الوحدة الفنية في سورة العاديات
الوحدة الفنية
في سورة العاديات
د. كريم الوائلي
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ، إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود ٌ، وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيد ، أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُور ِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُور ِ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ.
تتكون السورة الكريمة من ثلاثة مقاطع وخاتمة ، على الرغم من وحدتها المتكاملة والمنسجمة التي تعرض جملة من المشاهد في الحياة والنفس والمعاد. وأفردت السورة الكريمة لكل مشهد منها عدداً من الآيات يكوّن المقاطع التي أشرنا إليها ، ويمتاز كل واحد منها بميزاته الفنية الملائمة لطبيعة المشهد المعروض ، وهو يتباين مع بقية المشاهد ويلتقي معها في آن ، ولقاؤه في كونه لبنةً أساسيةً في بناء السورة الكريمة في عرض المشاهد الحياتية والأخروية المتكاملة ، وتباينه في أنَّ كل واحد منها يعرض مشكلة عميقة شغلت العقل البشري ردحاً طويلاً من الزمن وما تزال.
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا،فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا،
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا.
هذا هو المقطع الأول من السورة الكريمة الذي يعرض مشهداً من مشاهد الحياة الصاخبة المليئة بالحركة والتنامي ، من أجل العيش مرةً ، ومن أجل السيطرة والاستيلاء مرةً أخرى ، ومن أجل نشر فضيلة أو ردّ ظلم أو جور مرةً ثالثة. وقد دقق في اختيار الزمن بل الوقت ، وهو الصباح ، وعلى وجه التدقيق الزمن الذي بدأت فيه الأشياء والأجسام بوضوح من خلال ظلمة الليل المتبددة ، بعد أنْ انتشرت خيوط الفجر
« فالمغيراتِ صُبحاً » هكذا يبتدئ المقطع بمشهد حياتي فيه وقت الصباح بداية لحياة يوم جديد ، أما لماذا اختير وقت الصباح ؟! ألأنه تنفس الحياة بيوم جديد وسعي الناس وتكالبهم من أجل إشباع النهم المادي البخس ؟ أم أنه الغزو ؟ وإنْ كان غزواً فإنه يصدق لتحقيق طموح الإنسان لإشباع هذا النهم المرعب ، إذ اعتادت العرب الغزو مبكرة مع الصباح لتنال من أعدائها النصر..بل لتنال إشباع جوعها المادي والنفسي على صعيد اللقمة والثأر.
والغزو يتم بحركة سريعة خاطفة من خيول سريعة العدو «والعادياتِ » وقد امتطاها فرسان يغذونها السير وهي جادة فيه حتى أمكنك سماع ضباحها وهو ما تسمعه
« من أفواهها صوتاً ليس بصهيل ولا حمحمة » [1] أو هو« تصويت جهير عند العدو الشديد ليس بصهيل ولا رغاء » [2]وحوافر الخيل تصك الأرض الترابية المليئة بالحصى فيحدث فيها أمران: غبار كثيف يلف الجو مما يعيد له شيئاً من ظلمته المبددة تارة، ويؤدي
من ثم ، إلى اختفاء الخيول فيه تارة أخرى ، والأمر الثاني حدوث شرر من وقع حوافر الخيل على الأرض الترابية التي تناثر فيها الحصى.
وفي هذا الصخب الهائل من سرعة عدو الخيل وضباح أصواتها ، وظلمة الجو بغبار كثيف ، ووميض الحجر من حوافر الخيل له... تبدأ معركة الحياة التي تتجدد كل يوم لإشباع الجوعين المادي والنفسي حيث تحتدم الخيول مع أخريات لتدور المعركة الطاحنة من أجل أهداف الإنسان التي يصبو لتحقيقها مهما اختلفت وتعددت وتباينت.
وأود أنْ أشير إلى تكرار الفاء في هذا المقطع بالذات وهو« حرف عطف يكون للترتيب والتعقيب... بلا مهلة » [3]حيث يتمم المشهد الواقعي لاستمرارية الحركة ووجودها على الدوام بالترتيب والتعقيب المنسجم دون مهلة مع تدفق المشهد وإعادته من
جديد ، وكأنه شاهد على استمرارها في كل العصور والأزمان ، حيث يتكرر مشهد الخيول الغازية المتدفقة ، ويتكرر مشهد تعالي الغبار الكثيف وقدح الشرر، ويبدو أنَّ الخيول لم تكن حشداً واحداً ولكنها مجموعات متتابعة ، ما إنْ تصل هذه وتذهب حتى تعود الأخرى ليتجدد المشهد وتتواصل الحركة السابقة ، ثم تبدأ المجموعة التالية من حيث انتهت الأولى وهكذا في حركة مستديمة من أجل الصراع على الحياة وإشباع الجوع.
هذا على صعيد المشهد الحسي ، أما على صعيد الإيقاع فأمر آخر لا يقل أهمية بل يتمم المشهد ويزيد من روعته ، والمقطع في السورة الكريمة يتميز بفقراته القصيرات المكونة من كلمتين ، وهي تمتاز بشدة الإيقاع وتوازنه ، حتى إننا نجد الموازنة تكاد تكون تامة بين الألفاظ : العاديات ، والموريات ، والمغيرات ، وضبحاً ، ونقعاً ، وجمعاً.
كما أنَّ الآية الكريمة مساوية للأخرى في الوزن :
والعاديا / ت ضبحا
مستفعلن فعولن
فالموريا / ت قدحا
مستفعلن فعولن
وهذا الوزن« مستفعلن فعولن » هو مجزوء الرجز ، والرجز اشتداد في الموسيقى وسرعة في ضرباتها وحركتها الصاخبة الوثابة ، ويكثر استعمال الرجز في مثل هذه المواقف لملاءمته لها وانسجامه معها ، وهذا يتلاءم مع طبيعة المشهد ليتم الانسجام. كما أنَّ الآية الكريمة قد استغنت بلفظة « به » في« فأثرن به نقعاً فوسطن به جمعاً » استغنت بهذه اللفظة عن أخرى غيرها أو أخريات فيما لو حاولنا حذفها ، كما أنَّ المأتي به لا يحقق النغم الموسيقي الملائم للمشهد الحسي والصورة المتحركة ، ولو حذفنا لفظة« به » ما استطعنا لاختلاف الوزن والإيقاع الموسيقي في الآية ولأصبحت هكذا« فأثرن نقعاً فوسطن جمعاً » وقد لاحظت الصوت النشاز الذي صدم مشاعرك بمجرد حذف هذه اللفظة ، والأمر كذلك إنْ حاولنا وضع أخرى محلها أو أخريات ، وكأنَّ هذه اللفظة لا يصلح غيرها محلها.
إنَّ ما تختم به الآيات الكريمات في هذا المقطع أي الفاصلة ، وهي اللفظة الثانية في الآيات الثلاث الأولى ، والثالثة في الآيتين الأخيرتين.. هو الحاء والتنوين ، ضبحاً وقدحاً ، وصبحاً ، والعين والتنوين ، نقعاً ، وجمعاً ، وهذه الألفاظ تهب الآيات إيقاعا فنياً متفرداً ورنيناً موسيقياً ، وروعته بما فيه من حركة الخيول ، وضباح الأصوات وقدح الأرض.. إنه صوت صاخب متزن ومتساوق مع الإيقاع الكلي للسورة بشكل منتظم بتوالي الحركات والسكنات. وتساوق الإيقاع هذا ينفذ تأثيره إلى الأعماق عبر السمع في صور متعددة يرافقه انفعال نفسي وآثار جسمية خاصة ، وقد اثبت علماء النفس الموسيقي
ما للإيقاع الموسيقى من أثر في الإنسان وعقله الباطن ومن ثم في سلوكه.
وحين نقرأ« والعادياتِ ضبحاً » يظهر الإيقاع الترنمي ، ويختفي الإيقاع الترنمي الآخر من الآية الكريمة التالية« فالمورياتِ قدحاً » وكأنَّ ضربات الإيقاع موجات ماء القي فيه حجر ، ما انْ تنتهي هذه الموجه حتى تأتي الأخرى بتعاقب وانسجام دقيقين..أو كعامل مطرقة هوى على سندانه بتوازن زمني محدد فتحدث مطرقته رنيناً يمتزج مع الأول الذي ما زال مستمراً ، ومما يدل على تمازج الأصوات في المعركة مجيء التنوين المتبوع بالفاء لتحصل عملية الإخفاء المعروفة في اللغة :
والعاديات ضبحن ن ن ن فالمور...
فالموريات قدحن ن ن ن فالمغيـ...
فالمغيرات صبحن ن ن ن فأثر....
وكذا الأمر مع الآيتين الأخريين
فأثرن به نقعن ن ن ن فوسطن....
فوسطن به جمعا...
واستمرار الإيقاع النغمي يتلاءم كل التلاؤم مع طبيعة المشهد الحسي بحركته الوثابة المجسمة التي صورها لنا المقطع في سرعة وتكرار للمشاهد.
والملاحظة العامة في هذا المقطع في السورة الكريمة خشونة وفرقعة وطبل متناسق متزن ، وكأنك تقفز وتركض مع طبل موسيقاها الرتيب العالي ، وعلى الرغم من هذا فليس في هذا النغم أي خلل أو قطع يخدش السمع فضلاً عن أنه منسجم مع طبيعة العرض
الذي يتطلبه مقطع السورة من حث للخيول الراكضة الضابحة وقدحها للأرض بحوافرها وتعالي الغبار الكثيف الذي يلف الجو.
إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ،وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ،
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ.
يعرض هذا المقطع جملة من الحقائق العامة المسلم بصدقها باعتراف الإنسان نفسه وفيه عرض لنفسية الإنسان إزاء الخالق الكريم ، وهو عرض يوضح حقيقتها ، وقيمتها ، هذه النفسية المادية الجشعة التي يمكنها أنْ تتسامى من الحضيض المادي إلى أسمى غايات الكمال الإنساني ، والمقطع يعرض صورة هيكلية للإنسان النوع بجحوده وكفره لبارئه الكريم على الرغم من إقراره بذلك ، واعترافه بصفته هذه ، وتكالبه على حب الخير.
وينتقل المقطع من الحركات الجسدية والحسية إلى الانفعالات العميقة الضاربة في أعماق الإنسان ، وفيه من المصارحة والكشف عن مجاهل النفس البشرية المعقدة التركيب والمعقدة الجوانب وعرضها بفكر عميق وأسلوب سهل لا تعقيد فيه.
وتختلف الآيات في هذا المقطع عن الذي سبقه في الصورة الأدبية والنغم الموسيقي ، ويلاحظ ذلك بيناً في المفردات المستعملة في الآيات ، ففي حين تكون الآيات في المقطع الأول من السورة الكريمة آيات قصيرة تتكون من كلمتين ، تمتاز بسرعة الإيقاع وضرباته المتتالية نجدها في هذا المقطع تزداد طولاً ونفساً ، وينتقل التعبير من جو حسي تتجسد فيه الصورة الفنية حية يقظة وثابة إلى جوٍ مناجياً النفس وداعياً للتأمل ، وتبرز ظاهرة التجرد بوضوح في هذه المشاهد الوجدانية ، وكأنَّ طول الآية جاء طبيعياً ليدع للإنسان وقتاً أطول للتأمل والتفكير.
كان هذا المقطع انتقالا« من مشهد واقعي من مشاهد الحياة إلى التأمل في نفسية الإنسان ومن الصورة الحسية النابضة إلى التأمل الباطني والتفكير النفسي ، ومن الصور الحسية إلى الحقائق المجردة النفسية » [4]، ويمتاز المقطع بأنه« أطول نفساً واكثر مدوداً وكأنه يشير بمدوده إلى التأمل الطويل والهدوء النفسي ، وتختلف كلمة الفاصلة في هذا القسم اختلافاً كبيراً في جرسـها الموسيقي عن فاصلة القسم الأول ، كنود شهيد ، شديد »[5].
وتنتهي الآيات بهذه الفاصلة الموزونة التي تحمل إيقاعاً خاصاً يكون خاتمة النغم الموسيقي ، وهو تكرار للمشهد الذي وصفناه في المقطع الأول بموجات الماء الذي ألقي فيه حجر ، وسندان العامل الهاوي عليها طرقاً ، الا انها موجات وطرق من نوع آخر يتخذ إيقاعا أطول وأبطأ في الوقت نفسه، ويتحول الصوت من الصخب والقرع إلى رنين ودندنة تنسجم كل الانسجام مع طبيعة العرض المطلوب ، من مناجاة للنفس ودعوة للتأمل ، إنه هدوء وانسجام تنفذ ألفاظه بأنغامها وإيقاعها إلى الأعماق وبإمكاننا تلمس هذا الهدوء والانسياب إذا رتلنا الآيات الكريمات بصوت منخفض مهموس نطيل فيه الواو والياء في تلفظنا« كنود ، شهيد ، شديد ».
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ.
هذا المقطع نقلة مفاجئة للتفكير الإنساني من واقع الحياة والنفس إلى عالم آخر غريب مجهول ، وضعت الإنسان بما فيه من طموح وغرور وتكبر على محك المحاسبة العسيرة ، والغرابة في صخب هذه النقلة المفاجئة التي تشير من بعيد إلى نتائج وثمار البعثرة والتحصيل التي تتفاوت اطراداً مع نسبة التلقي الإلهي والتنفيذ ، إذ إنَّ العلاقة بين الإنسان الفرد والخالق هي علاقة تلق يتبعها تنفيذ ، وفي ضوء ذلك تتفاوت الثمار بعد البعثرة الكونية الشاملة والتحصيل القسري لمكنونات النفس البشرية.
وبعد أنْ مرت السورة بمرحلة اللهاث والصراع من أجل إشباع الجوع الإنساني ومرحلة عرض الحقائق الإنسانية العامة بأسلوب نفسي هادئ.. تعود السورة الكريمة إلى الحركة والصخب..وهي حركة مدهشة ومذهلة.. ومشاهد مروعة ، إنها حركة انقلاب دائم وتغير مستمر يشل عقل الإنسان ويتركه فاغراً فاه.
ويعرض المقطع بصورة إيحائية خاصة للموت ، وهو سر ملغز وحقيقة واقعة وضرورة كلية من ضروريات الكون والوجود والحياة ، ومعرفتنا به محدودة ليس في وجوده ولكن في تحديد ما هيته وكشف مجاهيله ، وهذا عائد لافتقارنا لتجربة حية للموت إذ يكتنفه الغموض ، ومن عاش تجربة الموت هذه تعذر علينا سماع رأيه فيه ، لأنه قد مات ، ويبدو من خلال آثارها أنها تجربة فيها من النـزع ما يؤذي الإنسان ويسقمه ، ناهيك ما في مجرد التفكير فيها من أثر على الإنسان الفرد. والناس إزاء الموت ثلاثة أصناف :
منهم من لا يعرف الموت ولا يشعر به ، لكنه سيقع يوما تحت طائلته.. ولعله شمل بقوله تعالى« خَتمَ الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غِشاوةٌ ولهم عذابٌ عظيم » [6]وصنف لا يرى فيه لغزاً بل حدثا طارئاً لأنه يراه في حدود حياته الحسية المادية
« إنْ هي إلاّ حياتُنا الدنيا نموتُ ونحيا وما نحن بمبعوثين » [7]وصنف قد يدرك الموت ويشعر به، وربما يحلل بعض ألغازه ، وهم قلة، منهم الاشراقيون والروحانيون والزهاد والمفكرون.
والمشهد يتصل ببعثرة القبور التي وصف ساكنيها الإمام علي «ذهبوا في الأرض
ضلالاً، وذهبتم في أعقابهم جهالاً ، تطأون في هامهم، وتستثبتون في أجسادهم ، وترتعون
فيما لفظوا » [8]وما أكثر القبور منذ أنْ جاء الله بالخليقة إلى يومنا هذا ، هذه القبور الدارسة والمالئة الرحب بمجرد إشارة تتبعثر ، والبعثرة عملية تفريق وتبديد وقلب الشيء بعضه على بعض [9] ، إنَّ لفظة «بعثر » تتميز بإيقاعها الخاص وما فيها من حروف ، الباء الانفجاري ، والعين التي تأتي من آخر الحلق ، والثاء الثقيلة ، والراء التي يرتطم اللسان عند النطق بها بالحنك الأعلى عدة مرات ، فاستخدام هذه اللفظة بجرسها الخاص وفي هذا المشهد بالذات أعطى للصورة مشهداً أعنف.. وكأنَّ ارتطام اللسان بالحنك الأعلى عدة مرات يؤدي صورة لتكرار مشهد البعثرة.
وهذا التحصيل« وحُصّل ما في الصدور » الذي يحدث بصورة فيها قسر وإكراه والذي يلفت النظر وجود ثلاث صادات ، الصاد المشددة في حُصّل وصاد الصدور.. تعطينا إيقاعا يوحي بعملية التحصيل القسري لدخائل الإنسان ، ثم انَّ الآيتين تنتهيان بصوت طويل بنغمه وإيقاعه« قبور ، صدور » وهذا شيء طبيعي يصور الإنسان فاغراً فاه أمام مشهد من البعثرة الهائلة والتحصيل القسري لخفايا الإنسان التي عمل المستحيل من أجل إخفائها ، والمرء بطبيعته يميل كلامه إلى اللين والمد في حالات الدهشة والاستغراب ولذا جاءت« قبور ، وصدور » بهذا الشكل من المد.
إنَّ السورة الكريمة بمقاطعها الثلاثة مشاهد مروعة ومفزعة من حركة الحياة الصاخبة والصراع فيها من أجل العيش إلى وضع الإنسان أمام حقيقته وقيمته سواء أكان أمام خالقه أم الوجود أم موقفه من عناصر الحياة المتعددة ، ومنها الخير الذي يتكالب عليه الإنسان.. إلى المشاهد المروعة المفزعة ، مشهد بعثرة القبور الحسي والتحصيل القسري لخفايا الإنسان ودخائله ، كل هذه المشاهد سحق لتفكير الإنسان وشد لمشاعره ، حيث تضع الإنسان في دوامة غريبة من التفكير يعيش فيها تائهاً متخبطاً.
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ
وتأتي الخاتمة لتأخذ بيده لتنقله من محيطه الجاهلي إلى حياة النور.. إلى شاطئ الأمان« إنَّ ربهم بهم يومئذ لخبير » وتوكيد هذه الحقيقة ظاهر بأن واللام المقترنة بالخبر«لخبير » توكيد من الله سبحانه وتعالى على صعيدي العقل وبناء الآية اللفظي ، وفي هذه الآية حقيقة مهمة مؤداها : اننا حين تمر بنا مشكلة أو تلم بنا مصيبة لا نجد طريقا غير الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى ، ولكننا على الرغم من هذا نتأفف ونـزفر الآهات ووجود هاءين متقاربتين في الآية توحي لنا بتهدئة النفس بعد الترويح المخيف المتعب للذهن بصورته وصخبه الممزق ، ويبدو أنَّ الهاءين جاءتا لينفث الإنسان قليلاً من زفيره وتأوهاته يضاف إلى هذا وجود ثلاثة ميمات في الآية الكريمة تساعد على إدخال الدفء إلى الجو النفسي المضطرب بحفيفها وغنتها الهادئة ، وتنقل الإنسان فكرياً ونفسياً إلى حيث تطمئن نفسه.
ويتجلى في السورة الكريمة عنصر« القوة » بما سخر الله للإنسان من دواب ونبات.. والبيئة التي يعيشها الإنسان تراباً كانت أم حجراً قوة أخرى..والإنسان بحد ذاته قوة خارقة للعادة !! قوة بجسده..وقوة بنفسه.. وقوة بعقله وتفكيره.
وهذه القوة على تعددها وتباين أنواعها« نعمة » وضعت في خدمة الإنسان لغاية نبيلة أرادها الله له ، تخدمه وتحقق له سعادته وبإمكان الإنسان استغلال هذه القوة في غير ما أريد لها فتتحول من غايتها المبتغاة، وتتحول من ثم وسائل العمل لها فتنقلب إلى «نقمة»..وبتحول النعمة إلى نقمة تتحول الوسيلة إلى خسارة للفرد وخسارة للمجتمع.
والسورة الكريمة تعرض مظاهر متكافئة من القوة« النعمة » التي غيرها الإنسان إلى« نقمة » لاختلاف الغايات التي حددت لها وسائل أخرى أرادها الإنسان له... فالصراع المادي من أجل الحياة هو نتيجة طبيعية لمجموعة من القوى« النقمة » والصراع النفسي من أجل إشباع الجوع فحسب نتيجة أخرى لمجموعة ثانية من القوى « النقمة».
وهذان الصراعان المادي والنفسي برغم عظمهما وكبرهما بما يستندان عليه من القوى الضخمة ذرة تائهة في تقدير الله.. لأنَّ النتيجة الطبيعية لهذه القوى« النعمة النقمة» نهاية لها ، نهاية للوجود والكون والحياة.. بالبعث.. والبعث نعمة ونقمة في الوقت نفسه.
هذا على صعيد القوة« النعمة » و« النقمة » أما على صعيد الوحدة فالوحدة في القرآن شكل من أشكال الوحدة في الكون والوجود والحياة ، والسورة الكاملة وحدة متكاملة تضافرت فيها عوامل عدة منها
عناصر مادية وحسية..
عناصر نفسية..
مشاهد غيبية..
إحاطة وشمول لكل هذه العناصر وبضمنها الإنسان القوة الخارقة للعادة !!
والفصل بين العناصر المتضافرة ليس مستحيلاً ولكنه يفضي إلى ضرب من التيه الفكري فهي أما أنْ تؤخذ جملة أو تترك جملة.. لأنَّ الاستعاضة بإحداها دون الأخريات يحولها من« نعمة » إلى « نقمة » ويمزق وحدتها ويفقدها قيمتها.
إنَّ فكرة « السلب » متوافرة في السورة الكريمة ، سلب على الصعيد المادي في الغزو ، وسلب على صعيد النفس بكنود الإنسان وحبه للخير.. وسلب في النتيجة التي يصل اليها الإنسان بعد البعث ماديا ونفسيا.
وعناصر« القوة » و« النعمة » و« النقمة » و« الوحدة » و«السلب » مهما تفاوتت فإنها تلتقي في حقيقة واحدة لأنها تستقي من منبع واحد ، ومهما قيل فيها فإنها تدور حول حقيقة واحدة هي الله.
[1] ـ ابابن منظور ، لسان العرب ، مادة : ضبح.
[2] ـ أبو حيان الاندلسي ، البحر المحيط ، مادة : ضبح.
[3] ـ مصطفى الغلاييني ، جامع الدروس العربية ، 2/247.
[4]font> ـ محمد المبارك ، دراسة أدبية لنصوص من القرآن الكريم ، ص 15.
[5] ـ ـ نفسه ، ص 18 ـ 19.
[6] ـ سورة البقرة ، آية : 7.
[7] ـ سورة المؤمنون ، آية :37.
[8] ـ محمد عبده ، شرح نهج البلاغة ، 2 / 204.
[9] ـ ابن منظور ، لسان العرب ، مادة : بعثر.