شعرية المطابقة في رقصة العنكبوت
شعرية المطابقة في رقصة العنكبوت
د. حسن لشكر
كلية الآداب القنيطرة
قدمت هذه القراءة النقدية للرواية خلال حفل توزيع جوائز دار الحرف للرواية
فازت رواية رقصة العنكبوت بتنويه خاص من قبل لجنة جائزة دار الحرف للرواية في دورتها الأولى لسنة 2008 نظرا لاحترامها ضوابط الجنس الروائي وإضافاتها النوعية ولغتها المميزة.
سنعمل على تقريب عالم النص وأبعاده الدلالية للمتلقي في هذه المقاربة الأولية.
عنت لنا ونحن نستقري عالمه عدة سمات سردية وأسلوبية ودلالية جعلته ينال هذا التنويه عن جدارة واستحقاق
أولا: النص رغم رهاناته التجديدية احترم ضوابط الجنس الروائي: وجود حبكة، قصة، نمذجة، شخصيات... إلا أنه غير مقسم إلى فصول أو مشاهد ،بل عبارة عن مشهد روائي مسترسل من بداية الحكي إلي نهايته. بمعنى أن القراءة الفاحصة ينبغي أن ترصد التتابع السببي والمنطقي الذي يصوغ نفسا روائيا واحدا ويفتح مساحات أخرى للتخيل .
ظل الروائي أسير التدرج الحكائي ، فهناك علاقة تجاور بين المحكيات تنهض على استثمار اليومي والمألوف الذي يولد الفعالية القرائية وجماليات المعنى، إذ يعتني السارد بأدق التفاصيل لتقديم الحكاية وسرد أنساق التخييل .
ثانيا:السمة الثانية اللافتة للنظر هي حضور النسق القصصي وتحكمه في أجواء الحكي.
هناك اختزال شديد للأحداث والحالات والمشاهد والأقوال . فالرواية قصيرة النفس لا تتعدى في صيغتها الأصلية المقدمة للجائزة سبعا وأربعين صفحة .
النص محكوم بوعي قصصي وفني لافت للنظر يعتمد على انسجام المشاهد وتناغمها، وعلى تحقيق المتعة والمؤانسة والتشويق مبني على قواعد الاختزال والتركيز . ويعود هذا الأمر بدون شك لإبداعات الكاتب واهتماماته بفن القصة التي اخترقت نصه الروائي بوعي صامت .
وهذا الاختزال مس الأحداث والمحكيات وخاصة الشخصيات على رأسها هدى ( ابنة الرجل) التي كان بالإمكان تنمية وإغناء حضورها النصي وأبعادها الدلالية والرمزية. والأمر نفسه ينطبق على الصديقين خالد وسعد ، لقد قلص الكاتب وظائفهما الروائية وحد من فاعلية الدوائر السردي المرتبطة بهما ليفسح المجال السردي كله للسارد كنقطة ارتكاز وعبور أساسية.
ثالثا : بساطة اللغة والأسلوب ، فالرواية لا تطرح تحديات تأويليه كما نجد في بعض النصوص التجريبية التي تبحث عن اللامعنى وتمنح مراتب من المعاني السديمية.
فالقصة مشوقة ومنحوتة في قالب أدبي متماسك ولكنه مغلف بإيقاع واقعي مباشر وتقريري أحادي الدلالة منفتح على احتمال واحد خال من التكلف والزوائد اللغوية.
إن شعرية المطابقة تستبد بأجواء الحكي إلا في محكي تضخم العنكبوت حيث الانتقال إلى الإيحاء والرمز ، مع ذلك نلمس قدرة فائقة على التحكم في اللغة واستعمالها في مقامات تلفظية مختلفة .
فالرواية تحكي قصة رسام هاو عاطل اسمه يوسف يعيش أزمة مالية، يلتقي رجلا غريب الأطوار يبيع التحف واللوحات المزورة في أوروبا .
يتفقان على تقليد لوحات رسامين مشهورين مقابل نسبة من الأرباح .
باشر يوسف عملية التقليد في المرسم السري للرجل والتي تضم عدة لوحات مزورة لرسامين مشهورين عجز السارد، رغم معرفته القوية بعالم الرسم ،عن التمييز هل هي حقيقية أم مستنسخة ، فدرجة المحاكاة كانت كبيرة .
بدعوة من الرجل سيذهبان معا إلى سيدي بوزيد حيث يمتلك هذا الأخير فيلا صغيرة وهناك سيكتشف أن الرجل مخنث، وأن الرسم مجرد طعم لإشباع شذوذه الجنسي . سيغادر يوسف المكان وسيحتجز غرفة بالجديدة في فندق متواضع، ليلتحق بعد ذلك بصديقته منى بالدار البيضاء والتي عارضت منذ البداية هذا العمل القذر.
الأحداث موزعة بين الدار البيضاء والجديدة وسيدي بوزيد ، أما الزمن الروائي المؤطر للأحداث فيزامن قصف العراق أثناء احتلاله للكويت.
لكن الزمن ليس هنا مجرد إطار للأحداث بل عنصرا سرديا يقول السارد:"الزمن عصي على الإمساك.. كلما حاولت ترتيبه ضمن سياق منطقي ليسعفني على اتخاذ قرار ما انفلت من تلابيب الذهن فأهوي في قرار عميق من الخواء "(ص:5). كذلك الحيز الذي تجري فيه الأحداث موزع بين الدار البيضاء وسيدي بوزيد، وهو غير مستقل دلاليا عن الزمن المرجعي وقد تعامل معه السارد كمكان جغرافي فحدد موقعه، زواياه، خصائصه...,بمعنى أن المكان يكتسب معناه ورمزيته من العلاقات الدلاليه التي تضفيها الشخصيات عليه وهو يمتلك إمدادات واقعية صريحة وضمنية.
رابعا: تعدد مستويات اللغة( لغة فصيحة، لغة دارجة) لكن اللغة الفصيحة هي المنبع والمصب، وقد وازاه تعدد في مستويات الخطاب:(خطاب أدبي، خطاب تاريخي خطاب فني....)وتعدد في المحكيات (محكي السارد ،محكي منى ، محكي هدى....)وتعدد في الأصوات.
هذا التعدد ساهم في إغناء المعرفة الروائية وتجاوز صور النمذجة في الأسلوب والنمط والموضوع.
خامسا: هناك أيضا تعدد في الشخصيات ضمن البعد الواقعي والمتخيل للنص
خاصة.
أن السارد حرص على تقديمها بشكل تفصيلي مس أبعادها النفسية والاجتماعية.
فهناك السارد وهو ،كما قلنا سابقا، رسام عاطل يرى الشماتة في كل معارفه، بل الاحتقار في عيون البعض. يحاول تبرير ما سيقدم علبه من عمل قذر (تزوير اللوحات)لكنه سيعود إلى رشده بعد اكتشاف شذوذ الرجل.
منى:شابة في ريعان الشباب,طالبة في شعبة الاقتصاد ومهتمة بالفن،تلبس ملابس رجالية تجعل منها فتاة غير مشتهاة(ص7 )عنيدة لا تتنازل عن رأيها، أحلامها مثالية(ص9) وحيدة والديها، أبوها رجل تعليم ذو مبادئ، كانت صدى لأفكاره الضاربة بعمقها في الحق والواجب والعدالة والتي توقف بسببها عن العمل ثلاث سنوات سنة 1981.تعتز به وتتخذه نموذجها.لم تمر على معرفة السارد بها سوى أيام معدودات، مع ذلك تعلق بها.
الرجل:أنيق،مطلق،شاذ،يحاول إحكام قبضته على السارد لإشباع شذوذه،نموذج لقيم الانحلال والفساد.
هدى:(ابنة الرجل)تدرس فن الرسم في فرنسا، وهي حاليا في إجازة.تقضي أغلب وقتها في أوروبا والباقي بين أبيها وأمها المطلقين.
إلي جانب هذه الشخصيات المحورية،هناك شخصيات عابرة كأم السارد وأصدقائه ومنهم خالد الذي استبدت به الرغبة في الهجرة،وسعد المهتم بالكلمات المتقاطعة.وقد قلص السارد حجمها ودورها في تأثيث العالم الروائي.والملاحظ أن الشخصية هي قاعدة السرد وعموده الفقري ،انطلاقا منه تنتظم عناصر الحكاية.
سادسا:السرد يتم بضمير المتكلم من قبل سارد داخل حكائي مشارك في الأحداث يحس بنفسه ضئيلا على المستوى الاجتماعي(ص:5) ولكنه على المستوى السردي هو المتحكم في أجواء الحكي ونقطة التلاقي الدلالية الأساس بين مكونات الخطاب. إنه بؤرة الحكي وقاعدته وان كان أحيانا يجهل مكنون شخصياته.وقد مارس جميع وظائفه السردية بقدرة واتزان.
يعتمد النص أساسا على سرد تعاقبي مسترسل تتخلله الاسترجاعات:اللقاء الأول مع حسن،التعرف على منى،أحداث 1981.......الخ والخطابات الحوارية والمقاطع الوصفية،وكذلك الحلم خاصة تضخم العنكبوت الذي صيغ في قالب مشوق وسينمائي.هذا الحلم الغريب يشكل علامة سردية مضيئة داخل الرواية ومنه استمد الكاتب العنوان.
إلي جانب السرد التعاقبي ذي المرجعية الكلاسيكية نجد الحوار كبؤرة سردية أساس.فلا نكاد تخلو صفحة منه،مما يؤكد أهميته في نسج البناء والدلالة.فهو مولد لكثير من المحكيات.لكنه مكمل للسرد وتابع له،أي يحمل بذورا سردية.
تقنية الوصف هي الأخرى اجتاحت العالم السردي مؤسسة صورا بديعة تنزاح عن منطق المباشرة التي وسمت شمولية الخطاب.والوصف مندمج داخل السرد يعطينا معلومات عن الشخصيات والأماكن والحالات الروائية،ولا نستطيع في أغلب الأحيان الفصل بين السرد والوصف لتشابكهما.الوصف لم يبق هنا مجرد تقنية تعزز النسق السردي لتغنيه بجماليات اللغة والأسلوب،بل أضحى مكونا سرديا واستعارة بنائية محملة بقوة بلاغية
بناء على ما سلف يمكن القول إن هذا النص يشكل إضافة نوعية للمشهد الروائي المغربي إذ يحقق متعة القراءة ويحترم ضوابط الجنس الروائي رغم نفسه القصير واختزاله للأحداث والمستويات السردية.
إنه نص مشوق يستحق التنويه الذي كللته اللجنة به يقدم قيمة مضافة في الساحة الثقافية.