كنوز قارون

قراءة في رواية:

"كنوز قارون"

يحيى بشير حاج يحيى

عضو رابطة أدباء الشام

(جشع ونبوءات مزيفة)

يحرص دعاة التطبيع على إبراز الفوائد الاقتصادية التي ستجنى من ورائه ، وإلى دغدغة مشاعر المضغوطين اقتصاديا بأنه سيأتي بالانفراج ، وسيحمل للمجتمعات التي تقبل به ، وتتعامل معه أنهارا من السيولة ، وجداول من المدخرات والأرباح .

يمزج القاص المصري "فوزي صالح " في روايته : كنوز قارون ( الصادرة 1988م _بيروت _ مؤسسة الرسالة ) الواقع بالتاريخ ، ويوظف ذلك ليبين مدى جشع يهود ، وأن معاهدة السلام التي وقعوا عليها كانت وسيلة من أجل تحقيق نبوءاتهم التلمودية المزيفة ، ممزوجة بجشعهم للمال والسيطرة ، لقد عرف يهود وهم لصوص المال ودهاقنة الاحتكار أن التلويح بحل الأزمات الاقتصادية هو المدخل المناسب للتطبيع  فلا عجب أن رأيناهم يعدون عشرات ومئات المشاريع الاقتصادية يدغدغون بها أحلام الواهمين ، ويمنونهم الأماني وهم كاذبون ، بينما هم يخططون للسيطرة وينزلون هذه الخطط على أرض الواقع للوصول إلى تحقيق مزاعمهم التاريخية والدينية .

وقد أفاد الكاتب من هذا الجانب ، فبنى ركائز روايته عليه ، ذلك أن أحد النواب اقترح لحل الأزمة الاقتصادية أن يتم البحث عن كنوز قارون في منطقة الفيوم ، لأن عرافة هندية قابلته في لندن ، وأخبرته بوجود هذه الكنوز !

(ستكشف الرواية بعد ذلك أن العرافة لم تكن سوى عميلة للمخابرات الإسرائيلية ، أوهمت النائب أنها قابلته مصادفة ، وكان القصد إشغال المصريين ) وتنطلي الحيلة ، ويتسابق المهتمون وأهل الاختصاص في بحث القضية ومناقشتها ، فخبير للآثار ، يؤكد وجود كنوز في الصحراء الغربية تاريخياً ، وخبير جيولوجي يعتبر مياه بحيرة قارون مختلفة عن مياه بحيرات العالم ، ويفترض وجود معادن ، ويدعو إلى تحليل التربة بالأجهزة الحديثة ، وتستمر عملية البحث ، وتتوقف المشروعات لتأمين المال اللازم ، لأن الكنوز ستسد هذا العجز مستقبلا..

وتتوالى البيانات التي تبشر بوجود الكنوز ، ويمد اليهود حبل الوهم مسافة أطول فيصرح بيغن : بأن المكان الذي يعثر فيه على الكنوز أرض إسرائيلية يجب أن تحرر ، وعلى إسرائيل أن تعد العدة لذلك الخطر القادم من الحدود الغربية ، ولننسق ونتكاتف مع الإخوة الفلسطينيين لدرئه " ولعلها لفتة من المؤلف استشرف بها آفاق المستقبل ، وكأنه كان يتوقع وحتى قبل لقاءات أوسلو أن بعضا من رجال هذه المنظمات على استعداد للوقوف مع يهود ضد قومه ؟ ولكن ألم يتحدث الواقع عن وقوف بعضهم ضد أبناء شعبه ، فأدخلهم السجون وحاصرهم ، ونكل بهم كما يريد اليهود ؟!

ويستمر الحفر ، وينهار السرداب على مَن فيه بعد رفع الصخر ، ليبدأ البحث في جهة أخرى ، وتغلق مصر سفارتها في تل أبيب ، وتطرد البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية ،ويصرح مصدر مسؤول بأن المعاهدة ألغيت تلقائيا بعد التحرشات الأخيرة على الحدود … ثم يعثر على نائب السبوع " صاحب الفكرة " مقتولا في شقته ، وتشير الداخلية من طرف خفي إلى تورط الموساد في العملية ، ولكن أمر البحث لم يتوقف عند اغتيال نائب السبوع ، فيتسلم راية البحث نائب الدائرة العاشرة ، ويصرح في  مؤتمر صحفي بأن الكنوز موجودة في المنطقة المسماة قديما بتل بسطة، ويقترح هدم مدين الزقازيق المقامة فوقها ، لأنها كانت منتجعا للملوك العظام ، وهي أهم من منطقة الفيوم ، كما يقترح توزيع السكان على المناطق المجاورة لمدة شهر فقط ، ثم يعاد بناء المدينة بعد استخراج الكنوز ، وأن ما جاء به نائب السبوع كان قد سمعه منه أيام الدراسة ، فزعمه لنفسه ، ثم استغله أسوأ استغلال ، وعزاه إلى عرافة هندية كافرة ليشتري به ثمنا قليلا ، وهو يقترح أيضا بيع مقتنيات الفراعنة ، وتحويل الأهرامات إلى مخازن غلال لخزن ما ستنتجه المزارع النموذجية التي كانت مدنا وقرى في الدلتا "و كانت النتيجة أن مصانع الغزل والنسيج ، ومحالج الأقطان أضحت يبابا.. حيث الحيوانات النافقة تسد الشوارع والأزقة ، والكوليرا تحصد الأطفال والشيوخ ، الصناديق المكتشفة تحتوي جثثا محنطة وسحالي وكلابا من عصر سيتي الأول"

وتبدو براعة الكاتب في الانتقال بين الأساليب المختلفة من سرد إلى حوار إلى رسائل إلى مذكرات يجمعها خيط واحد ، وهو التركيز على أهم حدث في الرواية ! وجميعها تأتي على شكل إضاءات توضح مدى الانشغال والاهتمام بالقضية ، وانعكاسها على طبقات المجتمع بأسره .

فهذا الرسالة تحمل خاتم بريد الفيوم من شاب إلى خطيبته ، عثر عليها وسط كومة رسائل ملقاة خارج مكتب بريد ، ومؤشر عليها " لم يستدل على المذكورة " ويعتقد أنها ذهبت مع من حصدتهم الكوليرا ، يشرح لها فيها عن أمله بانفراج أزمته ، وتيسر المال لديه ، ثم الزواج منها قريبا بعدما يحل الرخاء ، وهو يمثل آلاف العاطلين عن العمل الذين يبحثون عن مخرج من أزمتهم المرتبطة بأزمة عامة !!.

والإضاءة الثانية : جاءت في قصة أطفال فازت بالميدالية الذهبية في مسابقة طرحتها جريدة الإنشاء شبه الرسمية حول الموضوع السابق ترويجه إعلاميا في نفس المكان ، نشرت وأذيعت في الراديو والتلفاز ، وقررت في مناهج الروضة والابتدائية ، وتتحدث عن ملك ظالم يعيش في الفيوم ولديه خزائن الذهب ، يصاب بالمرض ، ولا يجد شفاءه إلا في دم طفل رضيع ، يبحث عنه الأعوان فلا يجدونه ، ويستقر رأي الحكيم أن يذبح ابن الملك لأنه يحمل العلامة في جبينه ، فيعتذر الملك ، ويتوسل ، ويعرض على الرغم من بخله أن يدفع للبديل وزنه ذهبا ، فيرفض الحكيم ، وقبل أن يذبحه ليكون في ذلك  شفاؤه تنشق الأرض ، وتبتلعه مع الكنوز … ومع أن القصة لم تكن في المستوى المطلوب فإن اللجنة أعلنت عن فوزها تشجيعا للكاتب الشاب الموهوب وتبدو الإشارة واضحة في فضح مخازي يهود وأنانيتهم من خلال شخصية الملك ! فهم يضحون بالآخرين في سبيل بقائهم ، متوسلين بالمال الذي يعرفون كيف يجمعونه ، كما يعرفون كيف يوظفونه للحفاظ على مصالحهم  ولو كان في ذلك ضرر الآخرين ، كما تبدو في ضآلة ما كتب عن التطبيع وآثاره  وهو دون المستوى  ومع ذلك صار مقبولا في زمن كثر فيه الصامتون من أصحاب الأقلام ، كما كثر فيه غير المبالين من سواهم ؟!.

وفي الإضاءة الثالثة : دراسة موثوقة نشرت في صحيفة خارجية تسللت إلى البلاد ، ووصلت إلى يد بعض الفتية ، وهي دراسة جادة تبين حقيقة قارون اعتمادا على المصادر التاريخية والدينية تثبت أن بحيرة قارون لا علاقة لها ببني إسرائيل ، لأنها كانت قبل ولادة يعقوب عليه السلام  وأن الخسف _ حسب الدراسة _ تم في منطقة طابا أو قريبا منها ، ومع هذه الدراسة وفي الصحيفة نفسها رد عليها وتساؤل :إذا عثر فرضا على الكنوز فهل يمكن الاستفادة منها في حل أزمة آتية ؟ بمعنى آخر : هل سيسمح ببيعها مثلا ؟ والإجابة في غاية السهولة ، وإن جاءت على صيغة سؤال آخر :لماذا لم نبع كنوز الفراعنة التي تحت أيدينا بالفعل ؟ ومع أن ما جاء في الصحيفة مجرد دراسة إلا أن الذين وصلت إلى أيديهم اعتقلوا بتهمة الإخلال بالأمن ، وحيازة أسلحة نارية بهدف قلب نظام الحكم بالقوة … ويتزامن ذلك مع صدور أمر بتنفيذ حكم الإعدام شنقا في المؤرخ  واعتباره رئيساً لتنظيم ، وبتهمة التخابر مع دولة معادية "رغم أن المؤرخ صاحب الدراسة مات ميتة طبيعية في فترة زمنية سابقة قبل الهوجة " وتعلن الرواية بصراحة أن عملية التطبيع وأفكارها لا تخالف الواقع ، وتضر به فحسب ، ولكنها تعادي حقائق التاريخ ، وتحكم عليها بالموت ، وتلبسها شتى الاتهامات ...

وفي الإضاءة الرابعة : من مذكرات أديب عاصر الهوجة ، وشارك فيها .. يفجعنا موقف هذا الأديب الذي يشبه مواقف كثير من الأدباء ، فهو يكتب كلاما شعريا ، ويلامس القضية ملامسة شفافة لا تقدم ولا تؤخر ، حسبه في ذلك أن يتأنق في الأسلوب على حساب المضمون ومع ذلك توجه إليه أصابع الاتهام ، ويرمي بالجهل ، وحين يقترب من ذوي الشأن بعد صعوبات جمة يفاجأ باتهامات جديدة مبنية على فهم مغلوط لمواقفه السابقة، فهو لا يكاد يخرج من دائرة الاتهام حتى يعاد إليها مرة أخرى .. وتوضح الرواية أن اللف والدوران والمجاملة في القضايا المصيرية لا يوصل إلى المطلوب ، ولايحقق الهدف ، و لا يرد عن صاحبه الاتهام ، ولا يدفع عنه الأذى !! .

وتختتم الرواية فصولها بما جرى في جلسة بالكنيست الإسرائيلي سجلت وسربت للخارج في خضم الهوجة ، يعلن فيها رئيس المجلس " أن المصريين منشغلون الآن بكنوز قورح بي يصهار ، وأنهم سحبوا بعثتهم ، وطردوا بعثتنا ، ورغم أن الكنوز عندنا من قديم الأزل إلا أن مجلسكم الموقر قرر بأغلبية الأصوات مد حبل الوهم لهم باستفزاز من جانبنا يوحي بانشغالنا واهتمامنا مثلهم بالقضية ، حتى يتلبسهم الوهم " . وأن رئيس الوزراء كان ذكيا ، حين أمسك بالعصا من الوسط ، فإذا وجدوا شيئا طالبناهم به ، وحين يرفضون ننقض عليهم متذرعين بحقوقنا التاريخية ؟!

ثم يعلن عن حقيقة العرافة الهندية ، وحين يتأزم الموقف وتتشابك الأحداث ، وتلغى المعاهدة بين الطرفين ، الأمر الذي لم يكن في الحسبان مما حرمهم موضع القدم الذي حصلوا عليه ، يدعو إلى ضربة مفاجئة تحت مبرر أن مصر إذا اعتبرت التدريبات الروتينية التي يجريها جيش الدفاع على الحدود الغربية تحرشات متعمدة "فإننا نعتبر نقل جزء من القوات المصرية إلى الفيوم نوعا من التمويه والتغطية لعمل عسكري موجه ضدنا أساسا ".

وتقف الرواية عند هذا الحد ، وقد التف حبل الوهم على عنق الطرف الآخر وصدق الكاذب نفسه ، وصدقه الآخرون ، وما كان ليحدث هذا لو أن الآخرين ارتفعوا بأنفسهم إلى مستوى القضية ، وعالجوها في إطارها الحقيقي ، ولم يحجبوها بمواقف الضعف ، والسعي وراء سراب يسمى مصالح يلوح بها الخصم ، دون أن يفي منها بشيء .