لماذا تأخرت على يحيى السماوي

فلقد بلغ الحزن الزبى

يحيى السَّماوي

[email protected]

د. حسين أبو سعود

لا أحد يحمي القصيدة غير الطفولة

أنا وجميع محبي الشعراء الحقيقيين نسأل: لماذا تأخرتِ دهرا على يحيي السماوي؟ انه سؤال يلد ألف سؤال،

ولكن لمن نوجه هذا السؤال؟، أللحبيبة أم للوطن أم للطفولة التي يحلم الشاعر بعودتها ؟ لقد ضُبط الشاعر أكثر من مرة وهو يشتاق الي الطفولة فيكرر كلمة طفل وطفولة أكثر من خمس مرات في قصيدة واحدة وهي قصيدة (كامل) التي تتصدر الديوان، هو يعرف من يقدم ومن يؤخر، ويعرف كيف يعطي الحق لأصحابه، فقدم الشهيد كامل شياع، قدمه في حفلة عرس كاملة تتضمن عقد القران والمهر والزفة:

النعش هودجه/ لقد عقد القران علي الشهادةِ / قلبه كان المقدم َ/ والمؤخرُ؟ لا مؤخّـرَ / إن كامل لا يفكر بالطلاق .

يحيي السماوي في حبه للطفولة يذكرني بشاعر لبناني قديم عشق الطفولة الي درجة انه قال:

لو تمني أناس رجوع الصبا، تمنيت أنا رجوع الصغر .

وهل تشتاق الكهولة إلآ الي الطفولة، أليس حب الأطفال أفضل العبادات؟ ولو بحثنا عن مفردة الطفل والطفولة وتكرارها العذب في كتابات يحيى السماوي لتيقنا بأن هناك طفلا حقيقيا جميلا يسكن في احدي زوايا نفسه، قد يكون في قلبه الكبير .

الشاعر يقدم الشهيد ناطقا باسم الطفولة وباسم الطيبين والرياحين وكل المعذبين ويزفه بهذه الصفة الي الفردوس الأعلى :

باسم الحسين / وباسم موسى/ وابنِ مريم َ / باسم كل الطيبينْ / باسم البنفسج والقرنفل ِ / باسم زيتون ٍ  وتينْ / باسم المشردِ  والممددِ  والمهددِ  والسجينْ / قد كان مندوبَ اليقينْ / في مهرجان الأمر بالأنوارِ / في فردوس رب العالمينْ.

وهكذا فالنصر كان وسيبقي للمظلومين في كل الحقب ، أولئك الذين قاتلوا بالنور و بالنعناع والريحان، بالحرف المناضل وبعشب فلاح وريش حمامة لا بالسيف ، وهذه الأدوات القتالية أقوى من فتاوى  التكفير التي تخرج من وراء حرير العمائم التي تخفي بين طياتها القتلة والمارقين .

إيه من كثرة الترحال والترقب والتوجس والخيبات :

وأعود من سفرٍ  خرافيّ ٍ / لأبدأ في سفرْ

وقد يعود الإنسان بعد عمر طويل طفلا لا يعلم من بعد علم شيئا ولكن شتان ما بين الطفولتين فالشاعر لا يعني الطفولة المتأخرة وإنما يعني تلك الفترة الماسية التي هربت كالماء من بين الأنامل بخفة ورشاقة، يريد للأشياء الجميلة أن يعيدها :

يضاحكني الندى/ فأعود في الخمسين طفلا ..

إن الهوى/ سيعيد للبستان/ عافية النخيلْ

فالنخيل تمرض و يصيبها الهزال وقد شاهدت في عزلةٍ  لي منظر النخيل، نخلة منتشية فارعة ناشرة سعفاتها في الفضاء ونخلة تدلت سعفاتها وارتخت خجلا لأنها لم تعطِ أكلها، وأخرى حزينة لان السوس هاجم رطبها فمرضت وهاهو الشاعر يخبرنا ماالذي  يعيد للنخيل عافيته، إذن انه الحب الذي يعيد للشيخ صباه وطفولته.

مشارف الستين

مشارفة الستين لدى الشعراء لها وقع اليم ، وكان يجب أن لا نخفي عن الأطفال منذ البدء حقائق الأمور، كان علينا أن نعلمهم عن أفول القمر وموت الزهور وان هذه الدنيا ليست كما هي ، أكل وشرب ولعب ..  فهناك بعد حفنة من السنين مرض وسهر وأرق وقلق وهجر وعجب وتلك الولادات السعيدة يعقبها موت أكيد، اخبروهم إن هناك مسيراًَ  ولا وصول وهناك ذهاب ولا قفول، حتي لا يتفاجأ بها من وصل الي مشارف الستين، حيث لا تبقى  له سوى الصور يبحث فيها عن دفء مفقود، وشاعرنا يتذكر السماوة وهي ترقص في ألوانها الزاهية ويذكر قصص الناس هناك، يحنُّ  الي محطات القطار وحكايات الجنود والجسور التي تتحمل وطء الأقدام بسرور علي مر الأيام والدهور، إنها نفس مشاعري فانا لست بعيدا عن الستين فأتذكر الأسواق التي تعج بالمكسرات والمعجنات وأنواع الحلوى وأتذكر الأسرّة التي تحتوي الغرباء علي أسطح الفنادق في شارع الرشيد في ليالي الصيف، واشتاق الي رائحة خبز التنور ولفات العمبة بالصمون الحار والمهفات التي تأتي بنسيمات منعشة في قيظ الصيف، وتظل الطفولة ويظل العراق السر الذي يبكينا ويشجينا، وقصيدة على مشارف الستين موجعة مبكية ومن يتمعن في معانيها من الشباب قد يغير مسار حياته أو بعض مساراته لان فيها حكمة وعمقا وفهما ورؤية وموضوعية وحقائق، فيها سخرية من الذين يحتفلون بعيد الميلاد ويرقصون لدنو الموت:

بعضي يريد الدهر يلبسه

ثوبا وبعضي يشتهي اجــلي

ســــتون لا أهلا بقـــافلة ٍ

تدني ذئاب الحتف من حملي

قدّ الحبيب القلب من دبر

والأصدقـــاء الزور من قُــــبُـلِ

ندمي بحجم رفات أزمنتي

ويحي عليّ غفوت عن زللي

آن الترجل عن ثراك فهل

جـــهزت زاد غـــدٍ  لمرتحل؟

اسمع الشاعر يتساءل وقد شارف الستين: لماذا تأخرت دهرا عليا:

لماذا أتيتِ أوان احتضاري؟

 لماذا أتيتِ أوان الخريفِ

جميع المواعيد فاتت

 ومرَّ قطار القرنفل والياسمين

 العصافير عادت الى دفء أعشاشها

 وأنا واقف .. غصّة ٌ في فمي

واللظى في يديّا

 لماذا تأخرت دهرا عليا ؟  وكنت علي بعد حاء من الباء .

الحلم، كل شئ مباح في الحلم حتي الأوزار المرتبكة في الحلم تمر بلا مساءلة وغاية العقاب جفاف في الحلق وفتور في الجسد والكوابيس قدر المطاردين :

خذلت طماحي، ما جديدك لامرئٍ

 عاش الحياة مطاردا مخذولا ؟

إذن أحلام المطارد تبدأ جميلة شهية وقد يكون في البدء بصحبة امرأة ثلاثينية مكتنزة ولكن سرعان ما يجد نفسه معها في ظلام دامس وسط بحر متلاطم الأمواج، وقد تعده تلك المرأة بقبلة أو لمسة أو عناق:

آه

 لو أن الذي أوعدني في الحلم - بالقبلة

 لا يخلف عند الصحو وعدهْ .

لا ادري لماذا يبدأ الشاعر دائما بالتغزل والعشق لكنه ينهي جولاته بعشق الوطن ولا ادري لو خيّر بين الحبيبة والوطن أيهما يختار ؟ هل يختار الوطن أم يختار مثلي الحبيبة لأنها قد تحل محل الوطن وليس العكس ؟

وقد يأتي يوم لنكتشف أن كل الخيارات والاختيارات كانت خاطئة فنبدأ بلوم الأنا وبقسوة واضحة :

انا سوطي وجلادي ..

أعاتبني

 لماذا خنت نفسي؟

 كنت ادري أن كوثر عشقها لهبُ

 وان سفينتي خشبُ

 كذبتُ عليّ ..

تطعنني ولا سببُ

 نصرتُ عليّ قاتلتي

 برئ من دمائي سيفها

 فعلام انتحب ؟

والجواب يأتي منه هو في قوله :

أيها القلب الذي  ثلثاه من ماء الفراتين ِ

 وثلث من رماد النخل في محرقة الوجدِ

وطين البلد ِ:

طعنة أخري وتشفى من عذاب الجسد ِ

أي تعبيرهذا للخطوة الأخيرة وأية صورة سلسة للفصل الأخير، انه يتمنى للشعراء موتا سعيدا، موتا هانئا هادئا لذيذا جميلا شرط المرور عبر الطعنة الاخرى، انه يتسلق الحزن بكل ما عنده من قلق متراكم ليخرج من هذا العالم الهائج لتيقنه أن ليس للقبور إلا الصمت.

في حرب الفضائل مع الرذائل وفي صراع الخير مع الشر الممتد منذ بدء الخليقة الي يومنا هذا هناك دائما منتصر ظاهري وآخر باطني ومعسكر الشر هو الأكثر في العدد والأدوات والوسائل، و ظاهر الحياة الى تدني ونكوص يوما بعد يوم فهي تسير نحو الحقد والبغض والآلام والفقر والجهل :

لا تقولي إن جرح اليوم

 يشفي في غد ِ ..

 كلهم أقسم أن يحرس بيتَ المال ِ

 باسم الأحدِ  :

 سادن المحراب ِ

 والناطورُ

 ربّ الدرك السريِّ

 قاضي العدل والشرع ِ

 إمامُ المسجد ِ

 فلماذا ازدادت الفاقة ُ  واستشرى وباء الفسَد ِ ؟

ولماذا كلما يوعد بالخبز أمير المؤمنين

 ازداد جوع البلد ِ ؟

إذن كيف يرى الشاعر البلد ومستقبل البلد :

مسكينٌ وطني

 منطفئ الضحكة ِ

 مفجوع الإنسانْ

 لو كان له مثلي قدمٌ وجوازٌ ولسانْ

 لمضى يبحث في المعمورة

 عن ملجأ أوطانْ !.

هذا الرجل المحاط بكامله بمظاهر الإحباط وأسبابه، يقف بصلابة ليتحدى السقوط ويحلم بان يجتمع الناس علي اختلاف مشاربهم ومذاهبهم علي بساط واحد، يحلم بذلك بروح وحدوية تقريبية محبة صابرة :

وتقيم جنتها المودة ُ

 يجلسون علي بساط واحد ٍ :

 أحفاد عائشة ٍ وفاطمةٍ  ومريمَ

 لست تدري  أيهم قنديله (طه) وكوثره (يسوعُ)

انه يحمل روح الشاعر محمد إقبال في دعوته الي الإقتراب ونبذ صرخات الفُرقة المفزعة وان كانت صادرة من مقامات دينية معروفة.

هذا الرجل ما زال قويا وقادرا على العطاء رغم مشارفته الستين:

جزت خمسينا وتسعا وأنا

لم أزل طفلا برئ الحمــقِ

شاخ لكن الهوي أرجــعه

كابن عشرين صبوح الأفقِ

جربيني تجديني خــــمرة ً

تسكر الكـــأس وزقّ العَرَق ِ

جربي موج جنوني تجدي

نعمــة اللــــذة بعـــد الغرقِ

فألذ الخمـــــر مـــا عتقـه

عاصـــر التين بدن مغلــــقِ

وأعجب منه بعد كل هذا التحدي والإقدام والوصف والتبتل ينسحب ليقول :

ربما تأثم عيني إنما

لي فؤاد طاهر العشق نقي

وهل يستقيم العشق مع الطهر إذا التقى العاشقان في ظل شجرة في البيد بعيدا عن أعين الرقباء؟.

وفي الديوان صور خرافية فخمة زاهية تتسم بالترف والقدرة مثل:

- لو يحسن السيف الهروب لفرّ من

 كفّ ٍ  تطاعن صاحبا وخليلا

-         وتوضأت بالشمس أبواب البيوت

وكل القصائد الجميلة في الديوان جميلة وكل الصور الرائعة رائعة إلا قصيدة سادن الروضة فهي الأجمل والأروع في نظري علي الأقل .

التفاتات جميلة

وأما قصايدة (ضوئية الشامات) فهي من جمالها وروعتها ادعيها لنفسي ببعض التصرف واهديها لمن أحب من الناس :

ليس اتهاما ً

 أنت ما أبقيت لامرأة بقلبي فسحة ً

 ومسحت من مرآة عينيَّ  الوجوه َ

 فلست اذكر من تكون مها ومن ليلي وسلمى

من أكون أنا ؟

 أضعت الذاكرةْ

 وحكمتني بهواك ما عشت الحياة َ

 وان يكون كتاب حبك في يميني

 حين أُبعث من رماد العشق يوم الآخرةْ

ليس ادعاء ً :

 لم أكن ادري بأنك ساحرة ْ

 غيرت ميلادي وعاطفتي

 وشكل ملامحي وجميع عاداتي القديمة ِ

لاتخرجيني منك / ودعيها / مغلقة عليّ الدائرة/ ليجف من عطشي دمي / فأجيئ نهرك مطفئا جمري/ باعذب سلسبيل.

بعض القصائد هي اهداءات الي أشخاص معينين ولكن الديوان بأكمله وباهداءاته مهدى  الى أم الشيماء كي يوقف تساؤلاتها عن ضخامة هذا الألم وفخامة هذه الألفاظ ومصادر تلك المعاناة:

طالما كنت شراعي فانا

مبحر حتى حدود الغرقِ

لن تغرق أيها الشاعر مادامت هي شراعك غير أني أقول: إن من يتأخر في المجيء يسارع في الرحيل فتهيّأ  أيها الصديق لأهوال الطريق وهولاكو سيعود بألف وجه ووجه والحياة ستسافر بنا، وعندما تنطفئ نيران الحروب تولد دروب من رماد يخمد الغروب ألوانها.

من الإلتفاتات الجميلة في الديوان إعطاء معاني الكلمات الصعبة التي يعتقد بأن البعض قد لا يعرف معناها جمعها تحت عنوان الهوامش وجعلها في آخرالقصيدة وفي صفحة منفصلة و كنت أتمني أن يعطي المعاني أسفل كل صفحة لأن ذلك أسرع لتلقي المعنى والتفاعل الفوري مع المفردة ولعله لم يكن يريد أن يشوه جمال الصفحة وجمال الشعر بتوضيح المعاني في نفس الصفحة.

معلومات:

- يتكون الديوان من 16 قصيدة موزعة علي 175 صفحة

- إصدار دار الينابيع للطباعة والنشر والتوزيع - دمشق

- طبعة أولى 2010.

قبل الوداع

كان خطأ أن أجوب البساتين والحدائق اجمع قطرات الندى أملأ بها بركة تسع جسدي بأوزاره وإخفاقاته فقطرات الندى إذا التصقت ببعضها تكون مجرد ماء يمكن الحصول عليه من أي مكان ومن أي سماء فالندى ندى بخواصه البلورية واستدارته المدهشة ونقائه الذي لا يبارى، فما فائدة البناء إذا كان الهدم ينتظر وما فائدة الحياة إذا كان الموت يتربص، وقد كنت قد قرأت هذا الديوان وأنا أغير الأمكنة في حديقة هولند بارك وسط لندن، كنت اجلس على مقاعد خشبية حفرت عليها أسماء أناس كانوا قد ملأوا الدنيا يوما صخبا وانجازات، رحلوا تاركين أحباءهم في زحمة الحياة وحيدين يستحضرون طعم اللذات التي مضت مع الماضين.