قراءة نقدية في كتاب قصيدة الومضة
عين على القصيدة الومضة
د
. حمزة رستناوي*عرفَ العرب قصيدة البيت الواحد منذ العصر الجاهلي , و ظلّت القصيدة العربية غير محدودة الطول, و لم تكن هذه القضية ذات بال في أعين النقاد الأقدمين, بل و حتى المحدثين في طور الحداثة الشعرية, فمن الممكن أن تصادفنا قصائد قصيرة في نتاجات رواد الحداثة , و لكنها جاءت ضمن سياق مجمل نتاجهم الشعري و دون وعي نقدي و معرفي مخصوص.
و لكن مع ظهور و انتشار قصيدة النثر العربية أخذ هذا النمط من الكتابة في الانتشار فأصبحنا نجد شعراء يكتبون مجموعات شعرية كاملة تندرج ضمن هذا النمط, و أهمية الكتاب الذي بين أيدينا تتأتى من كونه أول كتاب نقدي عربي مخصص لرصد و التعريف بظاهرة القصيدة الومضة على حسب اطلاعي و بحثي , مع استثناء كتيب صغير مهم للناقد علي الشرع بعنوان " بنية القصيدة القصيرة في شعر أدونيس " الصادر عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق 1987
و مع الانتباه كذلك إلى أنه ليست كل قصيدة قصيرة هي قصيدة ومضة, فهناك مُحدِّدات أخرى غير القصر و الكم يُشترط وجودها في القصيدة الومضة.
و يُعرِّف الكتاب قصيدة الومضة بأنها " هي قصيدة الدفقة الشعورية الواحدة التي تقوم على فكرة واحدة أو حالة واحدة يقوم عليها النص, تتكون من مفردات قليلة, و تتسم بالاختزالية, و لا يتعدى طول هذه القصيدة الجمل القليلة التي تتشكل بطريقة لمّاحة واضحة سريعة "ص 14
بالتأكيد إن أي تعريف للقصيدة الومضة سيعاني من صعوبات يمكن تفهمها, تتعلق بنظرية التجنيس الأدبي و أولوية الإبداع على النقد و إشكالية الفصل و الوصل في نظرة المتلقي للنصوص..الخ
فثمة علاقة ملتبسة مع القصة القصيرة جدا, طالما أن كليهما "قصير" و لئن كانت القصة تهتم بالإخبار و السرد , لكنها كثيرا ما تجنح إلى الشعرية و التكثيف .
ليس المطلوب التعسف ووضع أسلاك شائكة بين الأجناس الأدبية, و لكن الكتاب الذي بين أيدينا حاول الإجابة على تساؤلات كهذه.
*
يتألف الكتاب من مقدمة و قسمين
القسم الأول: يبحث في الخصائص الفنية و التواصلية لقصيدة الومضة
و يناقش قضايا
- أثر العنوان في القصيدة الومضة
- التكثيف و طاقة المفردة
- التضاد في قصيدة الومضة
- التوازي في قصيدة الومضة
- النزعة التشكيلية في قصيدة الومضة
- الغموض و التمنع في القصيدة الومضة
- الدرامية و التكرار في القصيدة الومضة
- النزعة الصوفية في القصيدة الومضة
- العفوية في القصيدة الومضة
- جماليات التلقي في القصيدة الومضة
- الفضاء الأبيض للقصيدة الومضة.
- الفاعلية و التأثير في قصيدة الومضة
و ترى الدراسة المقدّمة في الكتاب أن القصيدة الومضة تمكّنت من تحقيق هذه الوظيفة الجوهرية للشعر عن طريق أسلوبين مهمين:
الأسلوب الأول: الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة و المهمشة, و رصد دقائق الأشياء المحيطة بنا
أما الأسلوب الثاني فهو العمل داخل اللغة و ذلك عن طريق إحداث علاقات جديدة بين المفردات, كما في ومضة "المئذنة" لأدونيس :
" بكت المئذنة
حين جاء الغريب اشتراها
بنى فوقها مدخنة" ص102
يورد الكتاب قصيدة ومضة للشاعر أيمن معروف
"لا يكتب أغنية
لا يشرب غليونا
لا ينتظر امرأة
لا يبحث عن أحد ما
يجلس في المقهى
و يحدق في الناس الآتين
....
..
..
رجل في عمر الخمسين" ص 102
و رغم أنها ترد كمثال على الأسلوب الثاني" أسلوب الاشتغال على اللغة" إلا أن هذه الومضة تمثل خير تمثيل الأسلوب الأول "أسلوب الاهتمام بالتفاصيل و الهامش و العادي" مما يثير تساؤلا حول انسجام التطبيق مع الطرح النظري في الكتاب.
ما يلاحظ هنا أن ما يُسميه الكتاب بالخصائص الفنية و التواصلية لقصيدة الومضة
هي خصائص للقصيدة العربية الحديثة عموما بما فيها القصيدة الومضة و القصيدة الطويلة كذلك , مع الاعتراف بوجود خصوصية ما فيما يتعلق بالعنوان و التكثيف و طاقة المفردة, و لكننا لا نجد مثل هذه الخصوصية عند الحديث عن الدرامية و التكرار و النزعة الصوفية.
*
أما القسم الثاني من الكتاب فهو دراسات تطبيقية في تجارب رياض صالح الحسين من سوريا كممثل لقصيدة " البداهة التي تشبهنا" في مجموعته "وعل في الغابة"
التي تحتفي بمقولات عدة, أهمها إضافة إلى الاحتفاء باليومي مقولتا الموت و الحياة.
لنقرأ هذه القصيدة بعنوان "الخنجر"
"الرجل مات/ الخنجر في القلب/ و الابتسامة بين الشفتين/ الرجل مات/ الرجل يتنزه في قبره/ ينظر إلى الأعلى/ ينظر إلى الأسفل/ ينظر حوله/ لاشيء سوى التراب/ لاشيء سوى القبضة اللامعة/ الخنجر في صدره/ يبتسم الرجل الميت/ و يربت على قبضة الخنجر/ الخنجر صديقه الوحيد/ الخنجر/ ذكرى عزيزة من الذين في الأعلى" ص126
فهذا القصيدة الومضة تماثل قصيدة متوسطة الحجم , و تحمل ملامح قصصية صريحة, فثمة تصعيد درامي و حبكة و لكنها مفعمة بالشعر, هي خطاب الميت في حنينه إلى الحياة,فهو يذكر الأحياء بجماليات فقدوها و لكن –هيهات - بعد فوات الأوان؟!
و يرصد الكتابُ كذلك تجربة الشاعرة الكويتية سعدية المفرح كممثلة للبداهة الأنثوية في مجموعتها" آخر الحالمين كان" .
و يورد لها قصيدة الومضة التالية:
" أشعرُ بهِ كلما سمعت
خبرا يحتاج تعليقا فوريا
أو أغنية جديدة
أو قصيدة تافهة
أو صوتا يشبه ذلك الصوت الذي
خلقني امرأة
ذات صباح"
لقد جاءت نصوص المفرح باهتة عادية , و من خلال النماذج التي قدّمها الكتاب للشاعرة المفرح لم أجد مبررا لتخصيصها كنموذج عن القصيدة الومضة تمثل بداهة الأنثى , لنقارن – مع العلم أن أي مقارنة تحتمل تعسفا ما- هذه الومضة مثلا للشاعرة
رولا حسن
"ثمة وقت لأرتّب طاولة حياتي
وألتفت صوب حقول العائلة اليابسة
ثمة وقت لأسحب ملاءة الحنين
و أسوي سرير الضجر"
فالومضة الأخيرة تحتفي أكثر بالأشياء , التفاصيل , البيت , و العائلة , و الإحساس فيها أكثر تعينا بحدّه الأنثوي.
و يرصد الكتاب كذلك تجربة الشاعر السعودي أحمد الزهراني كممثل لبداهة الاحتجاج اليومي في مجموعته "بياض" و ما بعدها
ففي قصيدة ومضة له بعنوان
"مندوب"
"جالسا ..خارج الذاكرة
في فضاء رحيب
يحضر المؤتمر
خلف قنينة من شراب لذيذ
ربما من نبيذ
جالسا في فراغ مهيب
في أجندته موعد للفجور
دفتر فيه بعض الحروف التي مزقتها السطور
وحده ..لا يعي ما يدور" ص132
فالنص يقوم على المفارقة بين ما هو مأمول و بين ما هو حاصل
و يعرض الكتاب كذلك بشكل سريع للشاعر اللبناني جوزيف حرب كممثل للومضة المشهدية و الاحتفاء بالطبيعة, و للشاعر سعد الجبوري للقصيدة الومضة ذات النزعة التدميرية التجريبية المشاكسة .
أيا كانت ملاحظاتنا على هذا الكتاب إلا أنه يمثل جهدا ً مشكورا ً يتسم بالريادة في رصد نمط جديد أخذ يتبلور في الشعرية العربية, و كذلك في تسليطه الضوء على تجارب شعرية منسية غير مُكرسة على امتداد المشهد الشعري العربي.
ربما تكون القصيدة الومضة الأكثر وعدا و أملا في زمن عزف فيه الناس عن القراءة, و في زمن انزاح الشعر فيه إلى العمق الإنساني و الداخل, فأخذت القصائد تتكثف أكثر فأكثر, و بدأ حجمها بالانكماش التدريجي.
* شاعر وكاتب سوري
* هامش:
الكتاب: قصيدة الومضة-دراسة تنظيرية تطبيقية
تأليف: هايل محمد الطالب- أديب حسن محمد
الناشر: نادي المنطقة الشرقية الأدبي ط1 2009