تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 34

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها
[تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ "الْمُتَنَبّي، رِسالَةٌ فِي الطَّريقِ إِلى ثَقافَتِنا" لِلْأُسْتاذِ مَحْمودْ مُحَمَّدْ شاكِرْ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

لكِنَّ الْبَحْثَ تَشَعَّبَ أَمامَه ، وَمَواطِنَ الِاسْتِنْباطِ وَالْمُقابَلَةِ تَعَدَّدَتْ ، فَلَمْ يَرْضَ وَقَدْ وَجَدَ مَجالَ الْقَوْلِ ذا سَعَةٍ ، بِالنَّهْجِ الْمَطْروقِ ؛ فَبَعْدَ أَنْ كَتَبَ عَشَراتٍ مِنَ الصَّفَحاتِ مَزَّقَها ، وَنَبَذَها ، وَعادَ إِلَى الْكِتابَةِ عَلى نَهْجٍ آخَرَ .

هذا من قول المتنبي نفسه :

" وَقَدْ وَجَدْتَ مَجالَ الْقَوْلِ ذا سَعَةٍ فَإِنْ وَجَدْتَ لِسانًا قائِلًا فَقُل " !

من لاميته في الاعتذار إلى سيف الدولة :

" أَجابَ دَمْعي وَمَا الدّاعي سِوى طَلَل دَعا فَلَبّاهُ قَبْلَ الرَّكْبِ وَالْإِبِل " !

وما أحسن ما ضمَّنه فؤاد صروف ، في تقديم كتاب أستاذنا هذا !

مِصْرُ الْجَديدَةُ : شارِعُ الْمَنْصورَةِ 22 .

فلم ينتقل - رحمه الله ! - إلى بيته " 3 شارع حسن المرصفي " ، الذي كنا نزوره فيه - إلا سنة 1959م ( قبل حدوثي بسبع سنوات ) ، فيما حدثنا الأستاذ عبد الرحمن شاكر ، ابن أخيه علي .

نَنْظُرُ في نَسَبِ الرَّجُلِ ، لِتَرى كَيْفَ بالَغوا أَيْضًا فِي الْإِساءَةِ إِلَيْهِ ، وَتَحْقيرِ مَوْلِدِه ، وَالْحَطِّ مِنْ أَصْلِه وَنَشْأَتِه ، لِأَغْراضٍ خافِيَةٍ قَدْ أَحاطَتْ بِصاحِبِنا ، أَضَرَّتْ به في حَياتِه ، وَأَفْسَدَتْ تاريخَه بَعْدَ وَفاتِه .

على الساعة الآن أمامي اتفاق طريف ( 30/3 ، 3:30 ) ، فأما المكان فميدان المماليك البحرية ، بروضة مصر العتيقة ( منيل الروضة ) ، وقد أتممتُ منذ عشرة أيام ثماني وثلاثين سنة ، وأستاذنا الآن بمتنه دون حواشيه أو تعديلاته ، في السادسة والعشرين سنة 1935م ، وبيني في الثرى وبينه في الثريا ، بون بعيد !

نَحْنُ نُقَدِّمُ الشَّكَّ ، فَنَشُكُّ في رِوايَةِ الْمُحَسِّنِ التَّنوخيِّ

هذا أول مواقع مادة ( ش ك ك ) المثيرة !

كانَ مَعَ ما يَبْدو مِنْ شِدَّتِه وَصَوْلَتِه وَرُجولَتِه ، مُتَهالِكًا لا يَسْتَمْسِكُ فيما يَمَسُّ عاطِفَتَه ، وَيُلِمُّ بِقَلْبِه !

وكذلك كان أستاذنا هذا الكاتب ، رحمه الله !

أَرادَ أَبو جَعْفَرٍ الْخُروجَ إِلَى الْبَصْرَةِ ، فَوَدَّعَهُمْ ، وَدَفَعَ إِلَى الْجارِيَةِ قَميصَه وَخاتَمَه ، وَقالَ : إِنْ وَلَدْتِ فَاحْتَفِظي بِوَلَدِكِ ، فَمَتى سَمِعْتِ أَنَّه قَدْ قامَ فِي النّاسِ رَجُلٌ يُقالُ لَه عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَيُكْنى أَبا جَعْفَرٍ - فَصيري إِلَيْهِ بِوَلَدِكِ ، وَبِهذَا الْقَميصِ وَالْخاتَمِ ؛ فَإِنَّه يَعْرِفُ حَقَّكِ ، وَيُحْسِنُ الصَّنيعَ إِلَيْكِ . وَفارَقَهُمْ ، فَوَلَدَتِ ابْنًا ، وَنَشَأَ الْغُلامُ ، وَتَرَعْرَعَ ، فَكانَ يَلْعَبُ مَعَ أَتْرابِه . وَمَلَكَ أَبو جَعْفَرٍ ، فَعَيَّرَ الْغُلامَ أَتْرابُه بِأَنَّه لا يَعْرَفُ لَه أَبٌ ، فَدَخَلَ إِلى أُمِّه حَزينًا كَئيبًا ، فَسَأَلَتْهُ عَنْ حالِه ، فَذَكَرَ لَها ما قالَ أَتْرابُه ، فَقالَتْ : بَلى - وَاللّهِ - إِنَّ لَكَ أَبًا فَوْقَ النّاسِ ! قالَ لَها : وَمَنْ هُوَ ؟ قالَتِ : الْقائِمُ بِالْمُلْكِ . قالَ : فَهذا أَبي وَأَنَا عَلى هذِهِ الْحالِ ! هَلْ مِنْ شَيْءٍ يَعْرِفُني بِه ؟ فَأَخْرَجَتِ الْقَميصَ وَالْخاتَمَ ، وَشَخَصَ الْفَتى ، فَصارَ إِلَى الرَّبيعِ ( مَوْلى أَبي جَعْفَرٍ الْمَنْصورِ ، وَأَحَدِ رِجالِ دَوْلَتِه ) ، فَقالَ لَه : نَصيحَةٌ ! قالَ : هاتِها ! قالَ : لا أَقولُها إِلّا لِأَميرِ الْمُؤْمِنينَ . فَأَعْلَمَ الْمَنْصورَ الْخَبَرَ ، فَأَدْخَلَه إِلَيْهِ ؛ فَقالَ : هاتِ نَصيحَتَكَ ! فَقالَ : أَخْلِني ! فَنَحّى مَنْ عِنْدَه ، وَبَقِيَ الرَّبيعُ . فَقالَ : هاتِ ! قالَ : لا ، إِلّا أَنْ يَتَنَحّى . فَنَحّاهُ ، وَقالَ : هاتِ . قالَ : أَنَا ابْنُكَ . قالَ : وَما عَلامَةُ ذلِكَ ؟ فَأَخْرَجَ الْقَميصَ وَالخاتَمَ ، فَعَرَفَهُمَا الْمَنْصورُ ، وَقالَ لَه : ما مَنَعَكَ أَنْ تَقولَ هذا ظاهِرًا ؟ قالَ : خِفْتُ أَنْ تَجْحَدَ ، فَتَكونَ سُبَّةً آخِرَ الدَّهْرِ . فَضَمَّه إِلَيْهِ ، وَقَبَّلَه ، وَقالَ : أَنْتَ الْآنَ ابْني حَقًّا ! وَدَعَا الْمورِيانيَّ - هُوَ أَبو أَيّوبَ سُلَيْمانُ بْنُ أَبي سُلَيْمانَ الْمورِيانيُّ ، أَحَدُ رِجالِ الدَّوْلَةِ - فَقالَ : يَكونُ هذا عِنْدَكَ ، وَما كُنْتَ تَفْعَلُه بِوَلَدي - لَوْ كانَ عِنْدَكَ - فَافْعُلْهُ بِه ! وَتَقَدَّمَ إِلَى الرَّبيعِ في أَنْ يُسْقِطَ الْإِذْنَ عَنْهُ ، وَأَمَرَه بِالْبُكورِ إِلَيْهِ في كُلِّ يَوْمٍ وَالرَّواحِ ، إِلى أَنْ يُظْهِرَ أَمْرَه ، فَإِنَّ لَه فيهِ تَدْبيرًا . فَضَمَّهُ الْمورِيانيُّ إِلَيْهِ ، وَأَخْلى لَه مَنْزِلًا ، وَأَوْسَعَ لَه مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، فَكانَ يَغْدو وَيَروحُ إِلَى الْمَنْصورِ ، وَخُصَّ بِه جِدًّا ، وَكانَ الْفَتى في غايَةٍ مِنَ الْعَقْلِ وَالْكَمالِ ، وَكانَ الْمَنْصورُ يَخْلو مَعَه ، فَيَسْأَلُهُ الْمورِيانيُّ عَمّا يَجْري بَيْنَهُما ، فَلا يُخْبِرُه ، فَيقولُ لَه : إِنَّ أَميرَ الْمُؤْمِنينَ لا يَكْتُمُني شَيْئًا ! فَيَقولُ لَهُ الْفَتى : فَما حاجَتُكَ إِلى ما عِنْدي إِذَنْ ! فَحَسَدَهُ الْمورِيانيُّ ، وَاسْتَوْحَشَ مِنْهُ ، وَثَقُلَ عَلَْهِ مَكانَه ، فَأَطْعَمَه سُمًّا ، فَماتَ ، وَصارَ إِلَى الْمَنْصورِ ، فَأَعْلَمَه أَنَّه ماتَ فَجْأَةً ، ثُمَّ وَلّى ، فَقالَ الْمَنْصورُ : قَتَلْتَه ! قَتَلَني اللّهُ ، إِنْ لَمْ أَقْتُلْكَ بِه ! فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدُ أَنْ فَعَلَ بِه ما فَعَلَ .

قد أطلعنا مؤلف " هارون الرشيد " ، على مثل قصة المتنبي ، بأحمد بن هارون ، من ابنة الطيان العراقي ، الذي نشأ عالما بعدما قتل العجم كثيرا ممن نشأ بينهم تقتيلا ، ذودا عن المأمون ابنهم . وقد وفد على أبيه ، فأكرمه ، وأوصاه بابنيه محمد الأمين وعبد الله المأمون ، أَلّا يتركهما للخلاف ، ولكنه لم يقم لحاشِيَتَيْهِما .

ولئن صحت القصة إنها لأشبه هنا !

وَهَبَ اللّهُ هذَا الذَّكيَّ الْمُرْهَفَ الْحِسِّ ، جَدَّةً حازِمَةً كانَتْ فيما ذَهَبْنا إِلَيْه ، توقِدُ في قَلْبِه نيرانَ الثَّوْرَةِ ، وَتُؤَرِّثُها بِالْحِقْدِ عَلى قَوْمٍ بِأَعْيانِهِمْ ، وَتُدَرِّبُه عَلى كَرائِمِ الْخُلُقِ كَالصِّدْقِ وَالْأَمانَةِ وَحُبِّ الْمَجْدِ ، وَالتَّطَلُّعِ إِلَى الْعَلْياءِ وَالْجُرْأَةِ الْمُسْتَنْفَرَةِ الَّتي لا تَتَهَيَّبُ ، يَحُدُّ مِنْهَا الْحَذَرُ الَّذي لا يَتَهاوَنُ وَالدَّهاءُ الَّذي لا يَتَوَرَّطُ في مَوارِدِ التَّلَفِ . وَشَرَعَ الْفَتى يَطْلُبُ الْعِلْمَ وَيَسْتَزيدُ مِنْهُ وَيَشْتَدُّ فِي الْطَّلَبِ ، مُصَمِّمًا مُعْتَزِمًا أَمْرًا في نَفْسِه أَنْ يَبْلُغَه أَوْ يَهْلِكَ دونَه ! ثُمَّ انْفَتَحَتْ لِعَيْنَيْهِ الدُّنْيا بِرَذائِلِها وَفَضائِلِها وَحِكْمَتِها وَتُرَّهاتِها وَجِدِّها وَهَزْلِها ، فَاضْطَرَبَتْ نَفْسُه ، وَطَفِقَتْ تَتَلَمَّسُ الْأَشْياءَ هُنا وَثَمَّ ، لِتَسْتَقِرَّ عَلى ما تَرْضى بِه وَتَأْنَسُ إِلَيْهِ .

بين المتنبي وبين أستاذنا مشابه تبدو لي حافِزَه وصاحِبَه في طريق الكتابة عنه هنا .

كانَتْ أَخْلاقُ الْأُمَّةِ قَدِ اتَّضَعَتْ وَفَشِلَتْ بِما تَداخَلَها مِنْ أَخْلاطِ الْأُمَمِ الَّذين لا أَصْلَ لَهُمْ يَرْجِعونَ إِلَيْهِ ، وَلا خُلُقَ عِنْدَهُمْ يَسْتَذِمّونَ بِه - وَفَسَدَتِ الْعامَّةُ مِنْ أَهْلِ الْمُدُنِ فَسادًا كَبيرًا ، وَاضْطَرَبَتْ في أَيْدِي النّاسِ حِبالُ الْأَخْلاقِ ، وَصاروا لا يَقيسونَ النّاسَ إِلّا بِمِقْياسِ الظّاهِرِ ، وَلا يَزِنونَهُمْ إِلّا بِميزانِ الْمالِ ؛ فَبَطَلَتْ مَوازينُ الرِّجالِ الَّتي يوزَنونَ بِها ، مِنَ الْعَقْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالرُّجولَةِ وَكَرَمِ الْعُنْصُرِ ؛ فَكانَ نَظَرُ الْفَتى إِلى هذا مِمّا أَلْقَى الْحَطَبَ عَلَى النّارِ الَّتي في صَدْرِه ، فَبُغِّضَتْ إِلَيْهِ سَفْسافُ الْأَخْلاقِ ، وَتَعَلَّقَ بِمعاليها ، وَزُيِّنَ في قَلْبِه أَنْ يَكونَ هُوَ الثّائِرَ الَّذي يَرُدُّ هؤُلاءِ الْأَهْمالَ وَالْهَمَجَ إِلى مَرَدٍّ ، وَيَأْوي بِهِمْ إِلى مَأْوًى ، وَيَقومُ عَلَيْهِمْ قِيامَ الرّاعي ؛ حَتّى يَخْلُصوا مِنَ الشَّرِّ ، وَيَسْتَمْسِكوا بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ، وَيَفيئوا إِلَى الْخُلُقِ الْكَريمِ الَّذي لا يَبْخَسُ النّاسَ حَقَّهُمْ ، وَلا يَظْلِمُهُمْ ، وَلا يُدَنّيهِمْ ، بَلْ يَعْدِلُ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ، وَيَرْفَعُهُمْ عَنِ الدَّنيَّةِ ، وَيَجْعَلُهُمْ قوَّةً مُسْتَحْكِمَةً تَرُدُّ عُدْوانَ الْعادي وَبَغْيَ الْباغي ، لِيَصِلوا بِذلِكَ إِلَى الْمَجْدِ وَالسُّلْطانِ .

حَشّى أستاذنا على هذا الكلام ، بالتحذير من التعميم المطلق ، الذي ينتهزه المشغولون من أهل زمانه بذم أهلهم ، وهو - رحمه الله ! - وزمانه ، أشبه بالمتنبي وزمانه ، بلا تحذير !

عَلَيْنا أَنْ نَذْكُرَ لَكَ أَوَّلَ ذي بَدْءٍ ، رِوايَةَ الرُّواةِ في أَمْرِ نُبوَّتِه ، تامَّةً كَما رَوَوْها ، ثُمَّ نَعْقُبَها بِرَأْيِنَا الَّذِي ارْتَضَيْناهُ ، وَقَضَيْنا بِه (...) :

ثُمَّ قالَ أَبو عَبْدِ اللّهِ هذا ( معاذ بن إسماعيل اللاذقي ) (...) سُئِلَ في تِلْكَ الْأَيّامِ عَنِ النَّبيِّ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - فَقالَ : أَخْبَرَ بِنُبوَّتي حَيْثُ قالَ : " لا نَبيَّ بَعْدي " ، وَأَنَا اسْمي فِي السَّماءِ " لا " !

قال البردوني في " وردة من دم المتنبي " ، وجعل معاذا ، ابن معاذ :

" مَا اسْمُ هذَا الْغُلامِ يَا ابْنَ مُعاذٍ إِسْمُه لا مِنْ أَيْنَ هذَا الْمُسَمّى

إِنَّه أَخْطَرُ الصَّعاليكِ طُرًّا إِنَّه يَعْشَقُ الْخُطوراتِ جَمّا " !

ثم ينبغي أن يكون " نبي " ، على هذا ، في " لا نبي بعدي " - مرفوعا خبرا ، لا مبنيا على الفتح في صحبة نافية الجنس !

مَلَكَكَ الشَّكُّ ، وَغَلَبَ عَلَيْكَ فيما رَوى !

وهذا الثاني !

تَبِعَهُمْ ناصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْحَديثَةِ ، بِقُرْبِ الْمَوْصِلِ .

منها الدكتورة خديجة الحديثي ، العالمة النحوية ، بلا ريب !

وَلَوْ لَمْ أَخَفْ غَيْرَ أَعْدائِه      عَلَيْهِ لَبَشَّرْتُه بِالْخُلود

آثر أستاذنا - رحمه الله ! - بعد هذا الزمان ، صواب كتابة البيت متصل الشطرين ، ولكنه لم يعبأ بهذا فيما نشره ؛ فحرت في حقيقة رأيه !

كانَ أَبُو الطَّيِّبِ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِه مُتَوَرِّعًا في خُلُقِه ، لا يَخْرُجُ مِنْ حُدودِ الْوَقارِ ، مُتَزَمِّتًا لا يَلينُ لِلشَّهَواتِ ، وَلا يُلْقي إِلَيْها مَقادَه ، مُتَرَفِّعًا عَنْ سَفْسافِ الْأَخْلاقِ ، مُتَمَسِّكًا بِمَعاليها ، آخِذًا نَفْسَه بِالْجِدِّ الَّذي لا يَفْتُرُ ، وَكانَ لا يَقْرُبُ التُّهَمَ ، وَلا يُدانيها ، " فَما كَذَبَ ، وَلا زَنى ، وَلا لاطَ " ، وَلا أَتى مُنْكَرًا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ أَوْ يُزَنُّ بِه ، وَاسْتَمَرَّ عَلى ذلِكَ حَياتَه كُلَّها . وَخالَفَ الْأُدَباءَ وَالشُّعَراءَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِه ؛ فَما شَرِبَ الْخَمْرَ ، وَلا حَمَلَ وِزْرَها ، وَلَوْلَا اضْطِرارُه فيما نَرى ، لَما حَضَرَ مَجْلِسَها . وَكانَ مُنْصَرِفًا إِلَى الْعِلْمِ قارِئًا لَه ، مُحَقِّقًا لِدَقائِقِه ، طَويلَ النَّظَرِ وَالتَّدَبُّرِ فيما يَمُرُّ بِه مِنْ أَحْداثِ الزَّمانِ ، كَثيرَ الِاهْتِمامِ بِأَمْرِ الْأُمَّةِ الَّتي هُوَ مِنْها ، لا يَفوتُه مَغْمَزٌ يَنْتَقِدُه أَوْ خُلُقٌ يَسْتَسْقِطُه . وَكانَ أَهْلُ الْعَصْرِ عَلى خِلافِ ذلِكَ - وَخاصَّةً مَنِ انْتَسَبَ إِلَى الْأَدَبِ ، وَاعْتَزى إِلَى الشِّعْرِ - فَكانَ الْأُدَباءُ وَالشُّعَراءُ أَهْلَ شَرابٍ وَمُعاقَرَةٍ وَلَهْوٍ وَهَزْلٍ وَباطِلٍ ، لا يَفْرُغونَ إِلَى الْجِدِّ إِلّا بِمِقْدارٍ ، وَلا يَتَوَرَّعونَ عَنْ دَنيَّةٍ إِلّا مُكْرَهينَ عَلَى الْوَرَعِ . فَلا عَجَبَ إِذا عَدَّه أَهْلُ صِناعَتِه مِنَ الْأُدَباءِ وَالشُّعَراءِ غَريبًا بَيْنَهُمْ !

كأنما تلذذ أستاذنا - رحمه الله ! - في صفة المتنبي التي افتقد من زمانه ، بما صَبَرَ هو عليه نَفْسَه ، وعَلَّمَنا أن نصبر ؛ فهذا تِرْبٌ لا يُهْمَلُ ولا يُنْسى !