيا .. أبرز ما تضمنه الكتاب .
* شكل ولغة وأسلوب القصة يختلف من كاتب لآخر ، ومن ثقافة لأخرى !
*القصة أقدم الأجناس الأدبية تاريخياً.
*محمود تيمور يعدل عن فكرة كتابة الحوار بالعامية ويدعو للكتابة بالفصحى!
كتاب جديد صدر في القاهرة مؤخراً للناقد الأدبي البارز الدكتور / الطاهر مكي أستاذ الأدب ونقده بجامعة القاهرة ، وهو عبارة عن سياحة إبداعية ونقدية في عالم القصة القصيرة بأقلام أعلامها في الشرق والغرب من أمثال : نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس والطيب صالح ويوسف جوهر ومحمد عبد الحليم عبدالله ويوسف إدريس وأنطون تشيخوف وألبرتو مورافيا وأجاثا كريستي وسومرست موم ونزار قباني والطاهر وطار.
وتناول قلم المؤلف بالتحليل والدراسة المتعمقة والنقد البارع أبرز خصائص وسمات القصة القصيرة من المنظور الغربي ، مقدما ًبمنهجية عالية لأسس وقواعد كتابة القصة القصيرة ؛ بطريقة عصرية وعلمية وفق المدرسة الحديثة. ويعتبر الكتاب دراسة رصينة لتاريخ القصة في البيئة العربية، منذ بداياتها على يد الرواد الأوائل حتى اليوم.
ما القصة القصيرة
وتحت هذا العنوان يقول المؤلف: يبدو للوهلة الأولى أن القصة لاتختلف عن الرواية إلا فى الحجم ، وأن الوسائل التقنية الأخرى واحدة عند القصاص والروائي ، كلاهما - مثلاً - يستطيع أن يأتى بقصته أو روايته فى ضمير الغائب أو المتكلم ، وأن يجىء بها فى شكل يوميات أو مذكرات ، وأن يستخدم الوصف أو الحوار ، وأن يغرق معها فى الرومانسية أو يلتصق بعالم الواقع ، وأن الرواية يمكن أن تضغط فتصبح قصة ، وأن القصة يمكن أن تمط فتصبح رواية. وهو تبسيط للأمور بأكثر مما تحتمل ؛ لأن الفارق بين الاثنين كبير للغاية . وأول ما نلحظ منه أن الرواية أخذت ، وتأخذ ، فى كل بيئة لوناً ، وفى كل عصر شكلاً على حين أن القصة ، وهى أكثر شباباً ، وفى الوقت نفسه أقدم الأجناس الأدبية تاريخياً ، ظلت وفية لماضيها ، ولم تتنكر لأصولها الأولى، إنها حتى اليوم تقال فى كل مكان بين الشعوب البدائية ، وعند أشد الأمم رقياً ولو أنها فى الحالة الاولى تفتقد نية القيام بعمل فنى ، وهو ما يميزها عن الثانية .
ما القصة ؟ .. إن أى محاولة لتعريفها أو تحديد خصائصها تضطرنا إلى الاقتراب من ألوان أدبية أخرى ، إن لم تكن قصصاً خالصاً فهى به أشبه ، كالأسطورة والمثل والخرافة ومجرد الحكي ، ثم الرواية أخيراً . وسنحاول أن نجد للقصة الحديثة تعريفاً عند أولئك الذين عايشوها إبداعاً ، وعالجوا قضاياها نقاداً ، وشهد لهم عالم الأدب بالسبق فى مجالها .
من بين التعريفات الكثيرة للقصة اختار المؤلف واحداً ، ربما كان أكثرها وضوحاً ، وهو للقصاص والناقد الأمريكي إدجارألن بو ، وأورده عرضاً وهو يتحدث عن مواطنه القصاص الأمريكى هوثورن Howthorne ( 1804 – 1864 ) يقول : " تقدم القصة الحقة ، فى رأينا ، مجالاً أكثر ملائمة ، دون شك ، لتدريب القرائح الأرقى سموّاً مما يمكن أن تقدمه مجالات النثر العادية الأخرى " .
"يبني الكاتب القدير قصة ، لن يشكل فكره ليوائم أحداثاً إذا كان فطناً ، إلا بعد أن يدرك جدياً أثراً ما ، وحيداً ومتميزاً ، عندئذ يخترع الأحداث ويركبها بطريقة تساعده فى إحداث الأثر الذى أدركه . وإذا عجزت جملته الافتتاحية عن إبراز ذلك الأثر ، فمعنى ذلك أنه فشل فى أولى خطواته . وفى عملية الإنشاء كلها يجب ألا تكتب كلمة واحدة لاتخدم بطريقة مباشرة التصميم الذى خطط من قبل " .
ويتحدث الناقد الأرجنتينى المعاصر أندرسون إمبرت عن " حكاية قصيرة ما أمكن " حتى ليمكن أن تقرأ فى جلسة واحدة ، ثم يضيف : " يضغط القصاص مادته لكى يعطيها وحدة نغم قوية : أمامنا عدد قليل من الشخصيات ، وشخصية واحدة تكفي . ملتزمين بموقف نترقب حل عقدته بفارغ الصبر .. ويضع القصاص النهاية فجأة فى لحظة حاسمة " . إنه يدافع عن النظرة التى تقول إن القصة لها تأثير كلي . ويتحدث عن وحدة الاندفاع ، من الدفع والاهتمام ، وتنفجر فى نهاية يمكن أن يتوقعها القارىء بدءاً ، ومع ذلك ينتظرها وإلى جانب ذلك يجب أن تكون موجزة ، وفى الوقت نفسه مؤثرة ، لكى تعوض القوة ما تفقده حجماً . ومن ثم فإن كل كلمة ، وكل جملة يجب أن تكون ثملة بالمعنى ، وبأكبر قدر من الإيحاء ، وأن تكون طاقتها قادرة على التحمل ، لكى تحقق القصة إنجاز الإبداعات الكبرى .
إليك صورة من قصة يوسف إدريس " أبو سيد " : وتركت رمضان وراءها يتحسس تجاعيد وجهه ، ويلمس على رأسه التى كادت تخلو من الشعر ، يمر بيده على بطنه المتكور ويشد شعر رجله الكث الذى ابيض أكثره ، وينظر إلى ابنه سيد . وتأمل الصبى وكأنه يراه لأول مرة منذ سنوات ! " إنها لوحة كاملة ، هادئة الإيقاع ، شهباء اللون ، خفيفة الصوت ، بارزة الوصف ، ذات بعد ثالث وتغنى عن صفحات " .
يقول الدكتور الطاهر مكي : تُولد القصة الجيدة كلاًّ ، ومنذ اللحظة الأولى تسقط بين يدى المؤلف كياناً كاملاً ، تصوراً يتوقعه ، وبخاصة نهايتها ، وبعد ذلك تجىء العناصر الأخرى : تقدير جرعة الاهتمام ، تخير الألفاظ، البحث عن الألوان الموحية ، وفى كلمة واحدة : العمل . ولقد يكون مفيداً للنقاد والدارسين أن يقارنوا بين مسودات المؤلف الأولى وما نشر، وبين الطبعات المختلفة لقصة ما ، وهو شىء لما ننتبه إليه فى مصر، وملاحظة ما أدخله المؤلف من تغيير فى كلماته ، بإحلال لفظ مكان آخر، أرق أو أدق ، أو أسهل انسياباً فى النغم ، أو حذفه تماماً لسبب أو لآخر ، ومن إلغاء جملة ارتآها حشوًّا ، أو زيادة أخرى تعطي الصورة وضوحاً أدق ، أو إعادة نظمها لتكون أكثر اتساقاً فيما بينها ، أو مع غيرها . وأن يكون على وعي بما يعنيه الإتقان لتحقيق العناصر الحيوية فى القصة : الإيجاز والاهتمام والتوتر ، ويجب أن تختم القصة بإحكام دون أن تترك مجالاً لثغرات جديدة ، أو أية شروح تالية لها ، مثل هذا العمل قد يأتى عليها ، ويذهب بحقيقتها . فى قصة نجيب محفوظ " عنبر لولو " ، اتفق البطل مع فتاته ، والتقى فكراهما : " قام فقامت ، أعطاها ذراعه فتأبطتها ، مضياً نحو باب الكشك وهو يقول : سأطلق الرصاص فى جميع الجهات ، سنرقص ونغنى ونمرح " ، ومعها انتهت القصة ، وبدأ عمل القارىء ، إن البقية يجب أن تترك لخياله وهو خلاَّق أيضاً ، ونجيب محفوظ وهو قصاص متمكن فى فنه يعرف أن القصة يجب أن تنتهى هنا .
نحن بإزاء جنس أدبى محكم ، لايسمح بالفضول أو التزيد بما ليس فى خدمة النهاية التى حددها منذ البدء على نحو دقيق ، فى خدمة التوتر أو القوة التى ينهض عليها البناء ، فى حل العقدة التى ينتظرها القارىء مشتاقاً . ولايمكن للقصاص أن يجنح أو يسهو أو يبطىء ، دون غاية ، فى رسم الجو أو تصوير الشخصيات ، أو المناظر الطبيعية ، أو الحوار . ومن الممكن طبعاً أن توجد هذة العناصر كلها فى قصة ، ولكن فى خدمة البناء القصصى ، على نحو ما سنرى .
الخلق النفسى
يستطيع القصاص الجيد فى نطاق الحدود الدقيقة التى تحكمه من الزمن والحدث والعاطفة والاهتمام والحيز المحدود ، بأن يجعل الإبداع النفسى عابراً على الدوام ، بسيطاً وواضحاً ، ومن خلال خطوط قليلة عادية ، ولكنها صلبة دائماً ، وفي خدمة القص ، دون أن يعني ذلك بأية حال أن القصة الجيدة تتطلب شخصيات ذات بساطة فكرية ، أو نفسيات غير معقدة ، من الذى يستطيع أن يؤكد ، دون أن يخشى الوقوع فى الخطأ ، أن شخصية رمضان فى قصة " أبو سيد " ليوسف إدريس ، بسيطة الفكر مسطحة النفس ؟ ..
الوصف والمناخ
كل وصفة للطبيعة أو الأشياء أو الأشخاص . يجىء حشوًّا ولايخدم العمل الفنى يمزق الانسجام ، إنه ينحرف باهتمام القارىء ويزعجه ، ويبعده عن محور القصة والاهتمام به ، ولا يؤدى أية وظيفة خاصة ، ولكن القصة قد تتطلب وصفاً ، وبدونه تصبح مقطوعة الرأى ، ولنتذكر الأوصاف القصيرة الملتهبة فى قصة غادة السمان ، أو الدقيقة الهادئة المتشابكة فى قصة يحيى حقى ، لندرك أننا أمام وصف ممتاز ، يتنفسه قصاص عظيم والوصف الذى فى أول قصة " طريق شجر الكافور " ، لمحمد عبد الحليم عبد الله ، يسهم فى خلق جو ضرورى ، لكى تمسك القصة بالقارىء حتى النهاية ، فلا يفلت منها إلا مع آخر فقرة . وكان آلن بو أستاذاً فى استخدام هذا المورد ، ويكون فحوى الجانب الأكبر من قصصه ، وبدون هذا الجو تفقد جاذبيتها ، ومعناها أيضاً . فوصف المناظر الطبيعية ، كما فى قصة " ملك برجوازي" لروبين داريو ، ليست شيئاً زائداً فى القصة ، ولا بعيداً عنا ، ويجب أن يكون كبقية العناصر التى تكونها ، فى نطاق العقدة وخدمتها ، لكى يتحملها الجنس الأدبى دون أن تسىء إليه .
ولاتتطلب القصة الجيدة إعداداً مسبقاً ، إنها تتجه إلى الحدث مباشرة تأسر القارىء وتغرقه فى مادتها فى اللحظة الأولى ، يبدأ يوسف جوهر قصته " الأفيون " : " أحقاً يا سيدى الطبيب تستطيع أن تشفيني ؟ إنى لا أرى في يدك سماعة ، وحجرتك خالية من أسلحة الجراحة وأجهزة الأشعة .. فكيف أنت مستطيع أن تستأصل الداء الوبيل .. أبهذه الصورة على الحائط ؟؟ .. ما اسمها ؟ .. الأمل ... أين هو ؟ .. إن الفتاه تبدو حائرة وفى يدها قيثارة ممزقة الأوتار .. آه .. بقى وتر واحد .. خيط رفيع .. دقيق كأنه وهم .. أممكن حقاً أن ينبعث منه نغم .. وأن يوحى بالأمل .. حسناً .. إنى أصدقك .. وسأستلقى على أريكتك المريحة ، وسأتكلم فى الضوء الخافت . وأطلق لأفكارى العنان بلا خجل .. لن أحبس خاطراً واحداً فى رأسى .. سأعطيك الفرصة كاملة تحللنى .. من يدرى .. لعلك تنجح حيث أخفقت العقاقير.. " وعلى امتداد القصة يقدم الكاتب ملامح البطل حسية وفكرية ، بارزة ومجسمة ، فى شكل اعترافات منسابة ، دون أن تأخذ الشكل الخارجى للاعترافات ، ويقدم معها العقدة وحلها ويقدمها إلى القارىء شيئاً فشيئاً فى أسلوب مصقول ، من العنوان حتى آخر كلمة ، وكلها تخدم أغراض الكاتب فى نسق يكاد يكون رياضياً .
والقصة الجميلة يجب أن تبدو واقعاً ، حياة حقيقية تتحرك حولنا ،دون إغفاء ينحرف بنا أو تطويل يدفع الملل فى نفوسنا ، وأن تجىء متميزة فيما تلبس من أزياء ، صُنعت لها وحدها ، ولايشركها فيها غيرها ، وأن تكون إلى جانب ذلك موحية ، تجعلنا نفكر، مهما كانت واقعية وموجزة ، وأن تبقى فى مجال الخيال ، متلألئة ، تفتح الباب واسعاً ، وعريضاً أمام ذكاء القارىء أو السامع ، وخياله ، ليحلق معها ما شاء يلتقط الفحوى والفكرة ، وربما معان أخرى أعمق ، وذات قيمة بالغة ، ومع الخيال العالى والراقى تبلغ القصة مرتبة الرمز ، وترتدى ما هو رمزى ، والرمز يتطلب مشاعر مكثفة ، وبناء راقياً للتجارب الإنسانية ، وتخطيطاً تتجدد مع التجربة بكل عمقهاً ، وبأوسع مداها ، فى كل مرة يعرض فيها الرمز . وعندما تصبح القصة رمزية فى وضوح ، تتجاوز أن تكون مجرد متعة أو تسلية أو غطاء للواقع ، وإنما تصبح فى هذة الحالة تجسيماً للواقع نفسه .
وكل قصة جيدة تعبر فى وحدتها عن وحدة فلسفتها ومفهومها للعالم ، وهذا المفهوم ليس انعكاساً لمعرفة محصلة تهدف إلى توضيحه ، وإنما هو قبل أى شىء شكل من الإحساس بالعالم وبالحياة ، وترجمة لموقف منه ، ومحاولة الانسجام معه ، ومن هنا فإن تلاحم أية قصة يجب أن يكون طبيعياً ، والحديث عن الطبيعة يفترض المثل الذي يحتذيه الفرد لكي يدرك العالم طبقاً لتركيبه المزاجي .
بناء القصة
تروي القصة خبراً وليس كل خبر قصة ، ولكي يصبح الخبر كذلك لابد أن تتهيأ له الخصائص التي أشرنا إليها من قبل ، وفي مقدمتها أن يكون أثره كلياً ، وأن تكون وسيلتنا إلى ذلك ترابط تفاصيله ، وأن يصور ما نسميه بالحدث وهو يتكون من بداية ووسط ونهاية فالبداية أو الموقف عند بعض النقاد ، ينشأ منها موقف معين، وتنمو لتبلغ الوسط أو المرحلة التالية، وتتجمع كلها لتنتهي إلى النقطة الفاصلة ، وهو سبب وجود الحدث في الأصل ؛ ولذلك يسمى النقاد المرحلة الأخيرة ، وتمثل نهاية الحدث ، لحظة التنوير ، ولكن وجود حكاية تنطوي على هذه الأقسام من بداية ووسط ونهاية لا يعني دائماً ، بالضرورة ، أنها تصور حدثاً ، فقد تجىء أخباراً متعددة تتجاوز ، وليس حدثاً ينمو طبيعياً وتترابط أجزاؤه كل جزء يرتبط بسابقه ، ويؤدي إلى ما يليه ، حتى يبلغ غايته .
ينشأ الحدث غالباً من موقف معين ، يتطور إلى نهاية معينة ، ومع ذلك يظل ناقصاً ؛ لأن تطوره من مرحلة إلى أخرى يفسر لنا كيف وقع، ولكنه لا يفسر لم وقع ، ولكي يستكمل الحدث وحدته ، ويصبح كاملاً ، يجب أن يجيب على سؤال لم ، إلى جانب الأمثلة التالية الأخرى : كيف ومتى وأني وقع ، والإجابة على هذا السؤال تتطلب بحثاً عن الدافع ، أو الدوافع ، التي أدت إلى وقوع الحدث بالكيفية التي وقع بها . وهذا يتطلب بدوره التعرف على الأشخاص الذين قاموا بالحدث أو تأثروا به، فما من حدث إلا كان وراءه محدث، شخص أو أشخاص ، يترتب عليه وقوع الحدث على نحو معين ، والحدث هو الشخصية وهي تعمل وتصور الفعل دون الفاعل يجعل القصة أقرب إلى الخبر المجرد ؛ لأن القصة تصور حدثاً متكاملاً له وحدة ، ووحدة الحدث لا تتحقق إلا بتصوير الشخصية وهي تعمل .
ويجيء تصوير الشخصية ، وهي تعمل عملاً له معنى ، وهذا المعنى ليس مستقلاً عن الحدث ، يمكن أن تضيفه إليه أو تفصله عنه ، وإنما ينشأ من الحدث نفسه ، وجزء لا يتجزأ منه ، وبدون المعنى يصبح الحدث ناقصاً ؛ لأنه يقوم على الفعل والفاعل والمعنى ، وهي وحدة لا يمكن تجزئتها . وقد يبرع القصاص في رسم شخصيات قصته ، ويبدع في تصور ما تقوم به من أفعال ، ومع ذلك تظل قصته ناقصة ؛ لأن الحدث لم يكتمل ، جاء دون معنى . وتكون القصة في هذا أقرب إلى التاريخ ، ويسمى هذ اللون منها القصص التسجيلي. والقصة وحدة متكاملة ، لا يتضح معنى الحدث أو يقوم في جزء متها دون الأجزاء الأخرى ، فالحدث والشخصية والمعنى وحدة ، ويساند كل منها الآخر ويقوم على خدمته .
وكاتب القصة يحكي حدثاً لا يشارك فيه ، ومن الخطأ أن يقرر رأيا أو فكرة في سياق القصة إلا إذا جاءت على لسان أحد من شخصياتها ، وكان لها علاقة بتطور الحدث والتقرير من الأشياء التي تعيب النسيج القصصي عيباً شديداً ، والقصاص الماهر يترجم ما يريد إلى معادل موضوعي ، وبقدر ما يبرع في إيجاد المعادل ، تكون فنية القصة وتميزها . فالكاتب يصور الحدث ولا يشارك فيه ، ويدعنا نرى الأشياء من خلال شخصياته ، ومن ثم وجب أن تجىء اللغة أقرب ما يكون إلى لغة الشخصية التي تتحدث إليها أو يتحدث الكاتب إلينا من خلالها .
والفصحى لا تقف عاتقاً ، وهي على التأكيد أكثر فائدة أو أقل ضرراً إن شئت ، إذا أريد للقصة أن تكون أدباً يتجاوز المحلية واللحظة ، ويدخل مجال العالمية والخلود ، ويأخذ مكانه بين أجناس الأدب الأخرى . والقول بأن الفصحى لا تساعد على توضيح ملامح الشخصية يرده أننا نترجم روائع القصص العالمي ، وفي مختلف اللغات الأجنبية ، باللغة الفصحى ، نقلاً عن لغاتها الأصلية ، وفيها تتوالى شخصيات من فئات شتى ، تعبر عن حقائقها أو أحوالها ، وتكشف عن أعماقها وبواطنها ، وتصور مشاعرها وعقلياتها ، في عربية فصيحة لا نحس معها بأن الاتساق الفكرى للقصة قد مسه خلل ، أو قصر في التعبير عنها فكرة ، وتصويراً .
إن كاتب القصة ، فيما يرى محمود تيمور ، إذا تنقل بين العامي والفصيح في عمل واحد ، سواء في السرد أو في الحوار ، فسح المجال لثغرات وفجوات فنية ، يشعر بها هو والقاريء ، كأنها مساقط الهواء التي يتعرض لها ركاب الطائرات في نواحي الجو ، أو ركاب السيارات في الطريق غير المعبدة ، إذ يفقد العمل مظهر التناسق والتوافق والألفة في التعبير ، كما تفقد القطعة الموسيقية ما يطلق عليه اسم الهارموني.
والحق أن محمود تيمور حاول في البدء أن يكتب الحوار في قصصه باللغة العامية ، ثم استبان فشله ، فعاد إلى الفصحى ، واعترف في مقدمة مجموعته " الشيخ جمعة " : "كنت مقتنعا أولاً أن لغة الحوار في القصص يجب أن تكتب باللغة العامية ؛ لأن ذلك أقرب للواقع في الحقيقة . وقد كتبت فعلاً حوار كثير من أقاصيصي وقصصي بهذه اللغة . ولكني عدت فعدلت عن هذا الرأى ، بعد تجارب عديدة " .
دلتني على خطأ فكرتي ، فالهاوية موجودة بين اللغتين . فإذا استعملناها جنباً إلى جنب ، واحدة للأوصاف وأخرى للحوار وجدنا تنافراً في الكتابة ، يكاد يكون ملموساً ، يصدم القارئ عند انفصاله من لغة إلى لغة .. ولا يوجد هنا إلا واحد من أمرين : وهو إما أن نكتب كل القصة باللغة العربية ، أو كلها باللغة العامية ، لنقضي على هذا التباين الشاذ ، وتحل محله الألفة والتناسب ، وبما أن اللغة العربية هي لغة الكتابة وجب علينا إذن أن نكتب القصة جميعها ، أوصافها وحوارها باللغة العربية . ويجب على الكاتب أن يتوخى في كتابه حواره السهولة ما أمكن ، ولا حرج عليه إذا استعان ببعض ألفاظ أو ببعض جمل صغيرة عامية إذا اضطرته الحاجة لذلك ، وهذا ما اتبعه في كتاباتي القصصية الجديدة ، وعلى هذا النمط أخرج طبعاتي الثانية لمؤلفاتي .
الشخصية
وبرى الناقد الدكتور/ الطاهر أحمد مكي أن أي قصة أو رواية أو مسرحية ، تقوم على حدث ، والحدث يتطلب من يقوم به ، قد يكون واحد أو أكثر ، لكن في نطاق محدد ، فكلما كان عدد الشخصيات محدوداً ، كانت القصة أروع وأقرب إلى الكمال . أحياناً ترد كلمة بطل على سبيل المجاز ، لأننا نحتفظ بهذا المصطلح للرواية والمسرحية حيث يمتد الزمن ، وتتعدد الأحداث ، وتتوزع الأمكنة ، ويحتد الصراع ويطول ، ومن يواصل وينتصر جدير بأن يسمى بطلاً ، أما الأمر في القصة فمختلف ، وقلة من هؤلاء الأشخاص تقوم بدور حقيقي ، وليسوا مجرد ضيوف شرف ، يدخلون في المشهد ، يعرضون أنفسهم ثم ينصرفون ، أي أن أي قصة تحتوي على شخصيات رئيسية وأخرى ثانوية .
تحليلنا لهذه الشخصيات أن نقف عندها ، وأن نتأمل دورها ، كيف شكلها المبدع ، ومن أين جاء بها ؟ هل التقطا من عمل أدبي : كتاباً أو رواية أو مسرحية ، أو من التراث الشعبي ، بطلاً أو أسطورة ، أو اختارها من عالم الواقع ، شخصية عادية من لحم ودم . لكن أي واقع هو ؟ من الريف ، أو المدينة ، أو البادية ؟ من حي شعبي أو استقراطي أو برجوازي ؟ هل هم الطبقة العليا أو الدنيا ، أو يقفون على أكتاف هذه وتحت أقدام تلك ، أو أهم من أناس أدنى من أن ينسبوا إلى طبقة ؟ هل نسخهم من الواقع بأمانة ، أم صاغهم من عناصر مختلفة ، مأخوذة من شخصيات متعددة ؟ .
هل اختفى المؤلف وراء شخصية من هذه الشخصيات يمدها بتجاربه الذاتية الحية ، وينفث من خلالها أفكاره وآراءه ، أم هو موزع بين أكثر من شخصية ؟ هل الشخصية تجسيد لرذيلة كالنفاق والبخل والجبن والانتهازية ، أم اتخذ الجانب المقابل فجعلها الفضيلة نفسها تتحرك على قدمين ، وجعلها مثلاً أعلى للعفة والطموح والواجب والشجاعة وغيرها ؟
أحياناً يسعد المؤلف أن يبالغ ، فيشوه حقيقة مخلوقاته فيجعل منهم شخوصاً جاسية تتسم بالفظاظة المنفرة ، أو يلبسهم أردية كاسية من المثالية العالية ، تصدر في كل سلوكها عن أخلاق ملائكية ، وهو أمر يقع فيه الكثير من الكتاب الشبان ، حتى أولئك الذين يرفعون راية الواقعة ، قلة فقط ، من الفنانين الناضجين تقاوم الرغبة في المبالغة ، فالقصة فن واقعي ، كلما بدا شخوصها أقرب إلى الحياة فعلاً ، ارتقى ذلك بمستواها الفني ، والإنسان في حياته على الأرض ليس ملاكاً مصفى ، ولا شيطانا رجيماً ، وتقديمه على هذا النحو يعد عيباً جوهرياً في القصة ، إذ الواقع أن أيا منهما ، الملاك والشيطان ، خليط من الأمرين ، وإنما نعتبر الشخص ملاكاً حين تغلب عليه الصفات الخيرة ، وشيطانا حين تمثل الرذيلة الجانب الأوضح في حياته ، أي أن حياة كل منهما مزيج مما هو ايجابي ومما هو سلبي ، مما هو طيب ومما هو خبيث .
المكان والزمان
إذا انتهينا من دراسة المادة الإنسانية ندرس المسرح الذي جرت عليه الأحداث ، الوسط الذي كانت تتحرك عليه هذه المجموعة من الشخصيات . وأول ما يرد في الخاطر عند دراسة هذا الجانب أن نتبين : هل جاء رسم المبدع له وليد ملاحظة مباشرة أو غير مباشرة ، في الحالة الأولى يرد السؤال الآتي : هل التقط ملاحظاته عن الأرض التي جرى عليها الحدث من خلال رؤية مباشرة أو من خلال رحلة خيالية مختزنة في الذاكرة ، وفي الحالة الأخرى ، غير المباشرة ، يتناول البحث الوثائق التي اعتمد عليها واستخدمها ، مثل كتب الجغرافيا والرحلات والصحف والروايات .
مع مراعاة أن مسرح الأحداث لا يشمل الأمكنة فقط ، وإنما يتجاوزها – بداهة – إلى الوسط الذي يشغله ، والجماعات التي تعمره ويرد السؤال عليها : هل عرفها المؤلف مباشرة ؟ أو اعتمد على إشارات الآخرين ، أو على الحدس والظن ؟ هل عبر عنه كما هو ؟ أم دخل عليه شيئاً من التغيير ؟ جمّله ، أو قبّحه ، أو أضاف إليه الكثير مما ليس فيه واقعاً .
قد تجرى الأحداث في شارع من مدينة ، أو في طريق يؤدي إلى الريف ، أو في حي شعبي ، أو في قرية صغيرة ، ويغلب أن يكون مكانا عاماً متاحاً لكل الناس : مدرسة ، جامعة ، مقهى ، حديقة ، سينما ، ويشيع استخدام وسائل المواصلات بأنواعها المختلفة : العربات والقطارات والحافلات والبواخر ، وجاء توظيف القطار بتأثير واضح من الأدب الروسي ، حيث نلتقي بذلك كثيراً في قصص تشيخوف ( انظر قصته شقاء ، وقصة محمد تيمور: في القطار) يمكن أن نقف عند اختيار المكان ، ماذا كان وراء اختياره ؟ هل فرضته طبيعة الأحداث ؟ أم ثمة ذكريات حنون ارتبطت بالمكان فاض بها داخل المبدع ، فأراد أن يقف به ، وأن يبكيه طللا ؟ أو أنه مكان أحب أن يعيش فيه يوما فلم تهيئ له الأيام أن يحقق أمانيه واقعا ، فعاشها خيالاً ، وسجلها أدباً ، والأغلب أن يتم ذلك بغير وعي منه .
وربما كان هذا المكان مسقط رأسه فارقه ولم يعد إليه ، أو عاد إليه بعد زمن طويل تعلقت به مشاعره ، فأراد أن يخلده ولو في قصة ( انظر قصة الغبار لعبد الوهاب الأسواني ) ، أم أن المكان ارتبط بحدث ما ، تاريخي أو وطني أو سياسي أو اجتماعي ، فألهمه الأحداث نفسها ؟
وقد يكون الاختيار لأسباب ذاتية خالصة ، كأن يعجب الكاتب بالمكان جمالاً طبيعياً ، أو مناخاً اجتماعيا ، أو سكانا ومعماراً ، وأجواء إنسانية شعبية ، وكل ذلك كان وراء جانب كبير من أعمال نجيب محفوظ في قصصه ورواياته .
ويبقى أن نقف ونسأل : هل وفق في اختيار المكان ، فجاء ملائماً للأشخاص والأحداث ، وأنه أحسن وصفه وتقديمه ، وطبعاً لا ننسى توفر وحدة المكان في القصة ، وعدم الخروج عليها إلا من خلال الوسائل الفنية التي سوف نعرض لها حين نتحدث عن الزمان .
فيما يتصل بالزمان ليس لدينا ما نقف عنده مع القصاص غير مساحة الزمن ، وقد درسنا ذلك الجانب ، ونحن نتحدث عن تحديد الخصائص ، وأغلب النقاد يرون أن الحد الأقصى يوماً كاملاً ، أربعة وعشرين ساعة ، ومن تقدم تقنيات القص التي ألمحنا إليها من قبل ، وسنشير إليها فيما بعد ، أصبح في مكنة المبدع أن يوسع مساحة الزمان والمكان ، أما امتدادهما ، وغيبة الوحدة ، بعيداً عن هذه التقنيات فيهبط بالقصة إلى مستوى الحكاية .
تقنيات السرد
ويشير المؤلف إلى أنه يمكن التوصل إلى بناء القصة في ضوء قواعدها المقررة ، التي أجملناها في تحديد الخصائص ، بأكثر من طريقة :
*أن تجىء في الضمير الأول ، ضمير المتكلم ، أي على لسان الراوي ، وهو الشخصية الأولى في القصة : ( البطل مجازا وفي الرواية ) ، وفي هذه الحالة يصعب التمييز بين آراء الكاتب الشخصية ، وبقية الآراء الأخرى التي يتطلبها تطور الحدث .
*وقد تجيء القصة في الضمير الثالث ، ضمير الغائب ، أي أن المبدع يتحدث عن غيره ، ويقف بعيداً عن الأحداث ، ولا يستطيع أن يقحم نفسه فيها ، وإذا أراد أن يعلق أقام معادلا موضوعيا ، بأن يوجد شخصية أخرى مشاركة ، يقول على لسانها ما يريد ، وهذا البناء يمنح الكاتب مجالاً فسيحاً كي يحرك الأحداث والأشخاص على النحو الذي يبغيه الكاتب ، وإلى المدى الذي يجرى به خياله .
*وقليلاً ما تأتي القصة في الضمير الثاني ، أي ضمير المخاطب ، وذلك حين تأخذ شكل رسائل متبادلة بين شخصين أو أكثر .
وإذا كان قانون الوحدات الثلاث : الحدث والمكان ، والزمان ،ظل مراعى منذ نشأة القصة الحديثة عالمياً في القرن التاسع عشر ، ونشأتها عربياً منذ مطلع القرن العشرين ، فإن الكتاب رأوا فيه قيداً مرهقاً ، في العالم الغربي أولا ، وفي العالم العربيى فيما بعد ، فابتدعوا من الوسائل الفنية ما يعينهم على التغلب عليه ، دون المساس بقواعد القصة الأساسية ، فاستحدثوا : تيار الوعي، والمناجاة ، والحوار الداخلي ، والاعترافات ، والمذكرات والرسائل ، وتوظيف الحلم ، وأسلوب الارتداد ، وأسلوب التداعي ، والقصة الدائرية ، وكل هذه التقنيات لها نماذج فيما يضم هذا الكتاب من قصص .
الأخطاء والعيوب
ويرى الدكتور مكي : أن أي فنان ، مهما كان عبقرياً يمكن أن يسهو وأن يزل ويخطيء ، وإذن فليس هناك من يعلو على النقد والمؤاخذة ، والإشارة إلى ما في عمله من نقص أو هفوات على أن هذا لا يقلل من قيمته ، لأن المبدع لا يغض من شأنه مثل هذه العيوب العابرة ، فنحن لا نقيمه بقصة واحدة ، ولا نحكم على هذه القصة الواحدة بهفوة فيها ، وإنما نحكم على القصة كلاً ، وعلى إبداعه إجمالاً ، لا نتردد في الإشارة إلى ما نراه خطأ ، ولكن لا نهول من أمر هذا الخطأ ؛ ولا نقلل من خطره ، وإنما نراه ، ونحكم عليه بموضوعية وحياد . أوضح هذه العيوب التي يمكن أن نأخذها على المبدع :
- إهمال قانون الوحدات الثلاث بغير الوسائل الفنية .
- تدخل الكاتب مباشرة ، مصححاً ، أو معلقاً ، أو مبرراً ، مثنياً أو ناقداً .
- المبالغة المفرطة في رسم الشخوص والأحداث .
- الأخطاء التعبيرية والأسلوبية والنحوية .
- الحشو .
بانتهاء تحليل المحتوى والشكل ، تأتي مرحلة التقييم النهائي ، ويتمثل في الحكم على العمل فنياً ، وإجمالاً في ضوء القواعد التي ألمحنا إليها ، وربما في ضوء قواعد علمية أخرى يعرفها الدارس .
ثم يضع النقطة النهائية ، بأن يعلق الباحث على القصة ذاتياً ، إن أراد بأن يقول فيها رأيه الشخصي ، معبراً عنه في ضوء ما يؤمن به من آراء سياسية أو دينية ، أو اقتصادية ، إعجاباً أو معارضة ، وهذا الرأي الذاتي لا يقيده في إبدائه إلا شئ من المنطق فهو ينطلق فيه من ذوقه ومزاجه ، واتجاهاته ، على أن يكون موجزاً ومختصراً ومبرراً .