البحر
(في ديوان العرب)
أ.د/
جابر قميحةمن الحقائق التي حملها إلينا التاريخ ، وسرت مسرى الأمثال قولهم " العرب أمة شاعرة " ، وكذلك قولهم " الشعر ديوان العرب " . ولا مبالغة في ذلك : فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم ومسيرة حياتهم .
**********
عزيزي القاريء في هذا الجو الحار أعتقد أنك توافقني على أن نعيش في البحر ، وما قاله فيه الشعراء . واسمح لي أن أبدأ بما قيل في البحر من شعر حديث ، فعلي محمود طه يقول من قصيدة " الملاح التائه" :
أيـهـا الـهـاجر عز أدرك الـتـائـه في بحر الهوى وارع فـي الـدنيا طريدا شاردا ضـل فـي الليل سراه ومضى فـاجـعـل الـبحر أمانا حوله وامـسـح الآن عـلـى آلامه وقُـد الـفـلـك إلى بر الرضا | الملتقىوأذبـت الـقلب صدا قـبـل أن يقتله الموج صراعا عنه ضاقت رقعة الأرض اتساعا لا يُـرى فـي أفـق منه شعاعا وامـلأ الـسهل سلاما واليفاعا بـيـد الرفق التي تمحو الدماعا وانـشر الحب على الفلك شراعا | وامتناعا
ومطلع القصيدة:
أيها الملاح قم واطو الشراعا
لِم نطوي لجة الليل سراعا ؟**************
ومن قصيدة له بعنوان " إلى البحر " :
ذلـك الـبـحـر هـل تشاهد ظـلـمـات مـن فـوقـها ظلمات لا تـرى تـحـتـهـن غير وجود * * * ويـك يـا بـحر ما أنينك في الليـ امـض حـتى ترى المدائن غرقى امـض عبر السماء واطغ على الـ ذاك أو يـهـتـك الـظلام دياجيـ وتـرى الـشـمس في مياهك تلقي | فيهغـيـر لـيـل من وحشة تـتـرامـى بـالـمـائج الصخاب مـن عـبـاب وعـالم من ضباب * * * ل أنـيـن الـمـروع الـهـيـاب وتـرى الـكـون زخرة من عباب أفلاك واغمر في الجو مسرى العقاب ه ويـنـضـو ذاك الـسواد الكابي خـالـص الـتـبر واللجين المذاب | واكتئاب
***************
واسترسالا مع هذا التصوير الرومانسي الأخاذ الذي يعتمد بصفة خاصة على ظاهرة التشخيص يتحدث علي محمود طه عن الشواطيء المصرية ، فمما قال :
صـور فواتن يا شواطيء فـتـنـظـريه على شعابك مثلما كم ظل يضرب في صخورك موجُه فـخذي الحديث عليه واستمعي له | صاغهالـك ذلـك الـبحر الصَّناع رجـع الـغـريب إلى حماه وفاء مـمـا أجـن مـحـبـة ووفـاء كـم مـن جـمـاد حذث الأحياء | رواءَ
***************
ونرى أمير الشعراء أحمد شوقي يخاطب البحر الأبيض المتوسط قائلا :
أي الـمـمـالـك يـا أبيض الآثار والصفحا إن البيان ، وإن حسن الـ أبـدا تـذكـرنـا الـذي وبـنـوا مـنـارك عاليا وتـحـكموا بك في الوجو حـتـى إذا جـئـت الأنا والـيـوم عـق كـأنـما فـابـلـغ فـديتك كل ما | أيـهـافي الدهر ما رفعت شراعك ت ضُـيـع مـن أضاعك عـقـل مـا زالا مـتاعك ن جلوا على الدنيا شعاعك مـتـألـقـا وبنوا قلاعك د تـحـكـما كان ابتداعك م بـأهـل حكمته أطاعك يـنسى جميلك واصطناعك ئـك فالملا ينوي ابتلاعك |
***************
ومعذرة أيها القاريء أن نترك الشعر الحديث الأن . ونمضي إلى عشرات القرون السابقة ، فنقرأ لأمير شعراء الجاهلية امريء القيس :
وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
وقال شاعر آخر في حبيبته:
ولو تفلت في البحر والبحر مالح لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا
ونحن نرفض هذا التصوير لسببين :
1-
عبارة "والبحر مالح" تزيد لا قيمة له .2-
أنه يظهر الحبيبة في منظر مقزز وهو التفل والبصق.وأنا أقترح أن تكون الصياغة كالآتي :
ولو أن ماء البحر لامس ثغرها لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا
**********
وقال أحد الشعراء القدامى :
يلا م أبو الفضل في جوده وهل يملك البحر ألا يفيضا؟
وقال آخر مادحا :
هو البحر إلا أنه عذب مورد وذا عجب أن العذوبة في البحر
ولابن الرومي تشبيه رائع نراه في قوله :
دهر علا قدرُ الوضيع به وهوى الرفيع يحطه شرفهْ
كالبحر يرسب فيه
لؤلؤه سفلا ويعلو فوقه جيفُهوفي بيت آخر يقول :
ألا فارجه واخشه إنه هو البحر فيه الغِِنى والغرقْ
وقال آخر :
كمثل البحر يغرق فيه حي ولا ينفك تطفو فيه جيفهْ
ويمدح المتنبي كافورا الإخشيدي قائلا :
قواصد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا
ويقول عمرو بن كلثوم في ختام معلقته :
ملأنا البر حتى ضاق عنا وظهر
البحر نملؤه سفيناألا لا
يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا***************
ونعود للعصر الحديث فنرى خليل مطران وقد اشتدت به الأزمات النفسية لا يجد من يشكو إليه إلا البحر ، فنراه يسيطر على ابياته نهج الرومانسيين من تشخيص ومزج بين النفس والطبيعة إلى آخره ، فيقول في قصيدة له بعنوان " المساء" :
إنـي أقـمـت على التعلة عـبـث طـوافي في البلاد وعلة مـتـفـرد بـصـبـابـتي متفرد ثـاو عـلى صخر أصم وليت لي يـنـتـابـها موج كموج مكارهي شاك إلى البحر اضطراب خواطري والـبـحـر خفاق الجوانب ضائق | بالمنىفـي غـربـة قـالوا تكون فـي عـلـة مـنـفـاي لاستشفاء بـكـآبـتـي مـتـفـرد بعنائي قـلـبـا كـهذي الصخرة الصماء ويـفـتـها كالصخر في أعضائي فـيـجـيـبـني برياحه الهوجاء كـمـدا كـصدري ساعة الإمساء | دوائي
**********
ونختم هذه الحلقة من ديوان العرب بما قاله الشاعر طاهر زمخشري في قصيدته " أنشودة الملاح " التي يهديها لعلي محمود طه صاحب ديوان " الملاح التائه " :
الـدجـى بـحر وقلبي والـمـجـاديف بكف بضةٍ وصفير الريح نايٌ والصدى والـسماء الصحو في زرقتها وأنـا الملاح يجري زورقي وصدى الذكرى بنفسي مِرجلٌ فـمـتى ترسو سفيني إنني | فلكهوشـراعي من نسيج تـلـطم الموج بعزمات قوية يـمـلأ الأجواء أنغاما شجية مـقـلـة ترقب دنيا البشرية حـامـلا أشباح أيامي الشقية عـاش حتى بالأماني الذهبية حـائـر سـارٍ يريد الأبدية | الأبدية
**********
عزيزي القاريء إن البحر والوقوف أمامه يحتاج أكثر مما كتبنا بكثير ، ولكننا حرصا على الإيجاز نكتفي بما قدمناه . وإلى اللقاء على حق وخير في حلقة أخرى من ديوان العرب .