قراءة في قصيدة (ليالينا عقيمات .. ولكن)

للشاعر يحيى السماوي

يحيى السَّماوي

[email protected]

تهاني المبرك

تأمّلني طويلا ً... ثمَّ قالا

أظنك تشتكي داءً عُضالا

شحوبٌ وارتجافُ يدٍ وخطوٌ

لثِقل ِ همومِهِ إنْ سارَ مالا

دواؤكَ في العراقِ فإنْ تعافى

وغادَرَهُ الغزاةُ حسُنتَ حالا

لا وجود لشخص يتأمل الشاعر , ثم يبدي قلقه عليه , معللا ما صار إليه , مقدما له حلا يزيد من وجيعته الذاتية!

هذا الحوار نبع من داخل البلبل العراقي الشادي ! , وذاك التأمل انبعث منه وارتد إليه . وما محدثه إلا قناعٌ شفاف للأنا . وسنرى كيف راوح الشاعر بينه وبين محدثه بما يكشف عن حدة الصراع الداخلي. وسنعرف متى يتولى الشاعر دفة الحديث ومتى يُنطق ذاك الآخر , وسبب ذلك.

..........

( تأملني طويلاً...) إذا سلمنا بأن المتأمل للشاعر هو الشاعر عينه فلماذا يطول تأمله؟

أحيانا يستطيع الإنسان فَهْم العالم الخارجي, ولكن الأمر يلتبس عليه عندما يقف ليفهم من هو وماذا يريد ، ألم يقل أوسكار وايلد "إنني الإنسان الوحيد في العالم الذي أتمنى لو عرفته جيدًا!" .

وقد وُضِعَتْ بعد هذه العبارة "تأملني طويلاً" ثلاث نقاط(...) . وتسمى هذه العلامة التيبوغرافية علامة حذف ؛ أي أن هناك شيئا تُرك عمدًا لتنوب عنه هذه النقاط المتوالية. وهذه العلامة تستخدم كثيرًا في النثر , وقليل استخدامها في الشعر , وبخاصة أنها قد تزيد من طول البيت فيغدو غير متناسق مع طول غيره . ولكنها هنا , وهنا تحديدًا تضفي معنى آخر على التأمل الطويل ؛ معنى لا يُرسم بالحروف ولا يوصف بالكلمات يكتسح بقوتِه الهادرةِ في قلبِ الشاعر الفضاءَ الكتابي , تاركا مكانا شاغرًا يتمدد فيه , معطيا للتأمل الطويل أكثرَ من معنى التفكر , فالتأمل هنا بدا مع هذه العلامة حيرة وارتباكا. والدليل مجيء كلمة (أظن) , وأسلوب الالتفات من ضمير المتكلم(تأملني) إلى المخاطب (أظنكَ)إلى الغيبة(همومهُ) إلى المخاطب(دواؤكَ), وهو شارة على القلق المفرط والحيرة.

وناسب أن يأتي البيت الثاني مرفوعا لما ينطوي عليه من أوجاع ووهن وعلل متراكبة؛ فحركة الرفع حركة خشنة فيها معنى الكرب والقسوة .

.............

وحيث تواجهنا كل صور العجز في البيتين الأولين : الشحوب , ارتجاف اليد(اليد رمز للقوة) , واضطراب السير , يرسل الشاعر قصيدته بيتا بيتا لجس مختلف المواجع والندوب. فليست القضية هي احتلال العراق , ولا خذلان الأصحاب , ولا الصدوع الداخلية للوطن , ولا غربة الشاعر ذاته . إنها مصيبة احتشدت فيها ضروب المصائب وأشد المصائب وأمرها هو إحساس الشاعر بالعجز :

ولستَ بذي خيولٍ ضامراتٍ

تصدُّ بها عن الوطن ِ الوَبالا

وتأكيدًا للعجز تأتي هذه النصيحة (أطل دعاءً), التي تبدو أنها محاولة للخروج من المأزق, لكنها سخرية من الواقع المحزن الملبد بالذل ؛ فالمؤمن لا يركن إلى الدعاء وحده بل يقرن الدعاء بالعمل , وهذا هو هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وتتعزز السخرية مرة أخرى بالتهوين من شأن الطغاة :

فيا ابنَ الغربتينِ أطِلْ دُعاءً

بنِيَّة ِ مُسْتغيث.. وابتِهالا

ويا ابنَ الغربتين ِ وكلُّ عات ٍ

يُطالُ وإنْ تحَصَّنَ واسْتمالا

فيا ابْنَ الغربتين ِ أمنْ فِراق ٍ

جزعْتَ وأنتَ لم تعرفْ وصالا؟

كأنكَ قدْ خُلِقتَ إلى شِراع ٍ

وريح ٍ واحْترَفتَ الارْتِحالا

ولأن الشاعر يقاسي الغربة بضروبها الموحشة , غربة ببعده عن الوطن , وغربة في ظل انتمائه إلى الوطن , يتكرر النداء ثلاثا , ويؤازره الاستفهام الإستنكاري لرصد ثورة الألم وتأزم العاطفة .

............

ثم يبدأ الشاعر بكيِّ جروحه النازفة ,كيات حارقة من الدرجة الثالثة , رغبة في إماتة الإحساس عنده:

تَبَلدْ يا عليلُ .. فرُبّ عقل

يُزِيدُ لدى العليل ِ الاعتلالا

فلا تأملْ من القاصي نصيرًا

إذا الدَّاني يُريدُ لك الزَّوالا

مضى زمنُ الشهامةِ واستكانتْ

ضوامرُهُ فأدْمَنتِ الظِلالا

" تأمْرَكتِ" العَراقةُ في نفوس

تبيعُ بنصف ِدولار ٍ " عِقالا "

تبارِكُ للغزاة ِ منىً ورأيا

وتشحَذُ للمُغيرينَ النِّصالا

تبَدَّلت ِ النفوسُ وعَفرَتها

مطامِعُها فغيَّرَتِ الخِصالا

ولوَّنتِ الوجوهُ فلستَ تدري

أ"معتصما" تُحَدّثُ أمْ "رُغالا"

لعِنْتَ أبا رُغال ٍ بئسَ جاهًا

كسبْتَ وبئسَ منزِلة ًومالا

فتبا للدليلِ يقودُ زحفا

على أهليهِ غيًّا أو حَلالا

عَجِبْتُ على الخيانة أنْ تسمَّى

وقدْ فاحتْ عفونتها نضالا !

وفي هذا المقطع تفوق الأفعال الماضية الأفعال المضارعة , في حين يرد فعل الأمر مرة واحدة فقط(تبلد) .

وتغليب الفعل الماضي ,مع أن الحديث منصب على الحاضر, هو دليل على كره الواقع , ومحاولة لاستبعاد الحاضر , فكأن الشاعر يود لو أن هذا الواقع المدجج بالمخازي ماض قد انقضى ومضى.

وإيغالا في التعبير عن كره الواقع يتولى الحديث في هذه الأبيات ذلك المحاور الوهمي معريا الواقع موجها الخطاب إلى الشاعر , فكأن الشاعر عافت نفسه أن تُروى الحقيقة المرة على لسانه فأزاحها إلى ذات أخرى.

ويستمر جلد الذات المثخنة بالجراح ويستمر التصعيد من(تَبَلدْ يا عليلُ .. فرُبّ عقل يُزِيدُ لدى العليل ِ الاعتلالا ) حتى قوله (ولوّنتِ الوجوهُ فلستَ تدري

أ"معتصما" تُحَدّثُ أمْ"رُغالا") وهنا تبلغ العاطفة أوجها حين تتقابل الأضداد(المعتصم /رغال) ويحدث ما يشبه الانفجار, فتُصب اللعنات وعبارات االزجر (لعنت-بئس-بئس-تبا) . على أن الفعل (عجبت) يعدى ب(من) وليس بحرف (على) دون أن يلحق البيت كسر .

............

ثم.. تهدأ النفس بعد هذا التفريغ العاطفي العنيف , وبعد مواجهتها بالرزايا المفزعة مرة تلو المرة حتى ألفت حقيقتها المروعة , وانطفأت حدة الإحساس بعض الشيء, وأدرك العاطفة بعض الهدوء , فيحدث تحول في الخطاب الشعري من التنديد بالواقع وتعنيف الآخر والعويل والصخب إلى نظرة تشوفيَّة إلى المستقبل وأمل. لقد كان عبور الواقع بكل ما فيه من ألغام وفخاخ ومستنقعات موبوءة شرطا أساسيا للوصول إلى الضفة الأخرى ؛ أي الاتزان العاطفي.

يظلّ ثرى العراق ثرًى وَلودًا

وإنْ عَقمَ الزمانُ أو استحالا

فما خذلتْ مفاوِزُهُ " المثنى "

ولا نسِيَتْ مآذنهُ " بِلالا "

ليالينا عقيمات ٌ... ولكن ْ

سَتقفوها صباحاتٌ حُبالى

فلا تقنط ْ هي الأرحامُ حتما

سَتُنجِبُ للمُلمّات ِ الرّجالا

يشنون الضياءَ على ظلام ٍ

ليغدوَ قيحُ دجلتنا زُلالا

إن طاقة شعرية هائلة وظفت في رسم العراق بعين المستقبل ؛ العراق الذي يتمناه السماوي , وأتمناه أنا , ويتمناه كلُّ عربي حر أبي . والحديث عما سيكونه العراق يرد على لسان الشاعر من حين قوله(عَجِبْتُ على الخيانة أنْ تسمَّى) إلى آخر القصيدة ؛ لأنه يمثل ما يريد.

هذه الرؤية المشرقة للعراق ابتدأت بالفعل الناقص ( يظل) , الدال على حدوث الفعل في النهار ؛ والنهار هنا يعني النصر ..زوال الظلم ..ووضوح الرؤية (يظلّ ثرى العراق ثرى وَلودًا.. وإنْ عَقمَ الزمانُ أو استحالا )

والشاعر يؤكد قدرة العراق على استعادة مجده بذكر ماضيه , معتمدًا أسلوب النفي للإثبات , فهو لا يقرر حقيقة نصرة مفاوز العراق للمثنى وإنما ينفي عنها خذلانها إياه , ولا يثبت أن مآذنها دوت بأذان بلال بل ينفي عنها نسيان ذلك (فما خذلتْ مفاوِزُهُ المثنى ..ولا نسِيَتْ مآذنهُ بِلالا) . إنه ينفي عن وطنه النقائص ليثبت له الفضائل , وهذا يجعل من الشاعر يقف موقف الدفاع عن وطنه , حيث تكون ثمة شبهة مثارة تحتاج إلى نفي وتمحيص , فينطلق الشاعر مزلزلاً تلك الشكوك مبددا لها بالنفي.فهل كانت هذه الشكوك منسربة من أعماق الشاعر فاحتاج إلى هذا النفي لنزع الفتيل من تلك الشكوك وطمأنة نفسه؟

ربما..

ولعل اجتماع الأضداد في هذا المقطع بصورة ملفتة يؤكد ذلك (ولود/عقم ) , (ليالينا عقيمات ٌ/ صباحاتٌ حُبالى ) , (تقنط ْ هي الأرحامُ/سَتُنجِب) ,(الضياءَ / ظلام) , (قيحُ / زُلالا). كأني بالشاعر يحاول إبطال إحباطات الواقع التي تنهشه وتهزه حينا بالإلحاح على نصر العراق . وأيضا بالتركيز على فعل الإنجاب , ولو تأملنا لوجدنا أن معنى الإنجاب , بمختلف الألفاظ الدالة عليه, يتوافر عليه الشاعر بقوة في هذا المقطع (ولود – حبالى- لا تقنط الأرحام - ستنجب) فالإنجاب أقوى صور الحياة التي تتحدى الفناء أبدًا وتهزمه. وتلك محاولة للإجهاز على اليأس وما يثيره الواقع من إحباط.

وانظر كيف صير الشاعر الثرى الولود في مقابل الزمان العقيم , فالثرى (أرض الوطن) مُنح صفةً من صفات الإنسان (الولادة) وجرى أنسنته للإيحاء باستمراره وبقائه . بخلاف الزمان العقيم ( احتلال العراق) حيث الزمان متحول ولا بقاء له ولا عَقِب له , وتلك رؤية تفاؤلية نسجت حول الأزمة.

وللمرة الأولى وللمرة الوحيدة- أيضا- يرد ضمير الجمع  ( نا) ولكن في معرض الذم (ليالينا عقيمات... ), مما يوحي بأن القضية مغموسة بمحبرة النفس تخرج مشربة بذاتية مفرطة. وتتكرر علامة الحذف مما يدل على إحساس الشاعر بتناهي هذه الليالي في العقم وانعدام ما فيها من خير .

إن هذه القصيدة قبل أن تكون إبداعا هي محاولة للاستشفاء من أوجاع الذات. ولذا جمع العنوان بين الداء والدواء(ليالينا عقيمات ...ولكن ).

ويابلبل العراق لا تلم صدام! فإن أمريكا كانت ستغزو العراق بقي صدام أم رحل .

عابق ودي لإبداعك

................

1- أبو رغال : هو العربي الملعون الذي كان الدليل لأبرهة الحبشي في حملته لهدم الكعبة .

2- إشارة إلى خطيئة صدام حسين برفضه فكرة التنحي عن السلطة لتجنيب العراق الحرب الكارثية والاحتلال .

3- ستقفوها : ستتبعها