الصدق الفني والموضوعي في "عطش العشق"

د. عبد الرحمن حوطش

الصدق الفني والموضوعي في "عطش العشق"

للشاعر سعيد ساجد الكرواني

د. عبد الرحمن حوطش
عمادة جامعة محمد الأول وجدة المغرب سابقا

لا يكاد ذ. سعيد ساجد الكرواني ينتهي من إصدار مجموعة شعرية رقيقة حتى يفاجئ قارئه بأخرى أجود منها وأرق، وهذه علامة بارزة على طريق هذا الشاعر الذي لا يسع المشتغلين بالأدب الإسلامي، والشعر منه بكيفية خاصة، إلا أن يبتهجوا ويباركوا خطواته الموفقة.

أقول هذا وبين يدي إضمامة شعرية جميلة تتألف من خمس قصائد، اختار لها عنوان "عطش العشق"وهي على التوالي: تقمص الذات، واكتِناه الآخر، وحين يستبطن مجنون قرطبة الضمير، وعلى جبين الثريا، ومرايا الخيال.

ويبدو لي أولاً أن الشاعر سعيد قد أسعده الله تعالى بفن الشعر إسعادا، ووفقه إلى الإمساك بزمام الكلمة الفنية المعبرة توفيقاً وسَداداً، وقاده على طريقه اللاحبة السالكة قياداً؛ولست - و أنا أسجل هذه الملحوظة - متزيداً أو مطلقاً الكلام على عواهنه كمايقال، أو أنني أقصد إلى مجرد تشجيعه،ونفث روح العزيمة فيه، فذلك أمر لا يجد عندي قبولا،وأظنه يعرفني جيداً عبر توجيهات ونصائح كنا قد تبادلناها، كما يعرفني بعض من لي بهم صلة، حين يتعلق الأمر بمطارحاتنا الفكرية حول قضايا ومسائل ترتبط بالأدب الإسلامي، وبالشعر منه بكيفية خاصة، وما أبتغي من كل ذلك سوى خدمة هذا الشعر الذي ارتبطت به دارساً وباحثاً منذ أزيد من عقدين ونصف من الزمان.

وإذاً فالمقام ليس مقام تشجيع ولا نفث لروح العزيمة كما قلت، وإنما المقام هنا هو تقديم بعض الكلمات الْمُحَلِّية لهذه الإضمامة الشعرية الرصينة، التي تأتي ضمن صيرورة العمل الفني لدى الزميل سعيد ساجد الكرواني، ممثلة خطوة أخرى حاسمة على طريق تطوير الإبداع الشعري لدى هذا الشاعر المتألق.

ويمكن النظر إلى هذه الإضمامة من خلال مستويين اثنين هما:

مستوى الرؤيا، ومستوى التعبير:

أما بخصوص المستوى الأول:

فتبدو هذه الإضمامة مضمخة بعبق التاريخ؛ تاريخ الأشخاص، و تاريخ الأمكنة. وهو تاريخ ليس من ذلك النوع الذي يمر فينسى، ويموت فلا عليه يؤسى؛ إنه تاريخ الأندلس، الذي سيظل محفورا في الذاكرة، ولا سيما ما ترسخ منه في القلب والوجدان،وارتبط بشخصيات معينة كان لها حضورها البارز في الحقل الثقافي والأدبي منه على وجه الخصوص، كولادة بنت المستكفي التي شغلت الشعراء، وفي طليعتهم ابن زيدون، وقرطبة وغرناطة الرمزين الدالين على الوجود الإسلامي الباهر في هذه المنطقة المهمة من شبه الجزيرة الأيبيرية لمدة ثمانية قرون أو تزيد.

إن تعامل الشاعر مع الأمكنة،والشخصيات الأندلسية ليس تعاملاً خارجياً سطحياً كما فعل كثير من المبدعين من المشرق والمغرب، وإنما هو تعامل مس الشغاف،ومازج أعماق المشاعر وأدقها، وخلجات النفس وأرقها؛ يبدو ذلك من خلال العنوان الذي اختاره لهذه الإضمامة (عطش العشق)؛ فهناك عشق، وهناك ظمأ، وحين يكون العشق قويا يكون الظمأ أقوى، وحين يكون العشق دائماً يكون الظمأأدوم، ومن ثم استمرارية الارتباط بالمعشوق، واستمرارية الحاجة إلى الإرواء، وحين يكون تحقيق غاية الإرواء أمرا غير ممكن، فإن الظمأ، أو العطش، سيستمر، وتظل - من ثم - المشاعر متأججة والأعماق تغلي بحب سرمدي.

والشاعر وهو يستحضر هذاالتاريخ، أو لنقُل: هذا الجزء من تاريخ الأندلس، لا يفصله أبداً عن ذاته، ولعل هذا هو السبب في هذه الحرارة الوجدانية المفرطة التي ظلت ملازمة لكل كلمة من كلمات المقطوعات الشعرية الخمس التي تتألف منها هذه الإضمامة الرائعة، متلبسة ذلك الصدق الفنيوالعاطفي الذي لا يخطئه حس القارئ المتأني،و الباحث أو الناقد الذي غايته استجلاء الوقائع، وتلمس الحقائق كما هي؛ فلا افتئات على التاريخ، ولا تجني على بعض معطياته التي كانت مؤلمة:

محاكمهم فتشت في ضمائرنا

كل حاشية ثم عاثت فسادا

فأكداس أسفارنا في الميادين

أضحت رمادا

.........

أبادل هذي بأخرى

فتعبق بالصبوات الهواجس تترى..

و أما على مستوى التعبير:

فإن هذه الإضمامة تمثل عندي تطوراً مسترعياً للنظر؛ فالكلمات غاية في الرقة والشفافية والوضوح مستوية أكمل ما يكون الاستواء، مقدودة كأنها حبات عقد منظوم، موقعة توقيعاً رائقاً تتناغم فيها الحروف تناغمًا يضفي عليها من ألوان الموسيقى الشعرية ما يجعلها محببة لدى القارئ المتذوق، الباحث عن جمال الكلمة وعذوبتها وسحرهاوانسجامها مع الإيقاع العام لتفعيلة البحر التي هي هنا: تفعيلة المتقارب (فعولن).

وقد يكون من المفيد أن أسوق في هذا المقام نماذج من هذه اللغة الشعرية الجميلة المشار إليها، فضمن مقطوعة "اكتناه الآخر" نقرأ:

وعيناك غرناطتي

تغريان صبابة عشقي

تؤجج جمر المواجد

بين حنايا حنيني وشوقي

صبيتنا أنت

طهر البراءة كنت

وما زلت

في القلب ذكرى

تعالى بمر العصور

وتنشر من حولها النور نشرا

وما زلت للنور رمزا

وبشرى

ومن مقطوعة "حين يستبطن مجنون قرطبة الضمير" تطالع القارئ هذه الكلمات ذات الظلال العاطفية الممتدة ما بين قرطبة وسبتة، فتتركه غارقا في تأمله فيما حاق بالمدينتين الرمزين:

فيا أيها النور خذني

لفرسان قرطبة

لمراكب سبتة أحك الحكاية

فليس لمبدئها من نهاية

أحرق وشرْق؟

أخنق وشنق؟

فما عاد يرهب أفق العزيمة

رعد وبرق..

وفي سياق الربط بين العدوتين: عدوة المغرب الأقصى، وعدوة الأندلس، تستوقف القارئ هذه الكلمات المنحوتة من حنايا قلب ظامئ أبدًا لأمجاد كانتوستظل حاضرة في ذاكرة الإنسان المغربي، نقرأ في "على جبين الثريا":

ونحلم

نحلم بالزفة القرطبية

في المنتدى

نبعثر بين ضلوع الصقيع الندى

ونُمضي ليالي المنى المقمرة

كأني بأشرعتي المبحرة

تهدهدها الذكريات السعيدة

مثل اللآلئ وسط المحار

فمن يُفتدى

لخطفة قلب من الأسر

والفتنة الجارحة؟

ويومض برق

ليكتب فوق جبين الثريا

رسالة عشق.

كلمات منحوتات من قلب ظامئ أبدا إلى تلك الأمجاد العربية والإسلامية التي تأثلت في الأندلس رغم تطاول الأزمان، وتغير الأحوال، التقطتها العدسة الفنية للشاعر بكفاية عالية، وصفاء ذهني يصل حد الشفوف، مما يمثل بالنسبة إلى أعماله الشعرية السابقة تطوراً ملحوظاً في صناعة الشعر لديه.

وأود في خاتمة هذه الكلمة أن أسجل بأنني هنا في مقام تحلية هذه الإضمامة، ولست في مقام نقدهاوقراءتها قراءة تستبطن كل الخفاياوسائر القضايا التي تحملها.

وأعتقد أن القارئ - وهو يتصدى لكل فكرة وكلمة وعبارة فيها - سيجد الكثير من المتعة الفنية والإبداعية التي ستشده إليها، لذلك سأترك له المجال ليكتشف بنفسه ما اكتشفته، وما لم ييسره الوقت لي لاكتشافه، ودعواتي للأستاذ سعيد بالتوفيق في مسيرته الإبداعية الشعرية الناجحة إن شاء الله تعالى، والله ولي التوفيق.

وَجْدَة - في: فاتح جمادى الآخرة 1424 هـ - أ.د عبد الرحمن حوطش