تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 35

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ "الْمُتَنَبّي، رِسالَةٌ فِي الطَّريقِ إِلى ثَقافَتِنا" لِلْأُسْتاذِ مَحْمودْ مُحَمَّدْ شاكِرْ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

ثُمَّ بَعْدَ سِنينَ طَويلَةٍ مِنْ كِتابَةِ هذَا الرَّأْيِ الَّذِي اسْتَخْرَجْتُه وَقَطَعْتُ بِه ، جاءَتْني تَرْجَمَةُ أَبِي الطَّيِّبِ في كِتابِ ابْنِ الْعَديمِ " بُغْيَةُ الطَّلَبِ " ، وَنَقَلَ فيهَا ابْنُ الْعَديمِ عَنْ إِمامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَرَبيَّةِ ، صَحِبَ الْمُتَنَبّي بِشيرازَ ، وَكَتَبَ عَنْهُ ديوانَه بِخَطِّه ، وَرَآهُ بِخَطِّه أَبُو الدُّرِّ ياقوتُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ مَوْلَى الْحَمَويِّ الْبَغْداديِّ - وَهُوَ الْإِمامُ أَبُو الْحَسَنِ عَليُّ بْنُ عيسَى بْنِ الْفَرَجِ الرَّبَعيُّ .

هذه الفقرة من إضافات سنة 1977م ، لم تنبه عليها في الحاشية ، كتنبيهك فيما سبق ، رحمك الله ، وعفا عنك وعنا ، آمين !

ابْتَسَمَ لِلدُّنْيا وَهُوَ يُضْمِرُ الْغَيْظَ عَلَيْها ، " وَلكِنَّه غَيْظُ الْأَسيرِ عَلَى الْقِدِّ " !

أو كما قالت العرب في أمثالها :

" غَضَبَ الْخَيْلِ عَلَى اللُّجُمِ " !

يَقولونَ لي ما أَنْتَ في كُلِّ بَلْدَةٍ وَما تَبْتَغي ما أَبْتَغي جَلَّ أَنْ يُسْمى

كَأَنَّ بَنيهِمْ عالِمونَ بِأَنَّني جَلوبٌ إِلَيْهِمْ مِنْ مَعادِنِهِ الْيُتْما

(...) قَوْلُه : " كَأَنَّ بَنيهِمْ " ، دَليلٌ عَلى أَنَّه أَرادَ قَوْمًا بِأَعْيانِهِمْ ، وَلَوْلا ذلِكَ لَقالَ : " كَأَنَّ بَنيها " ، يَُرْجِعُ الضَّميرَ إِلَى الدُّنْيا ، يَعْنِي النّاسَ جَميعًا ، كَما قالَ بَعْدُ : " كَذا أَنَا يا دُنْيا " . وَهذا أُسْلوبٌ مِنْ أَساليبِ أَبِي الطَّيِّبِ فِي الْإِشارَةِ إِلى أَغْراضِهِ الَّتي في نَفْسِه ، وَالَّتي لا يُريدُ التَّصْريحَ بِها ، وَإِنَّما يَجْعَلُها إِشارَةً لِمَنْ يُريدُ إِفْهامَهُمْ غَرَضَه .

فهل هم كذلك الذين " يقولون " ، في أول البيتين ، أم آباؤهم !

قَدْ رَوَيْنا لَكَ في أَوَّلِ هذَا الْبابِ أَنَّ الْمُتَنَبّي نَزَلَ الشّامَ عَلى عَليِّ بْنِ إِبْراهيمَ التَّنوخيِّ ، وَأَنْشَدْناكَ أَبْياتًا مِنْ قَصيدَتِهِ الَّتي مَدَحَه بِها

(...) إِذا قَرَأْتَ الْمُتَنَبّي عَلَى الْأَصْلِ ، لَمْ تَجِدِ الشّاعِرَ الَّذي يَذْكُرُهُ النّاسُ مِلْءَ الْأَفْواهِ ، بَلْ تَجِدُ شاعِرًا فَذًّا لَمْ يُرْزَقِ الشِّعْرُ وَلَا الْحِكْمَةُ مِثْلَه ذا لِسانٍ وَبَيانٍ . وَسَنُفْرِدُ في كِتابِنا بابًا كَبيرًا لِبَيانِ هذَا الْأَصْلِ في شِعْرِ الْمُتَنَبّي ، وَتَفْسيرِ أَكْثَرِ شِعْرِه عَلى هذَا الْمَذْهَبِ .

رحمة الله عليك ورضاه ! ما كان ينبغي لك أن تطلع الدنيا على ما نويت - ولو كاد يستحضد - حتى يستوي أمامها على رغمها ، خلقا سويا !

ها أنت ذا ، كلما ذكرت كتابا بِنيَّةٍ ، أهملته من قبل أن تحاوله ، أو من بعد ؛ فكنن إعلانك مَزْهَدتك !

وَإِنّي عَنْكَ بَعْدَ غَدٍ لَغاد      وَقَلْبي عَنْ فِنائِكَ غَيْرُ غاد

مُحِبُّكَ حَيْثُمَا اتَّجَهَتْ رِكابي وَضَيْفُكَ حَيْثُ كُنْتَ مِنَ الْبِلاد

(...) تَأَمَّلْ ما في هذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ مِنْ نَبْرَةِ الْحَزَنِ ، وَغَمْغَمَةِ الْبُكاءِ ؛ هُما عَبْرَتانِ مِنَ الدَّمْعِ ، لا بَيْتانِ مِنَ الشِّعْرِ !

ولكنك - يا سيدنا - مولع بهذه الصفة !

مِثْلُ أَبِي الطَّيِّبِ إِذا أُريدَ بِهِ الشَّرُّ انْتَفَضَ انْتِفاضَةَ الْأَسَدِ إِذا رامَه عَدوٌّ ، وَفِي انْتِفاضَتِه تَتَقَذَّفُ قوَّتُه كُلُّها عَلى لِسانِهِ الْبَليغِ الْمُبينِ ، وَذلِكَ لِقوَّةِ أَعْصابِه ، وَشِدَّةِ تَوَتُّرِها ، وَسُرْعَةِ تَأَثُّرِها مَعَ ذلِكَ !

قد لقينا من تثيره الغيبة إلى مثل ذلك !

وَكَأَنَّه غَرَّتْهُ عَيْنٌ فَادَّني لا يُبْصِرُ الْخَطْبَ الْجَليلَ جَليلا

أَنْفُ الْكَريمِ مِنَ الدَّنيَّةِ تارِكٌ في عَيْنِهِ الْعَدَدَ الْكَثيرَ قَليلا

صدق الحق - سبحانه ، وتعالى ! - : " يُريكُموهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ في أَعْيُنِكُمْ قَليلًا " !

أَرَى الْمُتَشاعِرينَ غَروا بِذَمّي وَمَنْ ذا يَحْمَدُ الدّاءَ الْعُضالا

وَمَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ يَجِدْ مُرًّا بِهِ الْماءَ الزُّلالا

(...) لا نَدْري مَا الَّذي كانَ يُكادُ بِه أَبُو الطَّيِّبِ ؟ وَلكِنْ نَظُنُّ أَنَّهُمْ كانوا يَتَغامَزونَ بِه وَبِشِعْرِه وَما فيه مِنَ الْغُلوِّ وَالطُّموحِ ، وَما يَرِدُ في أَثْنائِه مِنَ الْوَعيدِ لِلطُّغاةِ وَالْمُلوكِ وَالْأَعْداءِ ، وَالْإِنْذارِ لَهُمْ أَنْ يُصيبَهُمْ مِنْ قِبَلِه كُلُّ مَكْروهٍ . وَالْحَقيقَةُ أَنَّ هذِهِ الْمَعاني في شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ مِمّا يَسْتَجْلِبُ التَّنَبُّهَ لَها ، وَالْوُقوفَ عِنْدَها ، فَلَيْسَ فِي الْعَرَبيَّةِ كُلِّها شاعِرٌ قَدْ كَثُرَتْ في شِعْرِهِ الْمَعاريضِ كَما كَثُرَتْ في شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ ، بَلْ أَنْتَ تُقَلِّبُ دواوينَ الشُّعَراءِ جَميعًا ، فَلا تَكادُ تَجِدُ فيها هذِهِ الْمَعاني فِي الْإِنْذارِ وَالْوَعيدِ وَالتَّرَبُّصِ ، وَخاصَّةً فِي الْمَديحِ الَّذي يُرادُ بِه عَطْفُ الْقُلوبِ لِاسْتِخْراجِ مَكْنونِها ، وَإِلانَةُ الْأَيْدي لِقَبْضِ نَوالِها !

بنيتُ مجموعتي " براء " ، على الضيق بالدنيا والأدنياء ؛ حتى إن قصيدتي منها " شهادة " ، لم تكن في أوليتها غير بيتي مطلعها ومقطعها ، وكنت أطلعت عليهما بعض نبهاء تلامذتي ، ثم أكملت مبناها على ما هي عليه مما لم ينبئ عنه البيتان من الضجر والضيق والغضب ؛ فقال المذكور : هكذا أنت ، تشعر أن الناس كلهم جميعا أعداؤك !

أتراها نِحلةً مُتَنبيَّةً تليدة !

أَفاضِلُ النّاسِ أَغْراضٌ لِذَا الزَّمَن  يَخْلو مِنَ الْهَمِّ أَخْلاهُمْ مِنَ الْفِطَن

وَإِنَّما نَحْنُ في جيلٍ سَواسِيَةٍ شَرٍّ عَلَى الْحُرِّ مِنْ سُقْمٍ عَلى بَدَن

حَوْلي بِكُلِّ مَكانٍ مِنْهُم خِلَقٌ تُخْطي إِذا جِئْتَ فِي اسْتِفْهامِها بِمَن

فيه المثل " سَواسِيَةٌ كَأَسْنانِ الْحِمارِ " ، في الجهل المهلك ، وفيه الأثر " لَنْ يَزالَ النّاسُ بِخَيْرٍ مَا اخْتَلَفوا ، وَلَوْ تَساوَوْا هَلَكوا " ؛ فلن يتساووا إلا في الجهل :

" وَالْجَهْلُ مَوْتٌ فَإِنْ أوتيتَ مُعْجِزَةً فَابْعَثْ مِنَ الْجَهْلِ أَوْ فَابْعَثْ مِنَ الرَّجَم "

أو كما قال أحمد شوقي تلميذ المتنبي !

ذَكَرَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ ذلِكَ الْفَتَى الْعَرَبيَّ الصَّبوحَ الْوَجْهِ .

أم الصَّبيح !

غَضِبْتُ لَه لَمّا رَأَيْتُ صِفاتِه بِلا واصِفٍ وَالشِّعْرُ تَهْذي طَماطِمُهْ

مثل هذا ما نقوله في العجب من المسألة العلمية أو الفنية غير الشعرية : كيف لم يسألها أحد من قبل ، أم كيف لم يبحثها للناس !

كانَ أَبُو الطَّيِّبِ عَلى ما وَصَفْنا لَكَ مِنْ قوَّةِ النَّفْسِ وَحِدَّةِ الطَّبيعَةِ ، مُرْهَفَ الْحِسِّ ، سَريعَ التَّأَثُّرِ . تَنْطَلِقُ عَواطِفُه كُلُّها في ساعَةٍ مِنْ ساعاتِ حَياتِه ، فَلا تَلْبَثُ أَنْ تَسْتَثيرَ كُلَّ قوَّةٍ فيهِ . وَتَجْتَمِعُ كُلُّ قُواهُ حينَ ذلِكَ ماضِيَةً مِنْ قَلْبِه إِلى لِسانِه ، لِتُثْبِتَ عَلَيْهِ عَدَدَ هَزّاتِ الزَّلْزَلَةِ الَّتي وَقَعَتْ في قَلْبِه وَنَفْسِه . وَيَفْزَعُ لِسانُه إِلى بَيانِه لِيُبينَ عَنْهُ ما يَبْغي مِنَ الْإِبانَةِ ، فَيَحْتَفِلُ بَيانُه كُلُّه في أَبْياتٍ قَليلَةٍ تَكونُ هِيَ أَوَّلَ الْقَصيدَةِ عِنْدَ أَبِي الطَّيِّبِ ، ثُمَّ يَدَّخِرُها صاحِبُنا لِأَجَلِها وَمَوْضِعِها ، فَيُثْبِتُها في مَكانٍ مِنْ شِعْرِه . وَكَثيرًا ما تَقَعُ هذِهِ الْأَبْياتُ في مَوْضِعٍ لا تَتَساوَقُ فيهِ مَعانِي الْكَلامِ عَلى قاعِدَةٍ مُطَّرِدَةٍ مِنْ حَقِّ الْمَعْنى وَتَتابُعِه ؛ فَلِذلِكَ تَبْقى هذِهِ الْأَبْياتُ الَّتي تَحْمِلُ في أَلْفاظِها هَزّاتِ نَفْسِه واقِعَةً بَيْنَ كَلامَيْنِ ، وَلا تَكونُ هِيَ صِلَةً بَيْنَهُما ، بَلْ تَكونُ كَالْفارِقِ الْفاصِلِ . وَهذا هُوَ ما نُسَمّيهِ في شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ مَوْضِعَ الِانْتِقالِ . وَمِنْ مَواضِعِ الِانْتِقالِ هذِه تَسْتَطيعُ أَنْ تَسْتَنْبِطَ الْحالَةَ النَّفْسيَّةَ الَّتي كانَ عَلَيْهَا الرَّجُلُ ؛ فَإِذا تَبَصَّرْتَ فيها ، وَاسْتَخْرَجْتَ مَعانِيَها ، وَفَصَّلْتَ كَلامَها وَأَلْفاظَها ، وَفَسَّرْتَه عَلَى الْأُصولِ الشِّعْريَّةِ وَالنَّفْسيَّةِ الْقائِمَةِ في شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ وَنَفْسِه كَما قَدَّمْناها لَكَ - اسْتَطَعْتَ أَنْ تَتَلَمَّسَ في ظَلامِ التّاريخِ الْحَلَقاتِ الَّتي يَنْبَغي أَنْ تَصِلَ بَعْضَها بِبَعْضٍ ، فَيَسْرِي التَّيَارُ بَيْنَها ، فَتُضيءُ لَكَ ، فَتَنْكَشِفُ الْمَعاني في شِعْرِ الرَّجُلِ ، وَتَتَبَيَّنُ الْمَواضِعُ الْغامِضَةُ الْمُظْلِمَةُ مِنْ حَياتِه ... وَهذِه هِيَ الطَّريقَةُ الَّتِي اتَّبَعْناها فيما كَتَبْنا مِمّا مَضى بِكَ ، وَقَدْ تَحَقَّقْنا صِدْقَها ، وَوَجَدْنا إِسْعادَها لَنا فِي الْمُشْكِلاتِ الَّتي وُفِّقْنا إِلى تَفْسيرِها أَوْ نَقْدِها أَوْ تَمْييزِها .

كنت قد تلقيت هذه الرسالة :

" الأخ الدكتور محمد جمال صقر:

السلام عليكم

أخبرني أحد طلابي (واسمه أحمد عاطف أحمد، وقد كان طالباً ثم معيداً بدار العلوم) أنكم ربما تقدرون على إجابة سؤال لي عن مصطلح استعمله الأستاذ محمود شاكر رحمه الله في مجموعة مقالات له.  والمصطلح المقصود هو "التشعيث" الذي كتب عنه الأستاذ شاكر في دراساته عن قصيدة "إن بالشعب الذي دون سلع" المنسوبة لتأبط شراً.  ومصطلح التشعيث كما يستعمله شاكر مطابق لمصطلح يستعمله جوته (وهو dishevelement) ومعناه إعادة الشاعر ترتيب أحداث مضى ذكرها فلا تُذكر بترتيب حدوثها بل بناء على معيار آخر يراه الشاعر.  وسؤالي هو: هل استعمل الأستاذ شاكر هذا المصطلح في أي سياق (خاصة قبل دراستِه لتلك القصيدة وتناولِ ما فعل بها جوته)؟  لقد قام الأستاذ عادل جمال بنشر المجلد الأول من الأعمال الكاملة للأستاذ شاكر ولم يبد لي أن الأستاذ استعمل المصطلح في أيٍ من المقالات التي حواها هذا المجلد.  ولكن عيني ربما أخطأته.  فأرجو أن تخبرني بما تعرفه عن هذا المصطلح واستعمال الأستاذ شاكر له قبل وبعد المقالات المنشورة في "نمط صعب."  ولكم الشكر الجزيل.

فولفهارت هاينرشس   

أستاذ الأدب العربي والبلاغة العربية

جامعة هارفارد " .

فأجبتها بهذه الرسالة :

" سعادة فولفهارت هاينرشس ، الموقر ،

أستاذ الأدب العربي والبلاغة العربية ، بجامعة هارفارد العريقة ،

السلام على من اتبع الهدى .

أشكر لك تشريفي بسؤالكم الكريم في مسألتكم المهمة ؛ فليس أعظم تكريما لمثلي ، من سؤاله ، ولا أهم استيعابًا لثقافة ما ، من تتبع مسيرة مصطلحات أو أشباه مصطلحات ترددت على مر الأزمنة واختلاف الأمكنة ، في علومها وفنونها .

سعادة الأستاذ الموقر ،

لم يصل إلى علمي ولا إلى علم الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم أحد كبار تلامذة الأستاذ شاكر - رحمه الله ! - الأحياء ، أن مصطلح " التشعيث " وقع له قبل مقالاته " نمط صعب ونط مخيف " .

لقد كان أستاذنا كبير التقدير لجوته شاعر الألمان العظيم ، وربما كان هذا مما حفزه إلى مقالاته هذه الجليلة ، شيئا بعد شيء ، حتى استوت كتابا عميقا مهما ، أَحْمَدُ لكم صبركم على استيعابه .

لقد أثنى في عدة مواقع منه كما تعلمون ، على انتباه جوته شاعر الألمان العظيم ، إلى طرف من ظاهرة " التشعيث " أدهشه بقصيدة ابن أخت تأبط شرا ، ولكنه كره غفلته عن أساسيتها في مبنى القصيدة والشعر الجاهلي عامته ، بمحاولته اقتراح ترتيب غير ترتيبها الذي بلغه .

وربما كانت تلك الغفلة ، حافزه - رحمه الله ! - إلى تأصيل " التشعيث " وتفصيله وتطبيقه تطبيقا واسعا ، ولا سيما أنه كان منصرفا عن الكتابة ، حتى لتستطيع أن تعمم فيه قولك : يكاد لا ينشط للكتابة حتى يحفزه إليها حافز لا مهرب من إجابته ، على رغم ما يظهر لك بعدئذ من مقدرته العظيمة على  الكتابة ، واستيلائه الفذ على أدواتها .

سعادة الأستاذ الموقر ، 

أدعوكم إلى قراءة سائر كتبه النثرية والشعرية ، وتحقيقاته ، التي تتحدث بلسان الحضارة العربية الإسلامية .

ولتبدأ بـ" أباطيل وأسمار " ، و" قضية الشعر  الجاهلي " ، و" القوس العذراء " ، و" دراسات عربية وإسلامية " المهدى إليه بمناسبة بلوغه السبعين ، من طائفة من العلماء والفنانين الكبار ؛ فربما اهتديت بذلك إلى طرف من شخصيته وأعماله ، حتى تصل إليها .

وليكن آخر ما نفترق عليه الآن حتى نجتمع ، مقالة أهلنا التي آمن بها أستاذنا محمود محمد شاكر - رحمه الله ! - :

" مِنْ بَرَكَةِ الْعِلْمِ نِسْبَتُه إِلى أَهْلِه " .

والسلام .

محمد جمال صقر " .

غَفْلَةً عما هنا ؛ فإن كلام أستاذنا عن " مواضع الانتقال " ، أقدم بيانًا عن فكرة " التشعيث " ، مما سَيَتَوَهَّجُ في " نَمَطٌ صَعْبٌ وَنَمَطٌ مُخيفٌ " ، بعد سنينَ طويلة !

يا أَيْنَ مِنّي ما فَوَّتَتْه السِّنون !