إستراتجية القص في "المشهد والظل"
إستراتجية القص في "المشهد والظل"
لهيام الفرشيشي
عباس سليمان
وأنا أقرأ مجموعة " المشهد والظل " لهيام الفرشيشي ، حضرتني قولة تودوروف الشهيرة " القصة هي الحياة " .
تذكرت القولة لما في كل الأقاصيص التي تؤثثها هذه المجموعة من غوص في هواجس الشخصيات وأحاسيسها ورؤاها وسلوكها وبداياتها ومآلها .. ولما في انبناء السرد فيها على تتالي الأحداث لا على الوصف المسهب والتهويم بعيدا في ما لا علاقة له بهموم الشخصيات ومشاريعها وطموحاتها .
ولقد أبانت لنا قراءتنا لهذه الأقصوصات على أن السرد عند هيام الفرشيشي الأحداث وشده وبما يضمن تخصيصه بدور آخر غير دور القراءة يمكن أن نطلق عليه الميتا- قراءة .
إن من شأن ذلك أن يخرج القارئ من مجرد متقبل للمحمول السردي ومنفعل به إلى مفكر فيه مدرك لرؤى باثه ومغازيه فاعلا بعد الانفعال من خلال إعادة بناء النص وفق فهم مختلف قد يكون أثرى وأجدى وأقصر طريقا إلى رأب الصدع وتحقيق التوازن .
إن الانطلاق من وضعية اختلال عند هيام الفرشيشي الإعلان عن الشعور بفقد أو ضياع وهو شعور وإدراك ينسحب على كل النصوص دون استثناء ...
فكيف تجلت هذه الاستراتجية في أقاصيص هذه المجموعة ؟
وإلى أي مدى وفقت صاحبتها في بناء نص قصصي يأتلف مع ضوابط القص المعتادة ويختلف عنها بتفرده في صياغة نسق السرد ؟
ذلك ما سنسعى إلى كشفه من خلال النصوص الثلاثة التالية :
موكب صامت
إن وضع القارئ في قلب الحدث منذ السطور الأولى وسيلة ذكية وفعالة لا فقط لشده إلى النص بل أيضا لإقناعه بأن أهمية الحدث لم تترك مجالا للاستطرادات والوصف والتدبيج ...
يدرك القارئ منذ السطر الثالث أن " زياد الرافعي " قد انتحر ، فينخرط مع السارد في البحث عن حقيقة ذلك الانتحار ، وهل هو انتحار فعلا أم إنه موت بطريقة أخرى ... وهو إلى ذلك يدرك منذ البداية أنه أمام وضعية اختلال يبرهن عليها افتقاد أستاذ جامعي مهتم بالأدب اسمه " زياد الرافعي " أو بما هو روحي لا يدرك بالعين ولا باللمس أو بما هو مجموع الإثنين مع المادي والروحي .
ولعل الفقدان أو الضياع الذي انبنى عليه هذا النص يتجاوز "زياد الرافعي " إلى فقدان الروح " أين اختفت هذه الروح ؟ " ، وفقدان الحلم والحياة " لقد زال الحلم على وجه الأرض وانبرى الموت كملامح الأيام العصيبة " ، وافتقاد الأبناء زينة الحياة الدنيا " حياتهما رتيبة إذ لم ينجبا أطفالا على زواجهما الذي امتد على عقد من الزمن " ، ثم افتقاد حرية التعبير الفني ومحاولة تغييب الشاهد الوحيد على كل هذا الضياع ...
تعود الأقصوصة إلى توازنها بوصول البحث أو السرد إلى نتيجة مفادها أنه من قبل إنه انتحر قد مات مقتولا ليبرز الغياب أو الانتحار على طريقة أبشع من الانتحار وأشنع من أي موت آخر ...
بين إعلان الفقدان وتأكيده بين ما شاع وحدث حقيقة ، بين التهديد قولا ، وتنفيذه فعلا ، يسير القص مركزا على الحدث مبتعدا عن الاستطرادات التي يخفى حضورها أهمية خطب خطير وخسارة فادحة متمثلين في فقدان أستاذ جامعي يشتغل بالتدريس ويهتم بكتابة الرواية ومراوحا بين الإشارات التي طواها الماضي والحقائق التي تجسدت حاضرا .
حيرة نرجسية
من منكم رأى عم عمر ؟
بين إعلان وفقدان عم عمر ، تهوى الفتاة المجنونة في الماء مخلفة صرخة سرعان ما ضاعت وتلاشت هي الأخرى ، وبين إعلان فقدان عم عمر وباطنه في دفع الشاب صاحب الضيعة الفتاة إلى الموت ثم لامبالاته التامة بغيابها وبحياتها التي ضاعت .
من سؤال عن عمر إلى إجابة قادت السائلة إلى الموت إلى سؤال لا جواب له عن سبب الزج بالفتاة في نهاية مأسوية ... من هناك إلى هنا يتردد الضياع ، ويتردد الفقدان وتنساب الأقصوصة من حالة اختلال متمثلة في الاختفاء وفي الجنون إلى حالة شبه توازن متمثلة في الموت المحيل هنا على راحة أبدية وخلاص من حالة فقدان العقل .
ركض وراء الذاكرة
لا تختلف هذه الأقصوصة عن سابقتيها في تصدر حالة اختلال وفقدان السرد ، فالمسألة تتعلق بشخص " يحلم بزوجة تمنحه الوهج ، وتفتح أبواب داره وتشرع النوافذ ..." بما يعني أن النص سيبنى على حالة افتقاد عاطفي ، واختلال اجتماعي وبما يؤكد ما كنا أشرنا إليه إلى أن استراتجية القص عند هيام الفرشيشي ليست مصادفة وإنما هي اختيار لم تشذ عنه أقصوصة واحدة من أقاصيص هذه المجموعة . ثم إن حالة ضياع أخرى تعلن إثر الأولى مباشرة لتزيد من تعميق حالة الاختلال . فالإعلان عن افتقاد الزوجة يتبع مباشرة بإعلان اختلال آخر هو أشد وطأة وأكثر حفرا في الروح . هو السند العائلي ليواجه مصيره المبهم ، " وحولت من غيابها سرا مازال عاجزا عن كشفه ..." هو إذن افتقاد أشد خطورة لأنه يتعلق بالأم والنسب .
ويتواصل تأكيد الضياع عبر حالة اختلال أخرى ظاهرها عدم امتلاك عبد الحميد معولا يعيره جيرانه وباطنه افتقاده الفحولة أو الذكورة وهو الافتقار الذي ستفصح عنه الأقصوصة ، عند بلوغها منتهاها .
بادرت الفتاة :
- أبي يطلب منك المعول
- المعول ؟
- نعم المعول ، ألا تملك معولا ؟
ذكره هذا الحوار "عبد الحميد" بحالة فقدان أخرى متمثلة هذه المرة في وفاة المربية التي احتضنته وعوضت أمه حينا من الزمن لتصل إلى حالات الضياع المتسببة في الاختلال بأنواعه المختلفة إلى خمسة : الزوجة والأم والنسب والمربية والذكورة . " مخلفا وراءه كلمات الطبيب المحذرة من الزواج والمواسية في الآن نفسه بأن الحياة متواصلة " ...
إنها حالات اختلال عديدة لعل وقعها على القارئ يصبح أشد وأدعى إلى الخوف عندما يتبين له أن ضحيتها معلم مهمته تنشئة الأجيال على التوازن والاتزان ...
على سبيل الخاتمة
يصبح القارئ في نصوص هيام الفرشيشي شريكا للكاتب في التفكير وفي البحث عن الاتزان . .