إيقاعات على أوتار البيئة
وقفة نقدية مع ديوان :
للشاعر المهندس محمد الفقي
أ.د/
جابر قميحة1))
شاعر هذا الديوان هو " محمد عبد القادر الفقي " . والهندسة مهنته ، والثقافة الموسوعية العالية في مجال العلوم التجريبية ، والعلوم الإنسانية من أهم مجالاته وملامحه . وهو قبل كل أولئك شاعر مطبوع ، يُضم ــ تايخيا ــ إلى الشعراء العلميين ــ إن صح هذا الإطلاق ــ مثل علي محمود طه المهندس ، وإبراهيم ناجي ، وحسان حتحوت الطبيبين .
ويحاول الفقي في شعره الذي ينشره في الصحف والمجلات أن يعايش واقع الأمة العربية والإسلامية بآلامها وآمالها ، فنظم عن مأساة البوسنة والهرسك ، ونظم عن نكبة فلسطين ، ونظم عن الانتفاضة المباركة ، ونظم عن أمجاد الماضي ، وانتصارات الحاضر .
**********
واليوم نطالع له ديوانا بعنوان " إيقاعات على أوتار البيئة " . وقصائد الديوان العشرون تدور كلها حول البيئة بمفهومها الواسع الشامل ، وما ينزل بها من محن التلويث والتخريب والتدمير . والديوان بهذه الصورة يعد واحدا من الدواوين " المتخصصة " ، أي التي تدور حول محور أساسي واحد ، مع تعدد زوايا النظر ، والتنويع الفكري ، والتلوين الشعوري والفني تبعا للسياق العام . (1) وأعلى نبرة في هذه الأجزاء الأربعة بقصائدها العشرين هي " نبرة الإدانة " ... الإدانة الصارخة " للآدمي " الذي هيأ له الله الكون بأرضه وسمائه ، وسخر له حيوانه ، ونباته ، وبره ، وبحره ، فأبى إلا أن يحفر بحماقاته قبره ــ بل قبوره ــ بيديه ، فدمر الخضرة ، ولوث الماء ، وحرق الطاقة ، وملأ الآفاق بالنار والدخان ، ولهيب الحقد والنقمة والأثرة ، حتى غدا الهلع والفزع ، والأرق ، واليأس يسيطر على النفوس :
ـــ كيف الحال ؟
ـــ الطوفان يصارعنا
وسلاح القحط يهدد كل بذور قبيلتنا والحيواناتْ .
والخوف يعربد في الطرقات وفي النبضات
وفي الخلجات .
ولسان الحال يقول لنا :
لا جدوى
فالعدوى تنساب إلينا ، وتخالطنا .
وتدمر كل خلايانا التائية
والبائية
وتبيد مشاعرنا القومية . ( 2 )
**********
وبالتلوث ينتحر العصر والبيئة ، لأنه تلوث اخترق كل شيء بلا حدود ، وسيطر على كل شيء بلا هوادة ، بل اخترق شغاف القلوب ، وحنايا النفوس ، فالتقى الدماران : الدمار الحسي ، والدمار النفسي : فقد تلوث النهر والبحر ، وفاض طوفان الأوساخ ، وخبثت التربة المترامية الأبعاد ، فأصبحت :
لا تنبت إلا نكدا ، وبقايا أنسجة شاهتْ .
ولهيب المصباح المغروس على درْوب غدٍ
تطفئه الريحُ الكبريتيهْ
.......................
وغصون البؤسِ / الجوعِ / الجهلِ /
الأمراضِ / الخوف ِ نمتْ
وازدهرتْ
وهناك على طود نفايات حضارتنا
تتوقف أنفاسُ الطير
ويعشش جيشٌ العبثِ الإنساني بلا أصوات ْ .
ويسود هدوء الأجداث ( 3 ) .
**********
ولكن أين الشاعر في هذه البيئة الذبيحة الملوثة ؟ إن الشاعر لم يغب لحظة واحدة عن هذا الواقع المنكسر المفجوع ، فهو في كيان هذه البيئة وكينونتها وحدة ممزقة قلقة مهتوكة الأمان دامية النشيج :
ياطاردني اليأسُ
يجري ورائي
وينتثر الوحْلُ فوق ثيابي
وتهمي سيول العذاب . ( 4 )
وأعود فأقول إنه كان مجرد " وحدة " ، أو خلية مهتوكة الأمان ، ولكن صوته لم يكن يمثل الذات المعزولة ، بل يمثل " الذات الوحدة " ... " الذات الخلية " في الجسد المذبوح ، فتصبح الــ " أنا " هي ألــ " نحن " ليكون العذاب على الشاعر مزدوجا فادح الأثقال ، عميق الآثار :
عندئذ
يضطرب العقلُ / الخطوُ / الجوُ / القْبلُ / البعدُ ،
ويلتف الزمن
ويزداد تسارعُنا
لا ندري كيف ...
ولا أي طريق نسلكها ، ولأين ؟
ما نعرفه أنـّا في زمن المد ( 5 ) .
**********
وإذا كان المد المعهود يرمز للحركة والبركة والنماء ، فالمد في بيئة التلوث لا يحمل ــ كما يقول الشاعر ــ إلا موجات البؤس ، والأتربة ، والعواصف ، والأملاح الكبريتية ، ( 6) . ويحمل كذلك أسراب الوهم ، وليل القار والطاعون ( 7 ) .
ويسحب التلوث من الحاضر إلى المستقبل ، ومن المحسوس إلى الروح والفكر والقيم ... قيمة جديدة لها " أبطالها " ودعاتها الذين يجعلون من " التلويث " واجبا حيويا حتميا :
يصرخُ بي " الرازي "
الْتاثَ ، تلوث ، فْهو ملوثْ
الماء ملوث
الجو ملوث
وجنين غدٍ في الأرحام ملوث
مُلتاثٌ يا ولدي
والطهرُ التاث كذلك
لوثه الفكرُ / فساد الأرضِ / الأوزون / العادم . ( 8 ) .
**********
لقد بدأت جريمة " التلويث " بنكبة الكويت حين زحفت " ديدان الفرات " التى " شربت ماء الخيانة ، " وارتوت من نبع أحقاد ، وما فتئت تفتش عن مزيد " ، ولكن من المسئول ؟ يفصح الشاعر عن " قرار الإدانة " ، وهو يلتقي في مضمونه مع المثل العربي " سـمِّـنْ كلبك يأكلْك" ، فديدان الفرات ... ديدان القماءة التى :
لا تُعدُّ
لا تحدُّ
قد تركناها فطالت
واستطالت
وتعالت
واستباحت كل ما فينا ، ومازالت تصول
في العقول . ( 9 ) .
ولا يملك الشاعر بعد هذه الإدانة الصارخة إلا المعايشة الروحية لواقع الكويت المحروقة أرضا ونفطا ، وبحرا وزادا ، ويمضي طيفه بنبضاته الثائرة الناشجة مطوفا بأحياء الوطن الضحية :
فيواسي " المرقاب "
ويكفكف دمع " بنيد القار "
ويخيط ثياب " النزهة " يستر عورتها .
ولكنه لا يستطيع مواصلة المسيرة لأنه :
ــ يتعثر في فضلات الآشوريين المتناثرة
وراء صمامات القلب . ( 10 ) .
فترده الصدمة إلى موته اليومي الذي لا يجد ملاذا سواه .
**********
وقد يبدو أن نكبة الكويت التى احتلت أرضها من جارها الغاشم ، وحرق نفطها ، ودمرت بيوتها ، وتلوثت طرقاتها وبحرها وجوها ... قد يبدو أن هذه النكبة هي الدافع الأول للشاعر لإفراز أغلب قصائد هذا الديوان ، ولا غرابة في ذلك فقد تفاعلنا وتعاطفنا جميعا مع الكويت في نكبتها العاتية . ولكن الشاعر ينطلق ــ كما ذكرنا مرارا ــ من الخاص المحدود ، إلى العام الواسع الممدود ، فالعدوان على البيئة ــ أية بيئة ــ في وقتنا الحاضر بالتلويث ، أو ذبح الخضرة ، أو نشر العادم ، أو غير ذلك يؤثر تأثيرا بالغا على البيئات الأخرى ، بعد أن أصبح العالم كله كالبلد الواحد ، أو المدينة الواحدة .
**********
فالبيئة هي المسرح الكبير الذي تنطلق فيه ومنه قصائد الشعر ، وكلها قصائد تنتصر للبيئة بكل ما فيها من موجودات ، وتدين " العدوان البشري " على " عناصر البقاء " في البيئة بالإعدام أو التلويث .
ونلتقي في الديوان بكثير من عناصر البيئة الصائتة من طيور وحيوانات وحشرات وزواحف ، وعناصرها الصامتة من أشجار وأنهار وبحار .
والشاعر في معالجته الفنية لهذه العناصر ينطلق من ركيزتين ترفدان فكره ، ومعانيه ، وصوره :
الركيزة الأولى : معارفه العلمية : بالمصطلحات المختلفة ودلالتها ، وخصائص الكائنات من الأحياء والظواهر .
أما الركيزة الثانية : فهي معارفه الشعبية أو البيئية : من عادات وتقاليد وطوابع اجتماعية ، وقوالب لفظية شعبية .
هذا زيادة على تمكنه الوثيق من الفصحى ، فكانت الحصيلة : هذه القصائد العشرين التى تمثل كل قصيدة منها لوحة حية نابضة لا تخلو واحدة منها من عناصر الفن المتكامل ، وهي الصوت ، واللون ، والحركة كما نرى في قوله :
تساقط زخات المطر الأسود
فوق الجوف المجهد
تتسلل عبر شقوق الروح إلى المستقبل
فتحط على الأرض تباعا أسراب الموت الأصفر
لتلوث أفاق الفكر الأبيض . ( 11 )
وواضح ما وراء هذه العناصر الثلاثة ما يسري في هذه المقطوعة من شعور خفي ، حاد بالنقمة على العدوان البشري ، وهو شعور ممزوج بالإشفاق على الوجود في حاضره المهدد ، ومستقبله البئيس .
**********
وخيال الشاعر " خيال تركيبي " ، فالقصيدة عنده لوحة متكاملة العناصر ، يتعانق فيها الحسي بالمعنوي ، بل قد يُخلي الحسي المشهود مكانه للنفسي الروحي ، وهي سمة تجعل الهيمنة على المتلقي أقوى وأقدر ومن عواملها الفعالة المطردة في كل القصائد :
1- تجسيم المعنويات .
2- تشخيص المحسوسات .
3- التجسيم والتشخيص معا .
4- المزج بين كل أولئك ونفس الشاعر إلى درجة الحلول الكامل .
**********
وتجسيم المعنويات : يعني إبراز المعنوي في صورة حسية ، كما نرى في الأمثلة الآتية :
ــ إن الحالة ميئوس منها .
فلقد أدمن أقراص التخريب
أدمن فن التعذيب
ثمة خلل في الجينات ( 12 ) .
...................................
ــ يخبو في ثانية تيار الحب الجارف
يتحول كرها كوني الأبعاد
يغرق تاريخ الطهر ، وتطفأ أنوار مدينتنا
في وحل الحقد الممزوج
بكل أيونات الخوف . ( 13 ) .
وتأتي ظاهرة التشخيص في منح المحسوس أبعادا إنسانية ، فإذا بالجامد الخامد اللاعاقل فيه نبض وحركة وحياة :
ــ قالت لي نقطة نفط
هبطت من بين ركام دخان الأبار المذبوحة في الصحراء ( 14 ) .
.............................
ــ تصرخ فيّ الأرض
اقترب الوعد الحق فهل أخرج أثقالي ؟ ( 15 ) .
وأكثر من ذلك يتلاحم التجسيم والتشخيص بإبراز المعنويات في صورة حسية إنسانية مشخصة .
ــ كان التاريخ البيئي يسافر في جينات الأغراب
..........................
ــ سيل من لعنات الدهر
تدفق إعصارا عبر خلايا الروح ( 16 ) .
ويأتي المزج بين النفس والطبيعة متمثلا في حضور الشاعر بفكره وروحه في كل قصائده متدفقا بالنقمة العاتية على هؤلاء الذين يمدون يد العدوان لتدمير الطبيعة ، وتشويه البيئة وتلويثها . وقد يكون الحضور مجسدا واضحا لا ينكر ، يستغرق القصيدة كلها كما نراه متمثلا في السطور الآتية :
ــ قالت : تعال بنا إلى شط بعيد
حيث الفساد هناك ليس له وجود
فهناك ينمو حبنا في تربة الأمل الجديد
وهناك لا أشياء تقلق صفو حاضرنا الوليد
فضحكت كالطفل البريء ، وقلت : يا حبي الوحيد
إن التلوث ــ فتنتي ــ ريح بها صرٌّ
وتجتاز الحدود ( 17 ) .
وكل هذه العوامل ــ كما ألمحت ــ تتلاقى لتجعل من خيال الشاعر خيالا تركيبيا بعيدا عن التفسيرية ، والتجزييء التصويري الذي يعتمد ــ بصفة أساسية ــ على التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز المرسل .
**********
ونلاحظ أن المفارقة من أقوى آليات الشاعر في قصائده .
وأسلوب المفارقة يعتمد ــ بصفة أساسية ــ على عرض المتناقضات، أو المتقابلات فهو يقتضي وجود طرفين يربط بينهما علاقة الضدية ( 18 ) .
والمفارقة قد تكون في الكلمة الواحدة ، أو التعبير الواحد ، وتمثل المفارقة في هذه الحالة استراتيجية قول نقدي ساخر ، وهي في الواقع تعبير عن موقف عدواني ، ولكنه تعبير غير مباشر يقوم على التورية ( 19 ) .
ويطلق بعض النقاد على أسلوب المفارقة " بلاغة الأضداد " (20) .
ولكن المفارقة تختلف عما يسمى في البلاغة بالطباق أو المقابلة من ناحيتين هما :
1- الناحية الشكلية : فالمقابلة البديعية ، تقتضي وجود طرفين متناقضين ضربة لازب ، أما المفارقة ــ وإن كان هذا هو الأصل فيها ــ فقد تكون في الكلمة الواحدة ، أو العبارة الواحدة ، وقد توحي بها القصيدة كلها .
2- إنتاجية الدلالة : فالمقابلة لا تنتج إلا إبراز الفارق بين الطرفين ، فبضدها تتميز الأشياء ، كما في قولنا : أحب اللون الأبيض ، وأكره اللون الأسود . أما المفارقة فتنطوي ــ في الغالب ــ على سخرية فلسفية ، ونقد مرّ لأوضاع خاصة أو عامة ، أو طروحات نفسية متوهجة . فدلالتها الفلسفية الاجتماعية ، أو السياسية ، أو الإنسانية أقوى بكثير من دلالتها البلاغية أو المعنوية المباشرة ( 21) .
**********
وفي الأداء التعبيري يستخدم الشاعر كثرة من " المصطلحات العلمية " ، منها ما يستطيع المثقفف العادي إدراك مفهومها . وبعضها يستعصي فهمه إلا على المتخصصين ، ولكن أغلبها معقول مقبول من المتلقي لما تحمله من طرافة وتجديد ، لأنها ــ في مجموعها ــ لا تخل بأدبيات النصوص وجمالياتها ، ويرجع ذلك إلى براعة الشاعر في التوظيف ، فلا يحس المتلقي بالوطأة العلمية للمصطلح بقدر ما يحس بقيمته الفكرية الوضعية من ناحية ، وقيمته الجمالية من ناحية أخرى .
وهذه السمة ... سمة البراعة في توظيف المصطلح العلمي حققتها عدة أسباب وعوامل تتلخص فيما يأتي :
1- الاستجابة العفوية الطبيعية .
2- التعويض الفني الجمالي .
3- الوفاء اللغوي .
1- وأعني بالعامل الأول أن الشاعر في أغلب قصائده إذ يستخدم هذه المصطلحات كا ن مستجيبا لشخصيته العلمية ، ومن ثم جاء "تطعيمه " لقصائده بهذه المصطلحات خاليا في الغالب من التعمل والتصنع والافتعال . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى نجد العدوان على البيئة في مظاهره ونتائجه يفرز تلقائيا هذه المصطلحات ويتطلبها ، مثل التلوث ، والنفايات والمطر الحمضي ، والغازات ، والعفن ، والثقب الأوزوني ... الخ .
2- ولم يسق الشاعر هذه المصطلحات عارية بشخوصها وقهرها العلمي الموجع ولكنه أحاطها بدفقات من الخيال البديع ، والمفردات الموحية ، حتى بدت هذه المصطلحات في سياقها مستأنسة ، كأنها شرائح ضرورية في معمار القصيدة ، وكأنها قد أفرغت من جفافها قبل أن تذوب في هذا السياق الفني كما نرى في المثال التالي :
ــ أشواكك ما أقساها
تنهشنا
وتفاجئنا
تلسعنا كالأمطار الحمضية
تحرق كل خلايانا التائية
والبائية
تتركنا أشلاء وبقايا ( 22) .
وكما نرى في مثال ثاني هو :
وسحاب الموت البركاني يمر بطيئا
عبر رصيف القلب المنهك
لكن الأشلاء الخضراء تثور
تنفجر كالشلال من العقل المسطور
تجتاز الأقطار كإشعاع
منبعث من فطر نووي (23) .
**********
وأعني بالوفاء اللغوي أن الشاعر لم يجُرْ بمصطلحاته على صحة اللغة وسلامتها ، فجاءت لغته سليمة فصيحة . ومن ناحية أخرى لم يورد المصطلح العلمي كبديل لعربي فصيح ، بل أخذ مكانه دون جور ، أو افتئات على حقوق الألفاظ العربية الأخرى .
ولكن الشاعر ــ على ما يبدو في أحيانا قليلة ــ تغلبت فيه أحيانا شخصية العلمي على شخصة الشاعر ، فلجأ عامدا إلى الإسراف المرفوض في استخدام هذه المصطلحات ، وهو ما نسميه " بالتركيم الاصطلاحي "، مما أفسد كلماته ، وبدت كالعضو النافر الغريب في جسد حي كما نرى في النص الأتي :
قد كنت من الأطفال الخدج والمبتسرين
أدمنت تعاطي التتراسيكلين .
وأعاني من أثار البنزوبيرين
والنتروزامين
وأعالج بالديجوكسين
وضديات الهيستامين (24)
**********
فإذا ما تركنا هذا المأخذ الحاد وعدنا مرة أخرى إلى قصائد الديوان رأينا الشاعر في أدائه التعبيري كثيرا ما يطعم تراكيبه بالكلمات والقوالب القرآنية مثل :
أو أصمت لتسود وجوه غبره
ترهقها قتره
ومثل قوله :
ترقيني أمي كل صباح
من شر النفاثات
ومن شر أبالسة الجان ( 25 )
ويستخدم الشاعر كذلك قوالب شعبية من الحكم والأمثال ، ولكن في صيغ فصحى كقوله :
ــ " لن يصلح العطار " ثم يمتطي
جواده الملوث ( 26)
وتتعدد في في سياقاته كذلك الإشارات التاريخية نكتفي منها بمثال واحد :
ــ يغتسل الجسد الموضوع
بأتربة " الغبراء " و " داحس "
وعواصف " كاظمة " الرملية
تترسب في أوعية الدموية .
**********
ومن حسنات الشاعر في أدائه التعبيري الاستعمال اللفظي المتلاحق ، أو ما يمكن أن نسميه بالدمج اللفظي ، فكثيرا ما يستخدم الشاعر الفاظا متتابعة بلا حروف عطف . والأمثلة بالديوان كثيرة ، حتى أصبحت تمثل عند الشاعر سمة أسلوبية مطردة . ونكتفي بعرض بعضها :
ـــ يضطرب العقل / الخطو / الجو / القبل / البعد
ويلتفت الزمن
ويزداد تسارعنا ( 27 ) .
........................
ــ أشواكك تجتاح الروح / النفس / الأفْقَ /
الحاضر والغد (28) .
وقيمة هذا التلاحق الموصول يوحي بالقوة المعنوية ، وسرعة الاستجابة وتحقيق الأثر المطلوب ، واتساع قاعدة التأثير والتأثر . فامتداد التأثير بل انطلاقه في جَيَشان قوي يطمس كل العوائق والحوائل التى تتمثل في حروف العطف ، ليكون سريع النفاذ ، مؤكد النتيجة ، وهذا أيضا يمكن إدخاله في " بلاغة الإيجاز " .
**********
وأخيرا نذكر القارئ ـــ وهذا ما ألمحنا إليه من قبل ــ بأن الشاعر قد استعمل أسماء كثير من الحيوانات والطيور والنباتات لا لتؤدي مفهومها الوضعي ، ولكن لتعكس دلالات رمزية في مجال النفس والروح والمجتمع .
وقد نجح الشاعر إلى حد كبير في هذا التوظيف ، وربما لا يجانبه التوفيق إلا مرة واحده حين جعل من الغراب رمزا للاكتشاف والتطلع والتفتح وذلك في قوله :
ـــ وعلى القمة كان غراب نوحيّ
يستشرف أفاق العالم (29) .
فهي مخالفة تاريخية لاتخدم المنطق الفني ؛ لأن التراث التاريخي الديني لا يمنح هذه الدلالة للغراب ، فالغراب في العهد القديم طائر نجس حرم الله أكله على اليهود (30) .
والغراب كذلك رمز للغدر ؛ لإن نوحا عليه السلام أرسله لاكتشاف الأرض من حوله ، ولكنه لم يرجع إليه بعد أن وجد له مكانا يستقر فيه . والحمامة هي التى يمكن أن تكون رمزا للمعنى الذي قصد إليه الشاعر . إذ يذكر العهد القديم أن نوحا أرسلها لاكتشاف الأرض ، فلم تجد مكانا لرجلها ، فرجعت إلي الفلك ، ثم أرسلها مرة أخرى بعد سبعة أيام ، فرجعت وفي منقارها ورقة زيتون خضراء ، فعلم نوح أن مياه الطوفان قد بدأت تنحسر ، وأن الأرض قد بدأت في الظهور (31) .
(2)
كانت هذه وقفة نقدية مع ديوان شاعرنا المهندس محمد الفقي ، وهو في الواقع ديوان جدير بوقفات ووقفات ، وما قدمته يعتبر موجزا في نظري إيجازا لا يفي بما قصدت إليه ، لذلك آثرت أن أعايش إحدى قصائد الديوان معايشة نقدية عملية ، تعوضنا عما أغفلناه ، أو أفلت منا ، ولتكن القصيدة هي "الجميزة" ولتكن المعايشة النقدية في الصفحات الأتية .