قراءة في المسرح الشعري 3

قراءة في المسرح الشعري

-3-

ذ. محمد دخيسي - وجدة المغرب

[email protected]

-1-1الشخوص والبديل الموضوعي للأزمة:

إذا كانت الشخصيات تحمل أبعادا ثلاثة: البعد المادي، البعد الاجتماعي،والبعد النفسي، 1 فإن خالد محيي الدين البرادعي استطاع أن يوفق في الجمع بين كل تلك العناصر. كيف ذلك؟

من الأمور البديهية التي انطلق منها المؤلِّف كونه كتب تحت ضغط العرض لا النص متفردا لذلك جاءت شخصياته تعبر عن هذا الموقف. فالشيخ تتغير وضعيته من حال الاستقرار والشهادة ( كونه شاهدا لا شهيدا) على المواقف التاريخية أولاً والمسرحية داخل الركح،  إلى مشارك في الحور الثنائي مع شخصيات أخرى. وهو في الأخير نفسيا يميل إلى التحرر والتمرد على الأشكال الاستعمارية.

أما السيدة  فتعيش الأزمة بكل عناصرها التراجيدية والعادية والمفرحة في آخر المسرحية. إن أجمل ما يلاحظ عليها أنها تظهر لتختفيَ، تظهر ساعة الحزن" تغني بلهجة حزينة"2 و" تظهر السيدة بثياب سود تغطي كامل جسدها"3 ثم في لحظة ثالثة :" تظهر بثيابها السود. تمشي بهدوء حزين"4 وغيرها من المواقف التي تجعلنا نعيش حالة السيدة وهي تترحل ذهابا وإيابا تحمل أوجاع وآلام الجماعات ( مجموعة الشهداء:  الأحد عشر، السبعة، الأربعة عشر)، وهذه (الجماعات) تظهر كل مرة لتناجيَ الشيخ في حالتها وتحكيَ آلامَها ليخرج السفاح بكامل توهجاته فيلقي بحباله المشنقة عليهم. والمؤلف في هذا الصدد لا يصرح بأنهم يُشنَقون ولكن يركز على المؤشر المصاحب (الإرشاد) الذي يصيغ الفكرة. يقول مثلا:" يظلم المكان. ومع حلول الظلام يتردد صدى:لا. لا. لا.. تظهر على الخلفية إحدى عشر مشنقة. ينظر الشيخ بحزن إلى المشهد"1 وهي الحالة التي تعيش عليها السيدة إلى غاية نهاية المسرحية حين تشهد فرح الانتصار والحرية. " تظهر السيدة بثياب بيض باسمة. تتأمل الصبايا والشباب." 2

إن المؤلف يطرح في كل مرة الحالة التي يكون عليها الممثل وهي كثيرة تستدعي المجال الأوسع لتعدادها وتحديدها، لذلك فتقديمنا هذه النماذج إنما لإضاءة المبتغى والجواب على السؤال المطروح آنفا.

إذا انتقلنا إلى شخصية محورية وهي السفاح، نلاحظ كيف أنها تغير من ملابسها بغية الحصول على تأشيرة الحلو ل في جسد المستعمر الفرنسي بدل القائد العثماني الذي شغل حيزه في بداية المسرحية. لماذا اكتفى البرادعي بشخصية واحدة، أ لِنقص في الممثلين؟

بالطبع لن تكون هذه هي العلة، لأن المؤلف وبنظرة إخراجية ارتأى أن يوضح للمتلقي استمرارية هذه الشخصية  أولا، ومساهمة في البناء الدرامي للمسرحية (العرض) جعل السفاحَ شخصيتين في جلباب واحد، والقصد أنْ لا اختلاف بين هذا وذاك وإن تبدل الحيز الزماني أو المكاني.

كما أن المؤلف حاول أن يحافظ على الشخصيات التي تمثل دور أطفال الشهداء، واقترح أن تكون شخصياتٍ حقيقية كي تلعب الدور الرئيس والإيجابي في النص / العرض، رغم أن مشاركتها لا تتعدى الدور الثانوي في إغناء النص بالحوارات والجماليات0 بالإضافة إلى الاستعانة ببعض الأبطال الحقيقيين الذين صنعوا التاريخ السوري، مثال صالح العلي، إبراهيم اهنانو، سلطان الأطرش، سلطان العظمة..

إن المشاركة الذهنية للمتلقي التي توخاها من إعطاء نعوت لشخصياته وتحديد معالمها ورموزها التاريخية إنما من أجل " استنباتها" داخل المتخيل قبل عرضها على الركح. وهو ما جعله يعطي إشارات متعددة كما سلفت الإشارة من خلا لها يمكننا تلمس الحقيقة، القصد، والمبتغى.

-1 -2 الحوار: الترشيد إلى أفق الانتظار العام للنص المسرحي

نعود ثانية للتعريف الذي خص به يونس الوليدي التحليل الدراماتوجي للنص المسرحي، يقول :" يعتبر الحوار جزءا في العمل الدرامي، حيث يعبر به الكاتب عن فكرته ويكشف بواسطته عن الأحداث الجارية والمقلبة في مسرحيته، وعن الشخصيات ومراحل تطورها. والحوار الجيد هو الذي تدل كل كلمة فيه على معنىً يكشف عن حقيقة معينة."1 ولتمتيع المتلقي بأشكال مختلفة من الحوارات يلجأ المؤلف المسرحي إلى جملة من التشكيلات. منها البرولوج Prologue والإيبيلوج Epilogue والمونولوج Monologue .2 وهي حوارات تخرج النص من دائرة الرتابة إلى دور الإشراك في التمثيل، والوظيفة الفعالة التي تنتج مثل هذه الوضعيات هي في أصلها إنتاج ثان للوضعية الثابتة. بمعنى أن الكاتب في صفة الممثل حين يلجأ إلى الحوار الداخلي (المونولوج) فإنه يعبر عن ما يوجد في داخله أمام الجمهور كي يصل إلى ما يدور في ذهنه ويشاركه فيه.

قلما نجد مؤلفا يصوغ مثل هذه التفريعات، فالشيخ حين يعقب غناء الجوقة بحديث إلى الجمهور، ومعبرا عن الخلفية(الصورة) التي توضح بطش العثمانيين، إنما ليحدثنا عن فكرة العرض المسرحي أو خطاب المقدمة والاستهلال(البرولوج) 3 وحين ينهي الحديث في نهاية المسرحية بقوله:

أيها الآتي ولا أعرفه.. هل صحيح.. أنت أَمنٌ.. وضياءْ

تحمل الحب إليهم....4

فالبرادعي ينهي الحديث بتساؤلات محورية مركِّزةٍ على الأبعاد العامة للنص ومشاركة المتفرج في استخلاص العبرة والنتائج.

أما الحوار الداخلي Monologue فينزع إلى إعطاء الأفكار الداخلية والتمثلات غير المباشرة التي يود التعبير عنها، لنتأمل هذه الإشارة:" ينظر السفاح حوله بازدراء. يتلمس قبضة مسدسه، يمشي بخطوات عسكرية متزنة ترافقها موسيقى  عسكرية، يتكلم دون أن ينظر إلى أحد."1 نخلص من خلالها إلى النوع من المناجاة التي يتمثلها السفاح  في محاولة الانتقام من المتمردين، وهو حوار تعبيري نستعيره من حركات الممثل لا من ألفاظه. ولا ننسى دور الغناء الذي يشكل بمفرده- ونحن نعلم أننا أمام مسرحية غنائية- بؤرة الحوار المباشر مع الجمهور. وما محاولة المؤلف استرجاع دفقات قلب الشهيد وغنائه وسط الرُّكح إلا مؤشر قوي على التزامه إعطاء الملامح العامة للشخصية المتحركة عبر الحوار الداخلي(الميت مع الشهيد إلى حد ما). يقول الشهيد: "(غناء)

سيد العشاقْ

إني ساهر وحدي في عصر العراءْ

المصابيح بقبري انطفأت..." 2

لقد تجمعت أشكال ثلاثة في إبراز دور الحوار، وهي: الألفاظ (الكلام ) والحركات وحتى الصمت الذي بنبع من الذات المتدمرة المتمردة :" يهدأ القصف..يستمر لهيب الحرائق. يظهر السفاح بملابسه ذليلاً. يتقدم من الشيخ الصامت. يهزه من كتفيه.."3

ولتحقيق وظائف الحوار الأخرى استغل خالد محيي الدين البرادعي بعض المؤشرات الأخرى التي تتبنى الموقف المصاحب للنص المسرحي. أهم هذه الإشارات ما يتعلق بالديكور الذي أولا ه المؤلف بعدا ثنائيا ما بين النص الأول: المسرحية، والنص الثاني: العرض.

مهما تماهى عنصر الديكور والمكونات الأخرى في المسرح يبقى هو المشكِّل للفضاء البصري. والمؤلِّف في مسرحية " عرس الشام" يستغل المجال التاريخي باعتبار المسرحية تستنبط المعطى التاريخي لتصوغه في مجرى ثان متألق نابع من سلطة النص والمكان الخاص بالعرض.

من خلال التحديد الأول: "مسرحية غنائية متواصلة المشاهد"، نلمس التجميع الأول للديكور، بحيث إن المَشاهِد بتتابعِها توحي أن المناظر فيها موحدةٌ؛ مع هذا تعامل البرادعي مع جماليات أخرى ذات علاقة بما هو مشهدي سينمائي. وقد استفاد من تاريخية الأحداث ليبرز بعض نواحي الصراعات الاجتماعية، والحروب التي واجه فيها الشعب السوري كلاًّ من السيطرة العثمانية والاستعمار الفرنسي. يقول: "(وخلال حديثه تظهر على الخلفية مشاهد من بطش العثمانيين في الوطن العربي. والتي سبقت مجازر السفاح جمال باشا)" 1. ويقول في موضع ثانٍ:" ( ..تظهر على الخلفية إحدى عشر مشنقة. ينظر الشيخ بحزن إلى المشهد)" 2.. وغير هذا الأمر كثير في النص المسرحي "عرس الشام" 3، ولمزيد من تأكيد هذا الدور جعل البرادعي من الإضاءة معينا على إبراز أهم المشاهد في غياب تغيير الديكورات التي تعج بها خشبته. وقد استفاد المؤلف من الإنارة لتوليد تعاقب الليل والنهار (ظلام / نور) ، ليغير من حالة الاستمرارية في المشاهد التي أكدها في أول المسرحية.

محاولة كهذه لا يمكنها أن تنبع من ذات ساكنة ، بقدر ما هي رؤية الفنان المبدع الجامع بين التأليف والإخراج.  ومجهودات خالد محيي الدين البرادعي استثمرت بشكل جدي لاستكمال النسيج الجمالي الذي لاحظناه في التحكم في تقنيات اللعبة (المرتبطة بالمسرح باعتباره  لعبة متجانسة)، لذلك فالظلمة عنده كانت متبوعةً بنور مستغِلاًّ ذلك بالإضاءة، إلا مرة واحدة لم يُظهر النور لكن الحوار بعده عبر عن عودته:

يظلم المكان: ص- 22

يضاء المكان: ص- 22

يظلم المكان: ص- 32

.....( غياب النور)

يظلم المكان تدريجيا: ص- 81

ومع ظهور السيدة تشتد الإضاءة: ص- 82.

بخلاف هذه الإضاءة الجبرية إن صح التعبير عنها، استغل البرادعي الإنارة الملونة في مواقف ثلاثة:

ومع وقع خطواتها يتوهج ضوء أرجواني على الخلفية يقابله ضوء أخضر:

 ص- 55

تمويج الإضاءة الخلفية وإضافة اللون الأخضر: ارتباك الحالة العامة في انتظار الأمل الأخضر.

تتوهج أضواء بسرعات خاطفة على الخلفية: ص- 58

تصوير حالة الحرب والهيجان المصاحب لها.

تتوالد ألوان العلم العربي على الخلفية بالإضاءة: ص- 101

شمولية الأحداث والتعبير عنها بالأعلام العربية مستغلا الأضواء.

ما هذه الإشارات إلا تأكيد آخر للفكرة الرائجة في مقالنا ( سلطة العرض في ذهن المؤلف). ولا يمكننا الحديث في هذا المجال عن الموسيقى لأن المسرحية ككل غنائية والغناء مصاحب ضروري للموسيقى، لذا فلا أعتقد أن يفوت الأمر المؤلف، بقدر ما هو إبراز للدور نفسه في إطار المزاوجة بين الشعري والغنائي. أما عن الملابس فقد عبر تصريحا في أول المسرحية كون الشخصيات حاملةً لرسالة تاريخية تصاحب نفسها والملامح الجسدية والنفسية التي تتوزع أدوارها. لذا فمن الواجب أخذ كل الاحتياطات التي تنشئ هذا التمازج والتناسب.

إن الحوار ووظائفه التي بيناها في عجالة تستدعي الوقوف طويلا لا يسمح المجال لها حينا، ويسعفنا القول الموجز الذي تبنيناه في بداية المقال، وهو إبراز بعض جماليات الخلق المسرحي بعيدا عن الاستطرادات الخاصة بالأحداث لأن في مجملها في هذا النص أحداث تاريخية، لكن الجميل فيها الكيفية التي قُدِّمت بها مستغلا فيها خالد محيي الدين البرادعي جماليات المسرح من حوارات متعددة إلى إنارات معبرة، فملابس موحية بتاريخية الأحداث، إلى تعريف بالشخصيات من خلال تحقيق وظيفة الحوار، ولا ننسى غنائية المسرحية أو ارتباطها بالشعر. كل هذه الخصوصيات تبعد القول إن المسرح الشعري تنقصه الحركة أو لا يضيف شيئا على المسرح بتبنيه المواقف الشعرية الموزونة، أو لنقل البحث عن موسيقى الشعر وإهمال ما هو مسرحي. فحين نقرأ تتابعا الأسطر الشعرية في المسرحية" عرس الشام" ( وفعلا هو عرس لما انتهى إليه من فرح شعبي بالاستقلال) نحس بنوع من الترابط اللفظي الذي يشد بعضه بعضا منتجا الفكرة صياغة وتركيبا وموسيقى..

              

1 - يونس الوليدي: التحليل الدراماتوجي للنص المسرحي، مجلة المدرس، س- 2 ، 1998، ص- 70.

2 - المسرحية، (م- س)، ص- 22

3 - نفسه، ص- 32

4 - نفسه، ص- 40

1 - المسرحية، ( م- س) ، ص- 22

2 - نفسه، ص- 102

1 - يونس الوليدي: ( م- س)، ص- 68-67.

2 - البرولوج: حوار المقدمة، الإيبيلوج: حوار الخاتمة، المونولوج: الحوار الداخلي، انظر المرجع السابق، ص- 68.

3 - المسرحية، (م – س)، ص- 13-12.

4 - نفسه، ص- 104.

1 - المسرحية: ( م- س)، ص- 43.

2 - نفسه، ص- 80.

3 - نفسه، ص- 99.

1 - المسرحية: (م- س)، ص- 12.

2 - نفسه، ص- 22.

3 - الصفحات- 95- 88- 86- 71- 58- 53- 52- 32- 27.