قصيدة ونقد

قصيدة ونقد

عمر أبو ريشة

في قصيدة: النسر الهرم

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

أصـبـح  السفح ملعبًا iiللنسور
إن لـلـجـرح صيحةً فابعثيها
واطـرحي الكبرياءَ شِلوًا مُدمَّى
لـملمي يا ذرا الجبال بقايا iiالن
إنـه لـم يـعد يكحل جفنَ iiالن
هـجر  الوكرَ ذاهلاً وعلى عي
تـاركًـا خـلفه مواكب iiسُحْبٍ
كـم أكـبـت عليه وهْي iiتندِّي
هبط السفحَ.. طاويًّا من iiجناحي
فتبارت  عصائبُ الطير ما iiبي
لا  تطيري جوابة السفح iiفالنس
نـسَـلَ  الوهن مخلبيه iiوأدْمت
والـوقـار  الـذي يَشيعُ iiعليه
وقـف  الـنـسرُ جائعًا iiيتلوى
وعِـجـاف  البغاثِ تدفعه iiبال
فسرت فيه رعشةٌ من جنونِ iiال
ومضى  ساحبًا على الأفق iiالأغ
وإذا  مـا أتـى الغياهبَ iiواجتا
جـلـجلت منه زعقة نشت iiالآ
وهـوَى  جثةً على الذروة الش
أيـها  النسرُ هل أعودُ كما iiعُد




















فأغضبي يا ذُرا الجبالِ iiوثوري
فـي سـماع الدني فحيحَ سعيرِ
تـحـت أقدام دهرك iiالسكير!!
نَسروارمي  بها iiصدورالعصور
نـجـمِ تـيـها بريشِهِ المنثور
نـيـهِ شيء من الوداع iiالأخير
تـتـهاوى  من أفْقها iiالمسحور
فـوقـه قبلةَ الضحى iiالمخمور
هِ  عـلـى كـل مَطمح iiمقبور
ن  شَـرود مـن الأذى iiونَفور
رُ  إذا مـا خـبرتِهِ لم iiتطيرِي
مـنـكـبيه  عواصفُ المقدور
فضلةُ الإرْثِ من سحيقِ الدهور
فـوق شـلوٍ على الرمال iiنثير
مخلبِ  الغض والجناح iiالقصير
كِـبـر  واهـتز هزة iiالمقرور
بـر  أنـقـاض هيكل iiمنخور
زَ  مدى الظن من ضميرِ الأثير
فاق حرَّى من وهْجها iiالمستطير
مَّـاءِ في حضنِ وكُرِهِ iiالمهجور
تَ أم السفحُ قد أماتَ شعوري؟!

* * * *

العناصر والدلالات الرمزية في القصيدة:

عمر أبو ريشة شاعر رومانسي، مغرق في الرومانسية، وهو من المكثرين في الشعر العربي . فهو من الذين ضربوا بشعرهم في كل المجالات، ورومانسية الشاعر ليست تمردًا على القالب والشكل ولكنها رومانسية في الوجدان الحي الناضج، والشعور الفني الفياض، ولعله أقدر شعراء عصرنا في معايشته الحية للتجربة.

كما أنه رومانسي الخيال يحرص على الرسم بالتعبيرات المتكاملة , فتأتي رؤيته الشعرية لوحاتٍ ناطقة , يسهل على الفنان رسمها بفرشاته، وإن صعب على غير أبي ريشة رسمها بكلماته، على عكس (محمود حسن إسماعيل)، فصوره تهويمات صوفية غارقة في العبير والضباب الغامض مما يصعب على القارئ والفنان تمثلها.

ورومانسية أبي ريشة إذن تبرز في أقوى شكلها في مظهرين:

الأول: الشعور المتوهج النابض الذي تحس بحرارته وتدفقه من أول كلماته.

الثاني: التصوير الفسيح الممتد مستمدًا من أصول عربية عريضة , وأصول غربية أعان عليها ثقافة الشاعر الواسعة.

والقصيدة في مجموعها تحكي قصة نسر أصابته الشيخوخة , واستبد به المرض , وأكله العجز والجوع، فانحدر إلى السفح لا يملك من الوقار إلا بقية من الماضي السحيق، وتجمعت عليه تافهات الطيور في غيبة قدرته، تنقر فيه وتعبث به، فعز على هذا العزيز الذليل أن يلفظ أنفاسه مقهورًا أمام أذلين:

1 السفح: وهو درك لا يرضاه أمثاله. وكيف يرضاه وهو الذي كان يكحل جفن النجم فيها بريشة المنثور؟؟.

2 بغاث الطير: التي أخذت تدفعه بالمخلب الغض والجناح القصير، وهي التي ما كانت لتجرؤ عليه ولا على مجاله وهو في قوته، وعنفوانه , أو بعض قوته وعنفوانه.

واتساقًا مع ماضيه المجيد في العز والقوة يأبى النسر العظيم، وقد فقد قدرة الحياة على القمة إلا أن يلفظ أنفاسه , ويهوي جثة لا على السطح، ولكن على الذروة الشماء في حضن وكره المهجور.

 وهنا ينفسح هذا الخيال العظيم للرمز العظيم: فالشاعر يستعمل السفح والذرا وبغاث الطير والنسر ومشهد الاحتضار كرموز لمفاهيم أثْرَى وأوسع من حقيقة الاستعمال القصصي المباشر.

لقد نظم الشاعر قصيدته هذه سنة 1938م، وكان الوطن العربي كله محروبًا محتلاً بكل قوى الاستعمار العالمي: الإنجليزي، والفرنسي، والإيطالي، والأسباني، والصهيوني . وبالنسبة لوطنه سوريا انكسرت آخر انتفاضاته، وهي انتفاضة إبراهيم هنانو الذي قضى نحبه سنة 1936م، ورثاه الشاعر بقصيدة من أروع قصائده . وكانت الهجرات اليهودية تتدفق على فلسطين من شتى أنحاء العالم، وانكسرت الثورة في فلسطين، واستشهد عز الين القسام سنة 1935م، وبدأت العصابات الصهيونية في تنفيذ مخططاتها الإجرامية.

وعلى المستوى العالمي كانت نذر الحرب العالمية الثانية تطرق الأبواب . وفي ظل هذه الظروف العربية، والعالمية القهارة نظم الشاعر قصيدته ليقول أشياء وأشياء أبعد مما ينطق به هذا الواقع القصصي المباشر المحسوس:

1 فالنسر هنا رمز للعربي الذي فقد كل شيء :

فقد أرضه، وفقد ثروته، وفقد قوته، وفقد كيانه الجمعي، وتكالبت عليه كل الظروف الظالمة المجحفة , فضاع حاضره، وتهدد مستقبله، ولم يعد يملك إلا أطلالاً من ذكريات عزة الماضي الباهر العزيز.

ويصرخ الشاعر بالذرا أن تغضب للمكانة المغتصبة , وتصعق الدنيا بلهيب الغضب ... إلخ، وتتوالى الصرخات الآمرة الثائرة في نسق ينبض بالتوهج الوجداني الرومانسي دون توقف (اغضبي ثوري اطرحي لملمي ارمي ... إلخ).

2 ويغاث الطير، رمز (للبشر الفقاقيع) من المستعمرين وأذنابهم، إنهم لا يملكون قوة الكيان , ولا نهضة الوجدان، ولا إصرار الذات، ولا ثورة اليقين، ولا موهبة الصمود، إنهم لا يملكون عراقة الماضي، ولا نزاهة الحاضر، ولكن إرثهم الأوحد (قدرة الانتهاز) في غيبة القدرة العربية.

وكأنى بالشاعر يريد أن يقول: إن أعداءنا ينتصرون علينا لا لقوتهم الذاتية، ولكن لضعفنا وغفوتنا وسكوتنا عن حقنا.

3 السفح: رمز (للمكان الدون).. رمز لطينية الرضاء, وهوان الاستسلام.

4 الذروة: إنما هي المثل الأعلى لحياة يجب أن يتطلع إليها الوجدان العربي في كل لحظات الحياة , حتى لحظات الهزيمة والاحتضار.

وصدق إيلياء الحاوي في كتابه عن عمر أبي ريشة حين قال: /161 "إن الشاعر في هذه القصيدة مجد عظمة الإنسان وكبرياءه، ووقف بها متمردًا على المصير، مساويًّا بين الكرامة والحياة . ومساويا بين الهوان، والموت، إنه يرى أن الإنسان هو سيد الوجود يرفض حتمية القدر والعاهة، والداء، والفقر. ويعانق من دونها الحرية الكاملة بالموت الاختياري على ذرا الطموح والإباء.