تنوع الخطاب الشعري ودلالته -2-
تنوع الخطاب الشعري ودلالته -2-
ذ. محمد دخيسي - وجدة المغرب
2- الشكل الثاني، الخطاب الدائري والبحث عن بؤرة النص:
يمكن النظر إلى سمات النص الشعري المعاصر من خلال بنياته الأسلوبية، كما يستطيع الدارس القبض على النقطة المحولة، أو المحرك المسير لوحدات النص باختبار مبدإ الخطاب الشعري. لذا كان الخطاب الدائري حلا وسطا للمبدع والدارس على السواء. بمعنى أن الشاعر يستغل بؤرة أساسية أو لازمة ً شعرية يعيدها كل مرة في نصه؛ كي يؤكد أولا على أهميتها ويضيف إليها كل مرة شيئا جديد، ثم ليعدِّل جزءا من الصورة حتى تـَظهر في شكل نهائي عند نهاية النص. إن الخطاب الدائري الذي سنضعه رهن التطبيق؛ هو ذالك الخطاب الذي ينطلق من نقطة (أ) ولا يصل مباشرة إلى نقطة (ي) في نهاية النص، لكن يجعل النقطة (أ) بؤرة يعود إليها في كل مرة للتذكير بها.
ومن الملاحظ أن الشاعرين علي العلوي وعبد القادر زرويل اكتشفا أهمية هذا الخطاب وجعلاه مشـْتلا تنبت منه دلالاتٌ مختلفة. ونبدأ بالشاعر علي العلوي في ديوانه الأول (أول المنفى)، في قصيدة (جرح الذاكرة)[1] حيث يبدأ المقطع الأول ب:
كيف أنساك صديقي
ليعود في المقطع الثاني:
يا صديقي
ثم في قصيدة (جرة السنابل)[2] إذ يستهلها ب:
سكينة
كانت تحلق...
والمقطع الثاني:
فتلك سكينة
بين النـُّواح..
والمقطع الثالث:
سكينه
أعرف أن البلاد..
والأمر ذاته في القصائد التالية: لوعة الروح(ص- 47)، وسفينة الصمت (ص- 63)، و موت جديد ( ص- 67)، و ظل الفراغ ( ص- 71)، و لحن الرماد ( 77). وقد تابع الشاعر النهج ذاته في الديوان الثاني (شاهدة على يدي)، فاختار أن يؤلف أغلب نصوصه وفق نسق الخطاب الدائري، والملاحظة الجديدة هنا أن التجربة اختمرت في ذاته فأصبح يغير اللازمة أو البؤرة النصية بإحدى مرادفاتها حتى لا يقع في رتابة النصوص كاملة. فنقرأ مثلا في مستهل قصيدة (شمس الغروب)[3]:
مرة أخرى/ رآه خائفا من صمته
والمقطع الثاني:
مرة أخرى/ رأيت النار في أحشائه
والمقطع الثالث:
مرة أخرى/ تجلت في مدى عينيه
لكن يغير هذه الصيغة في المقطعين الثالث والرابع ويبدأها ب: (هكذا). أما القصيدة التي تليها ( عيون الألم)[4] ، فقد اختار التنويع شكلا من أشكال الخطاب الدائري، فمن فعل الأمر: (تعالوا) في مقطعين أولين، إلى (قد عرفتكم) في المقطع الثالث والرابع. ويسر الشاعر علي العلوي وفق هذا النمط في جل نصوصه: سفر في الحفر (ص – 17)، ونشيد المساء (ص- 23)، وبحر الكلام (ص- 27)، أرض الميلاد (ص- 31)، وقمر الأرق (ص- 57)، الموت بصدى الريح (ص- 69)، صمت النداء (ص- 73)، حزن على غصن منسي (ص- 77)، شاهدة على يدي (ص- 89).. فهذا الجرد الأفقي يؤكد أن الشاعر يختار نمط الخطاب الدائري عن وعي منه، سواء بإعادة اللازمة للتأكيد على أهميتها، أم من أجل التذكير بموضوع النص أو نوع المخاطب وهويته، أم بالتنويع في صيغة البؤرة وتحولاها تركيبيا أو بنائيا.
إذا انتقلنا إلى نموذج الشاعر عبد القادر زرويل، فتشدنا نصوصه لقراءتها لأنها تحمل تنوعات دلالية وتركيبية موزعة بطريقة تشكيلية، كأننا أمام لوحات فنان اختار الألوان وأنواع الصباغة فشكلها حسب رغباته الذاتية وما تمليه تيماته الموضوعية.. وحتى نقترب أكثر من تفسير هذا المدخل، نقول إن الشاعر زرويل استغل نمط الخطاب الدائري أسا واضحا في جل نصوصه تقريبا، لكنه مع ذلك تبقى غير واضحة تماما، لأنه يستغل في غالب الأحيان المرادفات والتراكيب الرديفة.
نقرأ في أول قصيدة له (انفجار)[5]:
لا تسأليني لماذا الفراق؟
ثم في مقطع موال:
لا تسأليني لماذا الثورة؟
وفي مقطع ثالث:
لا تسأليني إذن لماذا الانفجار؟
وفي قصيدة (المدينة المعلقة)،[6] حيث يستهلها بقوله:
يا مدينة هلامية
وفي المقاطع الموالية
يا مدينة غريبة الأطوار / يا مدينة تنافق/ يا مدينة تبسط قبضتها../ يا مدينة بلا قلب/ يا مدينة تقذف أبناءها/ يا مدينة تتقنع بالمواطنة/ يا مدينة تحذف من قاموسها/ يا مدينة تزرع ألف ثقب/ يا مدينة أوقدت شمع الفقراء/ يا مدينة ألحق فيها أصير/ يا مدينة الحلم..
وفي قصيدة والطفل الذي لا يحرق (ص- 19)، وتراتيل الليل (ص- 46)، يستغل النداء (يا سعد)، وقصيدة السفينة التائهة، (ص- 69)..
خاتمة:
تشكل هذه النماذج حالة من وضع عام، ويعتبر هذا التقديم مشروعا لدراسة أشكال الخطاب الشعري المغربي المعاصر. لذلك لا يمكن الزعم الإحاطة التامة بكل عناصر التحليل. كما يمكن التأكيد في الوقت ذاته على خصوصية هذا الخطاب عند الشعراء المحتفى بهم. وقد أضحت الخلاصات المتوصل إليها إشكالات ستستثمِر ولا شك أفقا جديدا للبحث والدراسة..
حفل توقيع الدواوين الشعرية: وجدة السبت 27 مارس 2010
أول المنفى- شاهدة على يدي لعلي العلوي
مقام الصدى: محمد ماني
حرقة الظلام: عبد القادر زرويل
مارية، مدارات النقطة الحمراء لعبد القادر الطاهري
حبيبتي قطعة سكر لخالد مزياني
قمر العتاب للطيب علو
[1] - علي العلوي ، أول المنفى، ص- 25
[2] - نفسه، ص- 37
[3] - علي العلوي، شاهدة على يدي، ص- 9
[4] - نفسه، ص- 13
[5] - عبد القادر زرويل: حرقة الظلام، ص- 24
[6] - نفسه، ص- 47