مكانة المرأة في الخطاب الأدبي العربي

أ. د. عبد الله الفَيْفي

مكانة المرأة

في الخطاب الأدبي العربي

(معيار الشِّعر لدى العرب)

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي

[email protected]

لا مكان لشاعرةٍ في الثقافة العربيّة إلاّ في حدودٍ لا تختلف عن مكانة المرأة في المجتمع العربيّ.  نعم،  يستطيع الرجل أن يثق بالمرأة، ويقدّر مَلَكاتها، إن كان رجلاً، يثق بنفسه فيثق بالمرأة، إنسانًا كامل الأهليّة!  غير أن تلك الثقة تُعدّ عادة منحة في يد الرجل، وكأنها مرادفة العِصمة؟!  والمرأة التي تنتظر منحة الرجل واعترافه لن تنالهما، بل لا تستحقّهما؛ لأنها قد تخلّت عن أن تكون حُرّة؛ فهي رهينة ما سيتفضّل به عليها الرجل (المهاب) من هبات.

من أجل ذلك كلّه، وعلى الرغم من أن الأسئلة كانت تتوارد في النقد العربيّ القديم عن فُحُوليَّة XE "فُحُوليَّة"  مختلف الشعراء- كبيرهم وصغيرهم، قديمهم وحديثهم- فإن شاعرة مهمّة كالخَنْساء XE "خَنْساء"  لم يكن عنها سؤال في ذلك المخاض من التصنيف للشعراء.  إذا عُدَّت، عُدَّت في ذيل عشر طبقات شعريّة مقدّمة من الجاهليّين والإسلاميّين، وذلك ضمن طبقة أصحاب المراثي- التي تأتي مباشرة قبل طبقة شعراء القُرى واليهود XE "يهود" - مُقَدَّمًا عليها في الرثاء متمّم بن نويرة XE "متمّم بن نويرة" (1).  وإذا جاء التساؤل عنها جاء على استحياء في سياق المفاضلة بينها وبنت جنسها الشاعرة (ليلى الأخيلية XE "ليلى الأخيلية" )(2)

إن المرأة سؤالٌ غير مطروح أصلاً في السياق الفُحُوليّ XE "فُحُولة"  العربيّ، ووفق النَّسَق الثقافيّ الذي كان يتبنّاه كلا السائل والمسؤول.  هذا على الرغم من أن العرب قد شَهِدوا للخَنْساء XE "خَنْساء"  بتفوّق الشاعريّة.  حيث يصفها (النابغة XE "نابغة ذبيان" ) بأنها أشعر الجنّ والإنس، لولا أبو بصير (الأعشى) XE "أبو بصير (الأعشى)" (4).  و"قيل لجرير XE "جرير" : من أشعر الناس؟  قال: أنا لولا الخَنْساء XE "خَنْساء" ."(5)  وأجمعوا على أنها أشعر نساء العرب XE "عرب" ، وذهبوا إلى أنها لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها(6).  متّفقين على الإعجاب بها، جاهليّين وإسلاميّين.  كما كان الرسول محمّد، صلى الله عليه وسلّم، يقدّم شِعر الخنساء على الشِّعر كلّه.  فلقد  XE "محمّد صلى الله عليه وسلّم" كان يُعجبُه شِعْرُها، ويستنشدُها، قائلاً: هِيْهِ يا خُناسُ، ويومئ بيده.  بل رُوي أنه كان يُقدّمها على امرئ القيس XE "امرؤ القيس" ، فقد سأل عديًّا بن حاتم، لمّا قَدِم عليه، فقال عديّ: "فينا أشعر الناس، وأسخى الناس، وأفرس الناس"، وذكر امرأ القيس، وحاتم بن سعد، وعمرو بن معدي كرب، فاعترض الرسول، قائلاً:  XE "امرؤ القيس" "ليس كما قلتَ يا عديّ، أمّا أشعر الناس، فالخَنْساء بنت عمرو، وأمّا أسخى الناس فمحمّد... وأمّا أفرس الناس فعليّ XE "خَنْساء بنت عمرو" ."(3)  فجعل الخَنْساء ثالثة ثلاثة.  وتلك مكانة للمرأة تسمو على أيّ منصبٍ أدبيّ؛ مكانة في الناس كافّة، مقرونة بمحمّد وعليّ.  فهل كانت النظرة المحمّديّة تطابق نظرة القبائل العربيّة إلى المرأة، أو نظرة الإسلام التاريخي، أو نظرة النقد الأدبيّ إليها، شاعرة أو كاتبة؟!  كلاّ، لم يكن من سبيل لدى القبيلة العربيّة لمساواة الخَنْساء XE "خَنْساء"  بشاعرٍ رجل، مهما اعترفوا بتفوّقها.  لأنه قد اختلّ أمامهم معيار الشِّعريّة في شِعرها، فنّيًّا وجنسيًّا، أي ليس لكونه رثاءً صِرفًا، يفتقر إلى التقاليد البنائيّة الفُحُوليَّة XE "فُحُوليَّة"  للقصيدة العربيّة- وعلى رأسها مقدّمة الأطلال والنسيب، وهما عنوان الفُحُولة XE "فُحُولة"  لا الأنوثة XE "أنوثة" - فحسب، لكن أيضًا لأن صاحبة ذلك الشِّعر كانت امرأة.  ما يدلّ على أنهم كانوا يعتدّون بشِعريّتها حينما يَخْلُصون إلى أنفسهم من وطأة النسق الثقافيّ التقليديّ XE "نسق ثقافي تقليدي" ، إلاّ أنهم ما يلبثون أن يتوقّفوا إزاء نموذجٍ مختلف، لا فُحُوليّ XE "فُحُولة" - حسب أعرافهم-: صاحبته امرأة، وقد كَسَرَتْ القالب البنائيّ التقليديّ الذكوريّ XE "ذكوريّ"  بأنماطه الجاهزة المألوفة، فوحّدت القصيدة في بناءٍ عضويّ- يدور حول قضية الموت XE "قضية الموت"  وأثره على نفسيّة المرأة- بناءٍ تظلّ تغذّيه وتنمّيه مخيّلة الشاعرة فِعْلَ الرَّحِم الأموميّ بالجنين.  وهو نهجٌ كان في الاتجاه المعاكس تمامًا للفُحُوليّة XE "فُحُولة" ، إنْ على المستوى النفسيّ أو الفكريّ  أو البنائيّ. 

تلك المعايير الفُحُوليَّة XE "فُحُوليَّة"  لم تكن لتستوعب، إذن، هذا المختلف "الخنساويّ"، الذي يحيل القصيدة إلى لوحة تشكيليّة، تتولّد حيّة كهذه مثلاً- إذ تقول عن أخيها صخر XE "صخر (أخو الخَنْساء)"  وأبيها:

جـارَى أباهُ، فأقْـبلا وهُما

                  يَتعـاورانِ مُـلاءَةَ الفَخْـرِ

حتّى إذا نَـزَتِ القُلُوبُ وقدْ

                  لَزَّتْ هناك العـُذْرَ  بالعـُذْرِ

وعلا هُتـافُ الناسِ: أيُّهما؟

                  قالَ المُجِيْبُ، هُناكَ: لا أدري

بَرَزَتْ صَحِيْفَةُ وَجْهِ والـِدِهِ

                  ومَضَى على غُلوائِـهِ يَجْري

أَوْلـَى فأَولَى أنْ يُسـاوِيَهُ

                  لولا جـلالُ السِّـنِّ والكِـبْرِ

وهمـا، كأنَّهمـا، وقدْ  بَـرَزا

                  صَقْرانِ قدْ حَطَّا على وَكْـرِ(7)

وبناء عليه جاء لقب (الخَنْساء XE "خَنْساء" ) فرزاً لهذا الضرب من الشِّعر الأنثويّ XE "شعر أنثويّ"  المختلف عن الشِّعر الفُحُوليّ XE "فُحُولة" ، اختلاف الأنوثة XE "أنوثة"  عن الذكورة XE "ذكورة" .

ولهذا السبب نفسه كان انتصار المنتصرين لها انتصاراً منقوصًا بغير وجهٍ تعليليّ واضح، إلاّ بأن يقول النابغة XE "نابغة ذبيان"  مثلاً، بعد أن أنشدتْه عقب الأعشى XE "أعشى"  وحسّان XE "حسّان بن ثابت" : "لولا أن أبا بصير XE "أبو بصير (الأعشى)"  أنشدني آنفًا لقلتُ: إنكِ أشعر الجنّ والإنس".  أو "والله ما رأيتُ ذات مثانةٍ أَشْعَرَ منكِ!"(8)  وما الإشارة إلى "المثانة" هاهنا إلا ازدراءٌ للمرأة في معرض مدح.  أمّا تقديمها على الشاعر الفَحْل XE "فَحْل"  (حسّان بن ثابت XE "حسّان بن ثابت" ) فحكاية لعبتْ وراءها العصبيّة القبليّة XE "عصبيّة قبليّة"  دورها.  ولعلها لم تَصْدُر عن حكومة النابغة XE "نابغة ذبيان"  في سوق عكاظ XE "عكاظ" ، ولكن عن أجواء الصراع القبليّ القيس XE "قيس (قيس عيلان)" يّ اليمان XE "يَمَن" يّ في البَصْرَة XE "بَصْرَة (مكان)"  إبّان العهد الأموي، لتوظّف في الانتقاص من شِعريّة اليَمَن XE "يَمَن" ، بحيث لم يُعْدَل شاعرُه بشاعرٍ قيسيٍّ XE "قيس (قيس عيلان)"  ولا حتى بشاعرة قيسيّة XE "قيس (قيس عيلان)" .  ذلك الموقف الذي تزعم الحكاية أن حسّانًا XE "حسّان بن ثابت"  قد "خَنِس" له، أي انقبض وتراجع.  والخطاب في استعمال "خَنِس" هاهنا يُبْطِن القول إن حسّانًا XE "حسّان بن ثابت"  قد صار في الموقع الثقافيّ المفترض للأنثى: "الخَنْساء XE "خَنْساء" "، على حين تقدّمت الخَنْساء XE "خَنْساء"  عليه كما يتقدّم الفَحْل XE "فَحْل" .  لا لشيء إلاّ للتمييز القَبَليّ XE "تمييز قَبَليّ"  بينهما.  ولذلك "أُحنق" حسان XE "حسّان بن ثابت" ، كما تذكر الرواية، وحُقّ له أن يفعل؛ فقد تجاوزت المفاضلة هنا المفاضلة بين شِعْر وشِعْر إلى المفاضلة بين الأنوثة XE "أنوثة"  والذكورة XE "ذكورة" ، فقال للنابغة XE "نابغة ذبيان" : "والله لأنا أَشْعَرُ منكَ ومن أبيكَ ومن جَدِّكَ!"؛ ثم قال النابغة XE "نابغة ذبيان" : "للخَنْساء XE "خَنْساء"  أنشديه، فأنشدته، فقال: والله ما رأيتُ ذات مثانةٍ أَشْعَرَ منكِ! فقالتْ له الخَنْساء XE "خَنْساء" : والله ولا ذا خُصْيَيْن!"(9)  كأنها تَلْمِزُ بدَوْرِها حسّانًا XE "حسّان بن ثابت" ؛ بقرينة ردّ حسّان XE "حسّان بن ثابت"  في بعض الروايات: "أنا والله أَشْعَرُ منكَ ومنها".  ثم شَرَع النابغة XE "نابغة ذبيان"  ينتقد مشهورة حسّان XE "حسّان بن ثابت" ، التي جاء يُدِلّ بها دون سائر شِعره، "لنا الجفناتُ الغُرّ..."، حتى "قام حسّان XE "حسّان بن ثابت"  منكسراً منقطعًا"(10).  وممّا يؤكّد اختلاق هذه الحكاية، وأنها لا تعني شيئًا في تقديم الخَنْساء XE "خَنْساء"  فنِّيًّا، أن اليمانيّين XE "يمانيّون"  قد انتصفوا من النابغة XE "نابغة ذبيان"  والقيسيّين XE "قيس (قيس عيلان)"  معاً بحكاية مقابلة، تزعم أن النابغة XE "نابغة ذبيان"  إنما تعلّم نظم القوافي لدى قوم حسّان XE "حسّان بن ثابت"  من الأوس XE "أوس (قبيلة)"  والخزرج XE "خزرج (قبيلة)" ؛ حيث لم يكن ليُحسن التخلّص من الإقواء XE "إقواء"  في قوافيه إلاّ بعد أن زار يثرب XE "يثرب" ، فعاد وهو يقول: "وردت يثرب XE "يثرب"  وفي شِعري بعضُ العاهة، فصدرتُ عنها وأنا أشعرُ الناس"(11).  فهذه بتلك!  ولا اغترار إذن بتلك المؤشّرات الظاهريّة على الاعتراف بمزاحمة الخَنْساء XE "خَنْساء"  للفَحْل XE "فَحْل"  في سوق عكاظ XE "عكاظ" .

ولأنّ لقب الخَنْساء XE "خَنْساء"  لقبٌ فنّيّ- جاء حيلولةً نسقيّة لنفي الاختلاط بين شِعر النساء XE "شعر النساء"  وشِعر الذكور XE "شعر الذكور" ، وحتى لا تلتبس آلهة الشِّعر (أو شياطينه) الخنساويّة الشمسيّة XE "آ لهة الشِّعْر (أو شياطينه) الخنساويّة الشمسيّة"  بآلهته (أو شياطينه) الفُحُوليَّة القمريّة XE " آ لهة الشِّعْر (أو شياطينه) الفُحُوليَّة القمريّة" - فإن لَقَبَ (الخَنْساء XE "خَنْساء" ) قد اخُتصّتْ به هذه الشاعرة الفذّة- التي تحدّت الرجال في عُقْر سوقهم الفُحُوليّ XE "فُحُولة" - ولم يكن مِن قبلها اسمًا معروفًا في النساء، أو لقبًا، كما لم تكن مِن قبلها امرأةٌ معروفةٌ فَعَلَتْ فعلها في سوق العرب XE "عرب" .

تلك هي مكانة المرأة في خطابنا الأدبيّ العربيّ.. وما أشبه الليلة بالبارحة!  فالمرأة المعاصرة لا تقلّ عن الرجل في أيّ ميدان، إنْ لم تفقه، إلاّ أن عقابيل من ذلك الماضي التمييزيّ ما تنفك عن نظرة المجتمع الذكوريّ إليها، فإذا هي تحول دون تسنّمها مكانتها الطبيعيّة اللائقة.  والحق أنه ما لم تُحَرِّر المرأةُ نفسُها الرجلَ فلن تكسب هي حريّتها.  ذلك أن في إمكان المرأة أن تحرّر الرجلَ، أكثر ممّا في إمكانه هو أن يفعل، وذلك بوصفها: أمًّا، أو معلّمة، أو حبيبة.  تُحَرِّره من هواجس شكّه حيالها، بما تُربِّي فيه من ثقةٍ بها وبنفسه، من حيث هي شريكة الحياة لا العدوّة، تكمل إنسانيّته ليكمل إنسانيّتها..  فما شَرٌّ من (تطرّفِ الذكوريّة) إلاّ (غُلُوُّ النسويّة)!

               

(1)  يُنظر: الجُمَحِي، محمّد  بن سلاّم (139- 232هـ= 756- 846م)، (1982)، طبقات الشُّعَراء، تح. جوزف هل (بيروت: دار الكتب العلمية)، 82. 

(2)  يُنظر: م.ن، 19.

(3)  يُنظر: الأصفهاني، أبو الفرج (-356هـ=967م)، (1983)، الأغاني، تح. لجنة من الأدباء (بيروت: دار الثقافة)، 11: 22؛ البغدادي، عبد القادر (-1093هـ= 1682م)، (1979)، خزانة الأدب ولُبّ لُباب لسان العرب، تح. عبد السلام محمّد هارون (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب)، 1: 434.

(4)  ابن قتيبة، (1966)، الشِّعْر والشعراء، تح. أحمد محمّد شاكر (القاهرة: دار المعارف)، 344.

(5)  البغدادي، 1: 435.  ويُنظر: الخَنْساء، (د.ت)، شرح ديوان الخَنْساء، (بيروت: دار مكتبة الحياة)، 91.

(6)  يُنظر: الأصفهاني، م.ن؛ البغدادي، م.ن. 

(7)  الخَنْساء، 80.

(8)  ابن قتيبة، م.ن.

(9)  م.ن.

(10) يُنظر: الأصفهاني، 9: 333- 334.

(11) م.ن، 11: 10.  وهناك إشارات تتوارد على حَسَد حسّان القديم للنابغة على شاعريّته، ومكانته، وجزيل الجوائز التي كان يحظى بها في الجاهليّة مقارنةً به. (يُنظر: ابن قتيبة، 164- 165؛ الأصفهاني، 11: 24- 25، 33- 35).  وكذا قارن بهذا حكاية ابن أبي بكر ابن حزم الأنصاري مع الفرزدق وتحدّيه إيّاه بشِعر كشِعر حسّان، وما تبرزه الحكاية من فوز الفرزدق في كسب ذلك التحدي. (يُنظر: الأصفهاني، 9: 331- 332).