تطور العربية وحدوده
أ. د: عبد السلام حامد
أستاذ مشارك بجامعتي القاهرة وقطر
لكل لغة نظامها العام الذي يتكون من مجموعة أنظمة فرعية تلاحظ وتدرس ويميز بعضها عن بعض في مستوى التجريد والبحث والدراسة ، وتتشابك وتلتحم ويصعب فصل بعضها عن بعض في مستوى الاستعمال والممارسة. هذه الأنظمة هي : النظام الصوتي(ويعنى بالأصوات وظواهرها) والنظام الصرفي (ويعنى بأبنية الكلمات وطرق تكوينها) والنظام النحوي (ويعنى بأبنية الجمل) والنظام الدلالي ، ويعنى بالمعجم والعلاقات الدلالية ([1]) . والتطور والتغير سنة طبيعية في اللغات المختلفة وأنظمتها ، تحدث وفق قوانين محددة وقواعد ملحوظة وتجعل اللغة تختلف في مجموعها خلال الزمان أو عبر المكان ، ولا تظل ثابتة جامدة على هيئة واحدة ، خاصة صورتها الدارجة أو المتكلمة " فاللغة ليست هامدة أو ساكنة بحال من الأحوال ، بالرغم من أن تقدمها قد يبدو بطيئاً في بعض الأحايين . فالأصوات والتراكيب والعناصر النحوية، وصيغ الكلمات ومعانيها ، معرضة كلها للتغير والتطور . ولكن سرعة الحركة والتغير فقط هي التي تختلف من فترة زمنية إلى أخرى ، ومن قطاع إلى آخر من قطاعات اللغة . فلو قمنا بمقارنة كاملة بين فترتين متباعدتين ، لتكشف لنا الأمر ، عن اختلافات عميقة كثيرة ، من شأنها أن تعوق فهم المرحلة السابقة وإدراكها إدراكاً تاماً " ([2]) .
واللغة العربية الجاهلية ليست بدعاً بين اللغات في هذا فقد مرت بحلقات طويلة من التطور والتغير حتى جاء الإسلام ونزل بها القرآن ، فأصبح لها حكم آخر من الثبات العام وبطء التغيير وقلته على مدى قرون طويلة وسيستمر إلى ما شاء الله. صحيح أنها كائن حي كغيرها من اللغات التي تختلف من عصر إلى عصر على ألسنة المتكلمين بها، وينشأ من ها الاختلاف صراع بين أنصار الشكل القديم وأنصار الشكل الجديد ، وبعد فترة وبالتدريج يصير قديماً ما كان بالأمس جديداً ، ويتصارع مع جديد آخر ، وتزهق لغة العصر السابق أو تضمحل ، وهكذا دواليك ، غير أن اللغة العربية لها ـ كما قلنا ـ حكم أو " ظرف آخر لم يتوفر لأية لغة من لغات العالم، ذلك أنها ارتبطت بالقرآن الكريم ، منذ أربعة عشر قرناً ، ودوّن بها التراث العربي الضخم الذي كان محوره هو القرآن الكريم في كثير من مظاهره ، وقد كفل الله لها الحفظ ، ما دام يحفظ دينه ، فقال عز من قائل : " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " [الحجر :9]. ولولا أن شرفها الله عز وجل ، فأنزل بها كتابه وقيض له من خلقه من يتلوه صباح مساء ، ووعد بحفظه على تعاقب الأزمان ـ لولا كل هذا لأمست العربية الفصحى لغة أثرية تشبه اللاتينية أو السنسكريتية ، ولسادت اللهجات العربية المختلفة ، وازدادت على مر الزمان بعداً عن الأصل الذي انسلخت منه " ([3]) . وهذا هو السر الذي يجعلنا لا نقيس العربية على غيرها من اللغات ، ويجعلنا أيضاً " نرفض ما ينادي به بعض الغافلين ـ عن حسن نية أو سوء نية أحياناً ـ من ترك الحبل على الغارب للعربية الفصحى ، لكي تتفاعل مع العاميات ، تأخذ منها وتعطي ، كما يحدث في اللغات كلها ... فإن أقصى عمر هذه اللغات في شكلها الحاضر ، لا يتعدى قرنين من الزمان ، فهي دائمة التطور والتغير ، وعرضة للتفاعل مع اللغات المجاورة ، تأخذ منها وتعطي ولا تجد في ذلك حرجاً ، لأنها لم ترتبط في فترة من فترات حياتها بكتاب مقدس ، كما هو الحال في العربية " ([4]) .
إذن اللغة العربية يمكن أن نصفها بأنها اللغة الاستثناء ؛ لأنها اللغة الوحيدة من بين لغات العالم التي استمرت وبقيت حية عمراً مديداً يزيد عن ألف وخمسمائة سنة. لكن هذا العمر المديد للعربية يتجدد النظر إليه بمنظار النقد ووسمه بالجمود بين الحين والآخر من قبل بعض الباحثين والكتاب الغالين الذين يرون المرحلة الحاضرة على أنها تمثل حالة الجمود والتحجر التي ينبغي أن تُتجاوز لأنها تعوق حركة اللغة وتمنعها من أداء رسالتها ، وتعد عاملاً رئيساً يشل العقل العربي ويمنعه من السير قدماً في طريق التقدم والرقي ؛ لأن ثمة علاقة طردية بين التقدم ويسر اللغة وسهولتها ، فكلما وصلت حضارة من الحضارات إلى درجة من التعقيد والتطور والرقي ، شعرت بالاحتياج الفطري إلى لغة سهلة تعبر عنها ، وهذا يفسر الجهود المبذولة باستمرار في تذليل اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها من لغات الدول المتقدمة .
ومما يُذكر في هذا السياق عن ظاهرة صعوبة العربية :
§ أن هذه الظاهرة ليست جديدة ، بل هي قديمة قدم العربية ؛ ومما يدل على هذا أن المتنبي عند حديثه عن هروبه من "حمى جرش" خوفاً من بطش ابن كروّس ، خاض ظلمات البادية متوجهاً إلى أنطاكية ، ولما وصل إلى بر الأمان نظم قصيدة مدح فيها أبا عبد الله الخصيبي الذي كان ينوب عن أبيه في مجلس القضاء هناك ، وقد ورد في هذه القصيدة بيت يقول فيه المتنبي ([5]) :
وكلٍْمة في طريقٍ خفتُ أعربها فيُهتَدى لي فلم أقدر على اللحنِ
والمعنى أنه خاف أن ينطق بلغة عربية سليمة ولا يلحن فيفتضح أمره وتظهر هويته ويعرف من هو؛ لأن الكلام من دون خطأ ولحن كان للخاصة .
§ قول طه حسين " إن إصلاح اللغة "أصبح ضرورة من ضرورات الحياة بل من ضرورات الدين نفسه" ([6]) .
§ سهولة تعلم اللغات الأخرى واكتسابها ، كالإنجليزية والفرنسية وغيرهما ، مما يتعلمه كثير من أبناء العربية الذين يبتعثون إلى الخارج وتنقاد اللغة الأجنبية على ألسنتهم وتسلس في أقلامهم ويصلون إلى درجة عالية من الإتقان تمكنهم من ممارستها دون أخطاء كما ظهر ـ مثلاً ـ لدى رفاعة الطهطاوي ، من خلال بعثته إلى فرنسا التي دامت خمس سنوات من سنة 1826 م إلى سنة 1831 م حتى إننا نجد خطاباً له بخط يده محفوظاً في أحد المتاحف الفرنسية وليس به خطأ واحد ([7]) .
فأما إصلاح اللغة فلا يجادل أحد في ضرورته وأهميته، وهذا الإصلاح يعد هدفاً رئيساً من دراسة التطور نفسه. ومسألة سهولة تعلم لغة ما وصعوبة أخرى ليست قضية مسلمة، وإنما هي نسبية وللسهولة والصعوبة ملابسات وظروف وأسباب واعتبارات اجتماعية وسياسية وحضارية مختلفة، وكثير مما تتهم به العربية في هذا يرجع إلى مثل تلك الظروف والأسباب والاعتبارات.
وأما بيت المتنبي فالصواب في رأيي أنه لا يدل تاريخياً على صعوبة اللغة في شيء وإنما يدل على أن العربية في كل العصور ـ ومن ذلك عصر المتنبي ـ لها صورتان توجد فيهما : الصورة الفصيحة والصورة العامية أو الدارجة المتنوعة . ومن الصواب أيضاً أنه ليس صحيحاً أن العربية المعاصرة لغة جامدة متحجرة ؛ فمن الظاهر ومما لا ينكر أن العربية الفصيحة في العصر الحديث تتصف بصفات كثيرة تجعلها صورة متطورة عن العربية الفصحى في التراث ومستوى مختلفاً بعض الاختلاف عنها .
وتتمثل حدود هذا التطور أنه واقع في مستويات اللغة العربية الحديثة المختلفة بأصواتها وصرفها ونحوها ومعانيها، وإن كان مستوى الأصوات أقلها تغيراً، ومستوى المفردات والمعجم والدلالة هو أوسعها وأكثرها تطوراً، وذلك عن طريق مسالك مختلفة كالتعريب والترجمة والنحت والقياس والاشتقاق والتوسيع الدلاليّ وتكملة فروع المواد اللغوية التي لم تذكر بقيتها.
· ومن أمثلة ذلك التطور في جانب المفردات والمعجم هذه الكلمات :
القوانين الوضعية ، والمواطنة والمواطنون ، ونواب الشعب ، ومجلس الشعب ، والمجتمع والجمهورية والاشتراكية والشيوعية والرأسمالية والأسبقية والعضوية والرمزية والثورة (بالمفهوم السياسي) والتألق والتعصب والوُصوليّ والمسرح، والمجلّة والهاتف والقطار والسيارة والباخرة والطائرة والثلاجة والمُوَلِّد والحاسوب والناسوخ والمُرطِّبات وزراعة الأعضاء، وما يشبه هذا من ألفاظ الحضارة الحديثة ([8])، وكذلك رضخ للأمر وتجوَّل وحيَّدَ ودشَّن السفينة وأجَّر البيت وتقوقع فيه وعَبْوة وعُبُوُّة، ومتوعّك والتماهي والاختزال بمعنى الاختصار، والنقاهة بمعنى مرحلة ما بعد العلاج ([9]).
ومن هذا الباب أيضاً التعابير الاصطلاحية المعاصرة التي تختلف اختلافاً كبيراً عن نظائرها في العربية الفصحى القديمة؛ فقد توارى كثير من الأمثال والحِكَم التي كانت تمثل زاد العربية من هذا النوع من الأساليب ـ كما يرى الدكتور البكوش ـ وولدت تعابير جديدة بتأثير الترجمة والاحتكاك باللغات الأوربية. ومن أمثلة هذه التعابير : ضرب الرقم القياسي ـ سر المهنة ـ المجال الحيوي ـ المثل الأعلى ـ الشخصيات البارزة ـ السوق السوداء ـ في ظل كذا ـ طلب يد فلانة ـ ذر الرماد في العيون ([10]).
· ومن أمثلة التطور في الصرف :
أ ـ زيادة النون في صيغة " فَعْلنَ " وما يشتق منها مثل : يُعلمِن ويُعقلن ويُطبعن أفعالاً، وعَلْمنَة وعقلنة وطَبعنة، حالة كونها مصادرَ، ومُعلْمِن ومُعقلن ومُطبعن، حالة كونها صفات .
ب ـ إجازة استعمال صيغة " فَعول " باطراد في الدواء، كما في : غَسول وسَفوف وسَعوط (للأنف) ومَضوغ ونَشوق.
ج ـ إجازة استعمال صيغة تفاعل بصورة قياسية للدلالة على التكرار والموالاة ( كما في تعاطى الدواء وتشاغل بالأمر وتمايل الغصن وتساقط الشيء) أو الدلالة على وقوع الفعل في مهلة وتدرج كما في : تكاثف الضباب وتكامل العمل وتماثل من مرضه وتقاعس عن الأمر.
د ـ إجازة النسب بالألف والنون في مجال المصطلحات العلمية للتعبير عن النظرية أو النزعة أو الاتجاه، كما في : العقلانية والشكلانية والشخصانية ([11]) .
هـ ـ من أوسع أبواب ذلك ما جدّ بإطلاق القياس في الأبنية للتوسع وتلبية الحاجات الجديدة كما حدث في المصدر الصناعيّ بزيادة ياء النسب والتاء، وصيغ (فعّالة وفِعال وفاعلة وفاعول) للدلالة على الآلة ([12]).
· ومن أمثلة التطور في النحو والأساليب هذه الأمثلة :
1 ـ التصرف في ألفاظ العقود (أي الأعداد العشرية كعشرين وثلاثين) بأشكال مختلفة أهمها : لزومها الياء في جميع الحالات الإعرابية وجعل الإعراب على ياء النسب كما في (جاء العيد الخمسينيّ) بدلاً من (الخمسونيّ) ، والنسب إليها على لفظها بدلاً من ردها إلى المفرد ، وجمعها جمع تأنيث (والأصل أن الجمع لا يثنى ولا يجمع) وإعطاؤها دلالة جديدة هي دلالتها على الأعداد المعطوفة على العقد من الواحد إلى التاسع، فيقال مثلاً : حدث هذا في الثلاثينيّات ، أي في الأعوام من الواحد والثلاثين إلى التاسع والثلاثين ([13]).
2 ـ تركيب "لا" مع ما بعدها في مثل : اللامعقول ـ لاأخلاقي ـ لاشعوريّ ـ اللامبالاة ـ اللاوعيّ ـ لانهائي ـ لامركزي. وقد نتج عن هذا أن قيل : اللامعقول مذهب من مذاهب الأدب، وكان عملاً لا أخلاقياً، وتصرف لا شعورياً. وقد أجاز مجمع القاهرة هذا على أن "لا" نافية غير عاملة وأنها ركبت مع ما بعدها بحيث يعرب هذا المركب الجديد بحسب موقعه في الجملة ([14]).
3 ـ ثمة استعمالات كثيرة متطورة في الظروف منها خروج " حوالَيْ " عن أصل استعماله في ظرفية المكان إلى المواقع المختلفة واعتباره كلمة تستعمل على حسب موقعها الإعرابي، كما في (حضر حوالي عشرين طالباً) ، وجدّة استعمال " عبرَ " ـ وهو في الأصل مصدر ـ في موقع " خلال " كما في (سار عبر الصحراء ، وكان النصر حليفهم عبر التاريخ) وكذلك " ضد " في مثل (ثار ضدّ الحكم) ([15]) .
4 ـ التوسع في استعمال "قد" مع المضارع المنفي بلا ، ومن الشواهد القديمة لهذا قول ابن مالك في ألفيته ([16]):
ولاضـطرارٍ ، أو تنـاسبٍ صُـرِفْ ذو المنعِ، والمصروفُ قد لا ينصرفْ
وقول الشاعر:
وقد لا تعدم الحسناء ذاما
وقول المناطقة في القضية الجزئية : (قد يكون وقد لا يكون). ومن أشهر من منع ذلك ابن هشام، والأصل في هذا أن سيبويه رأى أن "قد" لتقرير حدث الفعل وتحقيقه، ودخول "لا" على المضارع المنفي مع "قد" يلزمه التنافي والتعارض، وكذلك اعتبرت "قد" مع الفعل كالجزء منه لا يفصل بينهما فاصل. وقبل أن يجيز مجمع القاهرة هذا كان الشيخ عطية الصوالحي رفضه واقترح بدلاً من (قد لا يكون) : (قل أن يكون) . [انظر : كتاب الألفاظ والأساليب 1 ـ 10] .
5 ـ عمرو قد أدى واجبه ، ومحمد هو الآخر يؤدي واجبه . هو الآخر جاء يؤذينا. (لفظ "الآخر" بدل من الضمير قبله والأسلوب يدل على المماثلة أوالتبكيت، ويمكن أن نقول إن هذه صورة جديدة للبدل ) .
6 ـ ما كدت أدخل حتى استقبلني رب البيت بالترحاب، وما كادت الساعة تدق العاشرة حتى ازدحمت القاعة بالحاضرين . (الدلالة على الاقتران بمجيء "حتى" بعد خبر "كاد المنفية") .
7 ـ كل عام وأنتم بخير. (التهنئة بهذه الصورة نمط جديد، و"كل عام" مبتدأ حذف خبره والواو للحال) ([17]) .
8 ـ إن صورتها لم ولن تغيب عني ، وإن موقفك لا ولن يغير رأيي . (هنا جمع بين نفي الماضي والمستقبل، ونفي الحاضر والمستقبل. وقد وجّه هذا على أنه من باب التوسع فيما يسمى بالتنازع بقبوله في الحروف مع إعمال الحرف الثاني على رأي البصريين) .
9 ـ سافر محمدْ علي حسنْ . (تسكين الأعلام المتتابعة مع حذف كلمة "ابن") .
10 ـ اشترِ أيَّ كتاب أو أيَّ الكتب ، ولا تبالِ بأيِّ تهديد. (خروج أيّ عن أصلها في الإبهام والتعميم وعن استعمالها في الاستفهام والشرط ونحوهما) .
11 ـ حذف المعطوف عليه المفهوم من السياق في مثل :
ـ لم يقرأ حتى الصحفَ.
ـ الهزيمة تهدد إسرائيل يعترف بها حتى المتعاطفون معها .
ـ لم ينجح في أن يكون حتى عضواً في مجلس القرية.
12 ـ تقديم لفظ " النفس " على المؤكَّد وإعرابها على حسب موقعهما في الجملة، كما في (قرأت نفسَ الكتاب) ([18]).
وهذه الأمثلة للتطور أو التغيير تعد تغييراً بإدخال الجديد أو ما كان قليل الاستعمال والشيوع أو القبول، إلى مجال الحياة والاستخدام الفعليّ والإجازة والتسويغ ، وثمة صورة أخرى للتطور والتغير معاكسة للصورة السابقة وهي بلى استخدام بعض الألفاظ والصيغ وتواريها واختفاء بعض التراكيب والاستعمالات النحوية، ومن ذلك عدم نصب الأفعال بإذن ([19]) واختفاء استعمال " لات ".
ويفسر بعض الدارسين هذا التغيير في العربية المعاصرة بأن الناس من الناحية الفكرية ما يزالون يعتبرون الفصحى المعاصرة مطابقة لفصحى التراث الكلاسيكية ولكن من خلال الاستعمال والممارسة والسماع يظهر التغير والتعديل ويتضح الفرق، وهو يكثر في لغة الإعلام المتأثرة بالترجمة كاستعمال الفعل "قام" متصلاً بالمصدر بدلاً من الفعل المباشر (كما في "قام بزيارة كذا" بدلاً من "زار") واستخدام " تمّ " متبوعاً بالمصدر بدلاً من الفعل الماضي المبني للمجهول ( كما في "تم توقيع الاتفاقية") واستعمال "كل من" و"ذلك" بكثرة في مقابل الاستخدام المحدود لفاء السببية ([20]) .
إذن نحن نعترف بالتغير في المعجم وفي أنماط استعمال اللغة العربية وتجديد صور ممارستها كما بينا في أمثلة الصرف والنحو وكما هو مشهور في بعض أمثلة الأصوات ، ويعترف بهذا أيضاً الواقع وتسجيل المجمع اللغوي بالقاهرة لكل الشواهد التي نقلناها ولكثير مما لم ننقله وإجازته لها، مع ضرورة التنبه إلى أن كثرة ظواهر التغيير في لغة الإعلام خاصة ليست دليلاً على التطوير؛ لأن هذه اللغة مليئة بالتجاوز والتأثر بالترجمة والأخطاء الشائعة ومحاولة ترسيخ أنماط غيرها أولى منها .
وهذا التطور يرى بعض أساتذة اللغة أنه أدى إلى اختلاف فصحى التراث عن الفصحى المعاصرة اختلافاً يجعل منهما مستويين مختلفين تمام الاختلاف في أنظمة اللغة كلها ([21]) .
وخلاصة الرأي الذي أراه في هذه القضية أن اللغة العربية ـ كما أشرت من قبل ـ تنفرد بأنها اللغة الوحيدة التي استمرت طوال قرون عديدة ثابتة في أطرها العامة وأصول أنظمتها ، لم يحدث فيها تغيير في طبيعة تركيبها البياني والنحوي يمس الجوهر والنظام وينال منه، أعني هذا النظام الذي من أهم خصائصه الإعراب وأنه يجمع بين التصرف والإلصاق والعزل وإن غلب عليه التصرف([22]) . وكل ما حدث فيها إما تغيير في بعض أنماط استعمال الأبنية الصرفية والنحوية وتنفيذ نظاميهما، وإما تغييرات على مستوى المفردات بالإسقاط أو الاستحداث أو التوسع أو التضييق. ولعل مرجع هذا الثبات في العربية ـ كما يقول الدكتور نهاد الموسى ـ إلى أنها (فضلاً عن أنها لغة القرآن ولغة التراث الجامع) قد انتظمت في وصفها الأول مدًى واسعاً من الائتلاف تمثل في اعتمادها على لهجات وخصائص لغات مختلفة، وهذا الائتلاف الواسع أدى إلى اتخاذ التطور مظهراً من الحركة الذاتية القائمة على الاختيار. إن كثيراً من الظواهر التي ننكرها على أنها من مظاهر التطور المخل بثبات العربية وتوحدها، تنتمي إلى أصول ماثلة في بناء العربية التاريخي، ولكنها كانت ضيقة فاتسعت، أو كانت خاصة فعمت . ويترتب على هذا الثبات الفريد أنها اللغة الوحيدة التي لم ينقطع حاضرها عن ماضيها، وأن المتكلم بها يستطيع أن يقرأ ثمرات الأقلام فيها منذ ستة عشر قرناً حتى اليوم، في مثل هذا العدد من البيئات العربية الكثيرة ، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، لا يعوقه في ذلك (إلا في حالات قليلة) نسيج الجملة، ولا أوضاع النحو والتصريف، ومن الضروري هنا " أن نعترف أنه قد يدخل على أبناء العربية من هذه الجهة وَهَمٌ مضلل ؛ إذ يقرءون بالعربية وهم يظنون أنهم يدركون المقاصد وفقاً لما تعارفوا عليه من دلالات الألفاظ في استعمالاتها المعاصرة، دون تحقيق في الفروق الناجمة عن التطور. ولعله ـ لهذا السبب ـ يصبح إحياء الدعوة إلى وضع المعجم التاريخي أمراً حيوياً ملحاً " ([23]).
[1[1]) ) ـ انظر : مقدمة لدراسة اللغة ، للدكتور حلمي خليل (دار المعرفة الجامعية ـ الإسكندرية ـ 1996 م) 193 ـ 195 ، وأضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة ، للدكتور نايف خرما (سلسة عالم المعرفة بالكويت ـ ط 2 ـ 1979) 251 وما بعدها .
[2]) ) ـ دور الكلمة في اللغة لاستيفن أولمان ، ترجمة الدكتور كمال بشر (مكتبة الشباب ـ القاهرة ـ ط10 ـ 1986) 170 .
[3]) ) ـ التطور اللغوي ، مظاهره وعلله وقوانينه ، للدكتور رمضان عبد التواب (مكتبة الخانجي بالقاهرة ـ ط 1 ـ 1983م) 8 .
[4]) ) ـ السابق : 7 ، 8 ، وانظر : اللغة بين القومية والعالمية، للدكتور إبراهيم أنيس 17 .
[5]) ) ـ انظر : المتنبي ، ليتني ما عرفته ، لمحمود محمد شاكر ، نقلاً عن "لتحيا اللغة العربية ... سيبويه" لشريف الشوباشي 138.
[6]) ) ـ مستقبل الثقافة في مصر : 302 (الأعمال لمؤلفات الدكتور طه حسين ـ علم التربية ـ دار الكتاب اللبناني ـ بيروت).
[7]span>) ) ـ ـ انظر : لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه 129 ـ 145، وانظر في الرد على ادعاءات هذا الكتاب ـ مثلاً ـ " لتحيا اللغة العربية يعيش سيبويه " للدكتور إبراهيم عوض (مكتبة الثقافة ـ الدوحة ـ 2005 ) .
[8]span>) ) ـ ـ انظر : العربية الفصحى الحديثة ، لستتكيفتش ، ترجمة الدكتور محمد حسن 48 ـ 66 واللغة العربية ، تاريخها ومستوياتها وتأثيرها ، تأليف كيس فرستيغ ، ترجمة محمد الشرقاوي 194 ـ 196 .
[9]span>) ) ـ انظر : في تطور اللغة العربية، بحوث مجمعية ، للدكتور محمد حسن عبد العزيز 165 ـ 268 .
[10]) ) ـ ـ انظر : من قضايا اللغة العربية المعاصرة (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ـ 1991 ـ بحث الدكتور البكوش) 203.
[11]span>) ) ـ انظر : في تطور اللغة العربية، بحوث مجمعية ، للدكتور محمد حسن عبد العزيز 6 ـ 77 .
[12]) ) ـ انظر : القرارات النحوية والتصريفية لمجمع اللغة العربية بالقاهرة جمعاً ودراسة وتقويماً، للدكتور خالد بن سعود (الرياض ـ ط2 2009) 430، 434، 444 .
[13]) ) ـ انظر : كتاب الألفاظ والأساليب ، مجمع اللغة العربية بالقاهرة 74 ـ 84 .
[14]) ) ـ انظر : في أصول اللغة ، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، 3/ 144 وما بعدها والعربية الفصحى الحديثة 109 ـ 113.
[15]) ) ـ انظر السابق 101، 204، 93 .
[16]) ) ـ ـ شرح ابن عقيل : 3/338 .
[17]span>) ) ـ انظر : كتاب الألفاظ والأساليب 52، 95، 96 ، 203 ، 229 .
[18]) ) ـ انظر : القرارات النحوية والتصريفية لمجمع اللغة العربية بالقاهرة جمعاً ودراسة وتقويماً، للدكتور خالد بن سعود 118 ، 253 ، 268 ـ 269 ، 273 ، 306.
[19]) ) ـ انظر : السابق (القرارات النحوية والتصريفية) 311 .
[20]) ) ـ ـ انظر : اللغة العربية ، تاريخها ومستوياتها وتأثيرها ، لكيس فرستيغ : 208 .
[21]span>) ) ـ انظر على سبيل المثال : مستويات العربية المعاصرة في مصر ، للدكتور السعيد بدوي (دار المعارف بمصر ـ 1973) 89 ـ 92، وبوبحث الدكتور الطيب البكوش في كتاب " من قضايا اللغة العربية المعاصرة ".
[22]span>) ) ـ انظر : من قضايا اللغة العربية المعاصرة ، مقال للدكتور تمام حسان بعنوان "اللغة العربية والشعوب الإسلامية" 69 ، 70 . &n
[23]) ) ـ قضية التحول إلى الفصحى في العالم العربي الحديث ، للدكتور نهاد الموسى (دار الفكر ـ عمان ـ ط 1 ـ 1987) 161.