قراءة في قصيدة
"جميلة(1) تصلي"
1958
لشوقي بغدادي(2)
حسين عتروس - ليون
الفصل الأول: مشاهد
المشهد الأول: الشهود
في بداية القصيدة و في مطلعها نقرأ مقطعا يكاد يعاد بأكمله في المقطع الأخير
ففي أولها نقرأه هكذا:
" تنظر من شباكها الصغير
في سجنها المملِّ
كأنها تصلي
و قلبها الكبير
يدق مثل ساعة ضخمه
تعيد في تكرارها كلمه
ترن في عالمنا الملتاع
يا إخوتي الوداع
الوداع... الوداع"
وفي آخر مقطع من القصيدة نقرأ
"جميلة تصلي
في سجنها المملِّ
وقلبها الكبيرْ
يدق مثل ساعة ضخمه
تعيد في تكرارها كلْمه
ترن في عالمنا و تصدحُ
يا إخوتي افرحوا…"
المقطعان – تقريبا – بنفس الكلمات، ولكن ليس بنفس الروح، فإذا كانت نهاية المقطع الأول "الوداع" فإن نهايته في الأخير "إفرحوا"، فالكلْمتان من جميلة تخاطب بهما أحبتها و رفاقها ...
و إذا كانت في المقطع الأول "كأنها تصلي" فإنها في الأخير "تصلي"...
و إذا كان البيت من المقطع الأول جاء:"ترن في عالمنا الملتاع" والعالم جاء موصوفا باللوعة فإنه في الأخير جاء: "ترن في عالمنا و تصدح" فالعالم جاء مرصوصا بين كلمتين خفيفتين من إعلان البهجة والفرح وهما "ترن" و "تصدح"
وهما صوتا النشيد والطيور...
هنا يمكننا أن نقول: أن القصيدة رافقت جميلة في سجنها و عايشتها محنتها و رحلتها الصوفية...
فهي إذ كانت تطل من شباكها الصغير، وهو حال ممل ومضجر للأحرار، لكن هذا الشباك الصغير من المقطع الأول يختفي في المقطع الأخير، لأن الترقي قد تمَّ و الإنفتاح على العالم بالبصيرة قد حدث، فالرؤيا تبدلت إذ كانت بصرية و أصبحت في الأخير بصيرية...
فقد كانت دقات القلب مثل ساعة ضخمه، دقات أسى على فراق الإخوان وهجر الرفاق في المقطع الأولِ، لتصير في الأخير دقات قلب مملوء بالفرح و البهجة.
وقلبها الطاهر لم يعرف في تلك اللحظات إلاّ نوعين من الدقات؛ دقات الشوق للإخوان والأسى على فراقهم، وفي الأخير دقات الفرح، وبين هذين لم تعرف دقةً للخوف و لا للندم...
في مقام مقطعها الأخير جميلة في عالمها المستور و الروحي فرحة...
فقد تحققت لها الرؤيا و تمت المكاشفة، ولكن هل هي رؤيا الشهادة " و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموتا بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله..."(3) أم هي رؤيا كفلق الفجر أن الشمس ساطعة وأن النصر لقريب "أليس الصبح بقريب"(4) .
ومها يكن هذه أو تلك أو هما معا، فإن المكاشفة قد تمت، وبعد الوقوف على الباب قد أذن لها بالدخول في عالم الملكوت المستور...
ولكنها جميلة هل ترضى بأن تعيش لحظات الفرح وحدها و هي التي نذرت نفسها للوطن والأمة كلا ّ" يا ليت قومي يعلمون"(5) " يا إخوتي افرحوا... يا إخوتي افرحوا".
والسجن في كلا المقطعين موصوف بأنه "ممل" وهو إحساس الحر الذي ألف الحرية، ولكنه لا يكسر عزيمتها و لا يقهر إرادتها في التحرر و النضال و ولكنه مضجر مهما كان...
ولكن هذا المكوث به رغم أنف الحرة سرعان ما يتبدل في رحلتها الروحية، فهي ترقت من " كأنها تصلي" إلى منازل الصديقين " تصلي" و بذلك قهرت غربتها به و لوعتها على إخوانها... فكان النداء من وهج المكاشفة و نور الترقي"يا إخوتي افرحوا يا إخوتي افرحوا".
إستطاعت القصيدة بهذا الحلول التام مع جميلة والترقي معها في مقامات العاشقين و الثائرين أن تُبْدل كلمة "الملتاع" و تحذفها لتترك المكان لـ"تصدح" و "ترن"... فالحقيقة قد تبرجت في زوايا سجنها الممل و رُفعت الأستار و أشرقت أنوار الحق " عرفت في عذابك الحقيقه".
فهي ليست مهزومة و لا خاسرة حتى يأسى عليها الناس، إذن هو الصدح الذي أرادت أن تعلنه في تحليقها مع الطيور صوتا سماويا و نشيدا مطلقا...
المشهد الثاني: العار
و يتكون من المقطع الثالث و الرابع، و هما مقطع واحد في نظري لأن الرابع تداع لكلمة "الجبين" التي ختمت المقطع الثالث، حتى أنّا نجد سند هذا التداعي يعاد في الرابع " لو مت يا جميله".
فالعار هو الكلمة التي تشكل نقطة المحور في هذا المشهد، و تدور حوله ثلاث كلمات :
-الأرض: ويتجلى منها الجبال و الماء
-التاريخ:
-و الجبين:
العار : "فكيف يستطيع أن يحدق الرجال
بعضهم في أعين بعض"
العار: "و أن كل عين
ستغرق في العار الذي نزل
وتطبق الأجفان من خجل"
العار: "كيف تُرى سنمسح العار عن الجبين"
العار: هذه الكلمة المحملة في ضمير كل عربي بتاريخ من الإباء و الشرف و الرفض للذل... فالعربي أهون عليه ذوق كأس الموت و خوض غمارها من أن يجرع كأس الذل و العار... أهون عليه من أن يصاب في عرضه أو شرفه أو أرضه، وهي حين تمس يتلطخ الجبين بوصمة العار الذي تجرُّعه أمرُّ من الموت بل الموت أحلى و أزكى حين يحل العار...
العار: هو السبة التي يأباها كل عربي... هذه الكلمة في خطاب العرب أقرب إلى العِرْض، فالعار عرض مثلوم كما أن العار عرض حذفت ضاده...
و العار قريب من " عارٍ" من العري الذي يكشف سوءة المرء... فعند العربي العار عريٌ الموت أهون منه، لكن العار هنا هو موت جميلة...
جميلة المرأة العربية الأبية التي ثارت ضد المحتل، ولكنها وقعت بين يديه ليمارس عليها صنوف قذاراته و أشكال المهانة... وليحكم عليها بعد أن عجز عن إذلالها بالإعدامِ أمام مرأى كل العرب... لو ماتت فلن نتخلص من هذا العار و سيبقى سكينا مغروسا في قلب الضمير العربي ليظل جرحا ينزف تأنيبا أبديا...
الأرض: أمّا لماذا الأرض في هذه الأجواء فلأنها ثورة الأرض... وأما لماذا لا تتجلى إلاّ في ثلاث: الماء و الجبال و البركان، فلأن الجبال هي موطن الثورة و حضنها الحاضن حتى صارت علما عليها... و أما الماء فهو الرمز للحلم الآمن في نسق الطبيعة الهادئة، وهو الرمز للحياة التي قتلها العدو... حتى إذا ماتت جميلة و تلطخت الأرض بعارها فإن التناساق الذي كان على الأرض بين عناصرها سيختل ويعلن رفضه... ويتبدل هدوء الكون إلى بركان يحرق ما حوله و يدمره...
حتى الشمس من نظام أرضنا تُذْكر في عَرض من الكسوف يحجبها بروز آخر من وهج الشهيدة، يشع بأشعة حارقة من التأنيب اللاهب...
حينها فإن الجبين المرفوع عبر قرون العز سيوصمُ بوصمة العار التي تجعله لا يجرؤ على رفع رأسه، وهو الذي ألف الإباء...
"كيف ترى سنمسح العار عن الجبين
وكيف سنكتب التاريخ
وأنتِ في جبيننا علامة "
فالعار صار إسمه جميلة
"و أن كل عين
ستغرق في العار الذي نزل
وتطبق الأجفان من خجل"
لو ماتت جميلة سيلطخ موتها بالعار جبين التاريخ و لن نجرأ على فتحه و قراءته...
" لو مت يا جميله
فما الذي يقال
غدا إلى الأجيال
كيف سنكتب التاريخ
و أنتِ في جبيننا علامه"
فالعار هنا في موت جميلة يُغرق الأرض و التاريخ و الضمير العربي و العالم، و القرن العشرين في لطخة من العار .
المشهد الثالث البركان
هنا تدخل القصيدة في حالة من التأزم والصراع و الإحتدام.
ويشحن هذا المشهد داخل هذه الكلمات: الإحتدام/الدم/المجنون/ الصراع/ الجلاد...
هنا كأنه امتداد للمقطع الذي قبله وبيان لمعنى البركان...
فإن الجبال التي في تناسقها مع العين تجري بالسيل، فإنها بعد اغتيال جميلة ستصير مغمورة بالنساء و الرجال، يواصلون ثورتهم أكثر غضبا و أشد حنقا،
و أكثر إيمانا بضعف عدوهم و أنه أول انتصار يكون مشحونا بالغضب والإيمان والثورة...
فلو أن العدو تزمت و أصر وأعدم جميلة -"فأنشب الأظفار و احتدم / ياكل لحما و يعبُّ دم"-، دمَ جميلة المرأة المعزولة... سياقبله استهزاء منها له لأنه انتصار لها وبيان على ضعف العدو... "فأنت يا صديقه / عرفت في عذابك الحقيقه / و أنه أضعف ما يكون جلادكِ المجنون".
وسيقابله إباء و استمرار " ففي ذرى الجبال / يزدحم النساء و الرجال / و في المدائن الكبرى و في الضياع / وملء هذا العالم الملتاع / كي يقسموا في ساعة الوداع / رغم الأسى و الحزن و اللياع /أن يجهدوا أكثر كي يتابعوا الصراع" .
الفصل الثاني قراآت
1-قراءة في الأبيات المفردة
وهي أبيات وردت دون أن يكون لها تابع في القافية أو سابق، فكل الأبيات جاءت تتناغم أزواجا و أكثر في حركة القافية إلاّ هذه التي شذّت عن ذلك و هي حسب ورودها في النص كالتالي :
*عيونها
*كيف ترى سنكتب التاريخ
*و الذكريات
*جميلتي
*و قلبها الكبير
خمس أبيات شذت عن ذلك التناغم و التزاوج يفصل كل واحد منها عدة أبيات.
هذه الأبيات تشبه قطع الآثار التي يعثر عليها المهتمون بعلم الآثار، يريدون من خلالها الكشف عن زخمٍ من حياة أولائك البائدين... و أنها ربما الأهم في عين الأرض و الزمن... هذه القطع من داخل القصيدة تحيلنا على خيال رحب نجول به عوالم مسكوتا عنها...
"عيونها": عيون من، ومن هذه الفتاة التي انمحت كل دلالاتها إلاّ "عيونها" تحملق بها منصوبةً دون معرفة السبب الذي جعلها ترد هكذا و مضافة إلى ضمير الغائبة... هنا و كأن عيونها شاهد نور على ذلك الإنطفاء القاتم، فهي والنجوم شهود على ظلام حالك.
"كيف ترى سنكتب التاريخ": هنا استفهام غرضه التوبيخ... هنا يتفجر النص على معنى آخر و هو أن هذه المرأة لها علاقة بالتاريخ، و أنها ستدخله و تبقى ترصدنا من داخله بأشعة حارقة من الخزي و العار...
"و الذكريات": و كأننا ما زلنا أمام هذا الوخز الذي ستمارسه الذكريات من داخل التاريخ حول هذه المرأة المنطمسة المعالم إلاّ "عيونها"...
"جميلتي": هنا التصريح بالإسم مضافا إلى ياء المتكلم ليدل على تلك الرابطة القوية التي ربطت المتكلم بهذه الجميلة... و لكن هل جميلة هو ذاك الوصف الذي يطلق من سحر العشق ثم ياتي من باب الدلال منسوبا إلى ياء العاشق ...ربما...
لكن ورود كلمة التاريخ و الكتابة، تدل على أنها من باب الخطْب، و أنه يتعلق بأمة أو بالأحرى بامرأة تحمل هموم أمة، وهذا ما يؤكد أن جميلة علم على هذه المرأة، وفي نفس الوقت هو لا ينفي تلك الحميمية في تلك الإضافة أو على الأقل ذالك الشعور بالإعجاب الذي هو الحب الذي ترقى من الإعجاب إلى درجة رفيعة من العشق العذري...
"و قلبها الكبير": هنا نعرف أنها امرأة إسمها جميلة و لها قلب كبير، و لكن الجملة غير منتهية، فهي إما مسبوقة أو متبوعة...
فالمرأة اسمها جميلة من اللآتي سيدخلن التاريخ، و جاءت بأوصاف، أن لها عيون منصوبة و لها قلب كبير و أن المتحدث ينتسب إلى قوم جميلة نفسهم، و أنه عشقها حد التصوف... وأن عيونها المنتصبة ستظل تؤرقه بوخز... ولكنها ذات قلب كبير سيعفو عنهم و يمنحهم ما يمنح كل صاحب قلب كبير...
إذن هناك امرأة إنطمست كل معالمها و لم يبق منها غير عيونها و قلبها الموصوف بالكبير، و اسمها جميلة، وهناك الذكريات و التاريخ...
فحركة النص تدور حول هذه الكلمات التي نقطة المحور فيها التاريخ، و الحركة فيها غير منتظمة و لا متجانسة، فهي متغيرة و متعددة تستمد هذه الحركة اندفاعها من سؤال"كيف" (كيف سنكتب التاريخ)...و هذا التغير يمر عبر كل الممكن الذي تطرحه معادلة جميلة و التاريخ...
2- قراءة في نظام القافية
نظام القافية في القصيدة منتظم، و يخضع بشكل كبير لعملية التداعي، فنجد أن القافية متنوعة الروي ونظامها نظام البيت فصاعدا لتتنوع حسب التداعي و نظام السياق اللغوي الذي تسير فيه القصيدة، و جلّ هذه القافية مقيدة تنتهي بساكنين، ساكن صامت قبله ساكن صائت، وهي ما يعرف بالمترادف...
وهذا لأن القصيدة تدخل في عالم مملوء بالرهبة و الحزن منذ بدايتها و لا نكاد نجد القافية مغايرة لهذا النظام إلاّ في المواضع التالية:
أ- الموضع الأول:
"في سجنها المملِّ/ كأنها تصلي" من المقطع الثاني من القصيدة.
"جميلتي تصلي / في سجنها المملِّ" من المقطع الأخير.
فالقافية هنا من المتواتر ؛ حركة/ سكون، حركة سكون. فحركية هاذين هي حركية النشيد لأن المقام هنا هو مقام ترقٍ روحي و عروج لعوالم الشهود، فكأنه من نشيد السماء...
ب- الموضع الثاني: من بداية المقطع الخامس.
" لو صار يا صديقتي ولم / يقدّر الوحش مدى الألم/ فأنشب الأظفار واحتدم/ياكل لحما ويعب دم /فلن تكوني أبدا وحيده/ ولن تضيع هذه القصيده". فالأربع الأولى من المتدارك، والثّنْتان بعدهم من المتواتر... فالقافية هنا قوية عند الدال و الميم وهي دمدمة تعبّر عن التأزم الذي دخلت فيه القصيدة، وبيانٌ أن الصراع بعدها سيكون قويا... تبدأ القافية هنا بالخروج عن النظام المعروف فتبدأ بـ"ولمْ/ألمْ" لتصّعد إلى " تدمْ/ بدمْ"... ثم تتلى بقافية لها هاء جميلة و دال الدمدمة "حيده/ صيده"، فيتم القران بين الدال و الهاء كما سيتم بين الغضب و الثورة، و هو موت جميلة... أما المواضع الأخرى فلا تكاد تكون إلاّ تداعٍ يقتضيه السياق مثل : " فأنت ياصديقه/عرفت في عذابك الحقيقه"، أو "يدق مثل ساعة ضخمه/ تعيد في تكرارها كلمه" .
لكن الملاحظ هنا أن الهاء التي تتنسم من عبيرها جميلة تظل مقترنة بهذا التداعي و الجمال اللغوي...
3- تفاعيل الأبيات و حركة التفعيلة:
أقدر الوزن هنا من الرجز و التفعيلة الأساسية هي " مستفعلن".
تتجلى مستفعلن في مظاهر:
فَعِلَتُنْ: بعد أن وقع عليها الخبن (متَفْعِلن)
مُفْتغلنْ: بعد أن وقع عليها الطي(مسْتَعِلن)
مفاعلن: بعد أن وقع عليها الخبل(متَفْعلن)
فالاتن بعد أن وقع عليها القطع(مسْتَعِلن)
هذا مع الملاحظة أن هناك زيادة وقعت في أواخر أغلب الأبيات نقدرها كالتالي – على اعتبار أن البت من الرجز المقطوع الضرب -
فعولن؛ واجتمع فيها القطع و الخبن، بقطع الوتد المجموع وذلك بنزع ساكنه وتسكين ما قبله و خبن السبب بنزع ثاني ساكنه من أول التفعيلة
فعو؛ و قد اجتمع فيها الحذف و الخبن، وذلك بنزع الوتد المجموع كاملا ثم خبن السبب من أول التفعيلة
فعولْ : و أعتقد أنه نفس التغيّر الذي وقع على "فعو" مع زيادة ساكن.
و كل هذا واقع في أواخر الأبيات ماعدا ما حدث في البيت الثامن والسبعون "وفي المدائن الكبرى وفي الضياعْ"
"فعو/ مفاعلن/ مستفعلن / فعولْ"
فإن الزيادة هنا وقعت في أول البيت وفي آخره، إلاّ إذا قدرنا "فعو" من أول البيت و "فعول" من آخر البيت تفعيلة واحدة "فعوفعول" = "مفاعلان"...
وعلى هذا يمكننا أن نقول أنها وقعت في قدر الإنشطار لترص رصا عنيفا المدائن الكبرى و الضياع في منطق الإنفجار الثوري المتوحد والمتراص...
و هنا وكأنا "مفا" تدفع بقوةٍ كبرى مابعدها إلى "علان" ليقع الرص الموحد لما بينها و يفصل المسافات ما بين التفاعيل ليقع قدر التوحد و الإختزال في تفعيلة واحدة كما تتوحد على فعل الثورة المدن والضياع... ويكون البركان عنيفا كما هو في المدائنِ هو في الضياع... على نسق واحد و وزن واحد...
- أما إذا قدرنا كلمة الكبرى زائدة مطبعيا أو أثناء الكتابة والنقل، وعليه يصير البيت"وفي المدائن وفي الضياعْ" و الوزن فيها مستقيم على الرجز "مفاعلن/ فَعِلَتُنْ/فعولْ"...
*القصيدة كما وردت في إحدِى أعداد مجلة الثقافة الجزائرية التي تصدر عن وزارة الثقافة و أعتقد أنها توقفت عن الصدور، أما عن العدد الذي وردت به القصيدة فقد ضاعت مني ولم يبقَ لي إلاّ نسخة طبق الأصل سأعيد كتابتها كما وردت هناك، مع العلم أن القصيدة كتبت بالمجلة بخط اليد لا بحرف الطباعة.
*القصيدة
جميلة تصلي
الفرحُ الكبير يا جميله
يشوبهُ الإعياءْ
و عندما يخيّم المساءْ
تجهشُ بالبكاءْ
أختي التي تحلم بالبطوله
و تقرأُ الأخبارَ عن جميله
* * *
و في مدينتي
يفكّرون يا صديقتي
بهذه التي
تنظر من شبّاكها الصغيرْ
في سجنها المملِّ
كأنها تصلي
وقلبها الكبيرْ
يدقُّ مثل ساعةٍ ضخمه
تعيد في تكرارها كِلْمه
ترنّ في عالمنا الملتاعْ
يا إخوتي الوداعْ
الوداعْ...الوداعْ...
* * *
لو مُتِّ يا جميله
فكيف يستطيع أن يحدق الرجالْ
بعضهمُ في أعين البعضِ
و كيف يا رائدة الجبالْ
سينبعُ الماءُ من الأرضِ
لو متِّ يا جميله
فكيف سوف نستحقُ
بعدُ أن نعيشْ
و من ترى سيمنع البركانَ أن يجيشْ
و الشمسَ أن تُحجبَ باليدينْ
عيونهَا
و أن كل عينْ
تَغْرُق في العار الذي نزلْ
و تطبق الأجفان من خجلْ
لو متِّ يا جميله
فما الذي يقالْ
غدا إلى الأجيالْ
كيف ترى سنكتب التاريخْ
و أنتِ في جبيننا علامه
و في غياباتِ القلوبِ صرخة الظلامه
لو صار يا جميله
كيف ترى سنمسح العار عن الجبينْ
و نقتل الإثم الذي استقرّ كالجنينْ
و الذكرياتْ
و الذكرياتُ السودُ بعد حينْ
تدقُّ جدران ضميرِ العالم الحزينْ
* * *
منِ المدين يا جميلتي
من المدينْ؟
لو تعرفين
ليس همُ الذينْ
ينتصبون عند باب السجن حاقدينْ
و يشحذون في ظلام ليلكِ السّكينْ
لا..لا أُدينُ هؤلاء وحدهمْ
لا...لا أُدينْ
لو مُتِّ يا جميلتي فكلّنا مدينْ
و لطخة الجبينْ
سوف تغطّي قرننا العشرينْ
* * *
لو صار يا صديقتي, لو صارْ
و انقطعتْ من سجنكِ الأخبارْ
و لم يفد ما صنع الأحرارْ
و لا أغاني الشوق و الأشعارْ
لو صار يا صديقتي و لمْ
يقدّرِ الوحشُ مدى الألمْ
فأنشب الأظفارَ و احتدمْ
يأكلُ لحما، و يعبُّ دمْ
فلن تكوني أبدا وحيده
و لن تضيع هذه القصيده
و لن يقال إنها أيامْ
و عبثا لن ينفع الكلامْ
فأنتِ يا صديقه
عرفتِ في عذابكِ الحقيقه
و أنهُ أضعف ما يكون
جلاّدكِ المحيّرُ المجنونْ
يخبط في غياهبِ السجونْ
بوجههِ الممتعقِ العيونْ
و أنهم لو رفعوا الأسوارْ
و كتموا من دونكِ الأخبارْ
ففي ذرى الجبالْ
يزدحمُ النساءُ و الرجالْ
و في المدائنِ الكبرى و في الضياعْ
وملء هذا العالم الملتاعْ
كي يقسموا في ساعة الوداعْ
رغم الأسى
و الحزنِ
و اللياعْ
أن يجهدوا أكثرَ كي يتابعوا الصراعْ
* * *
جميلتي تصلي
في سجنها المملِّ
و قلبها الكبيرْ
يدقُّ مثل ساعةٍ ضخمه
تعيد في تكرارها كِلْمه
ترنُّ في عالمنا و تصدحُ
يا إخوتي افرحوا...
يا إخوتي افرحوا
شوقي بغدادي 1958
جميلة بوحيرد و هي مجاهدة جزائرية كان قد حكم عليها المستعمر الفرنسي إبان الثورة التحريرية الجزائرية بالإعدام وقد أحدث ذلك انتفاضة كبرى داخل الشارع العربي وقد خلدها حينها كثير من الشعراء و كنا في القراءة السابقة قد تعرضنا بالقراءة لقصيدة صالح خرفي" لن تموتي يا جميلة ".
(1) شوقي بغدادي شاعر سوري من مواليد بانياس بسوريا سنة 1928 له عدة دواوين شعرية مطبوعة ورئيس تحرير مجلة الموقف الأدبي التابعة لاتحاد الكتاب العرب. المرجع : موقع اتحاد الكتاب العرب.http://www.awu-dam.org/dalil/02ba/dlil027.htm
(2) سورة آل عمران الآية 169-170
(3) سورة هود الآية 81
(4) سورة يس الآية26