جراح خلف دلف بلا ساحل

منذر آل جعفر

 لأول مرة في حياتي أجد قلمي عاجزا عن الكتابة ولساني عيا عن الكلام ومخيلتي عاجزةٌ عن الوصف ،لأني كأنما أكتب عن نفسي ،أكتب عن طفولتي ،أكتب عن حياتي ،أكتب عن شبابي، أكتب عن ربيع عمري وقد تعديت الكهولة وبلغت الشيخوخة ،أكتب عن صف الأول أحسن الصفوف أكتب عن الطباشير والسبورة ووادي الخمسة والرفاعي وبني حارث والسراي والثمانية وبستان الكبير وحبيب، أكتب عن الصفاف والغرب والطرفة والبلم الشختور ،أكتب عن الشاعر خلف دلف الحديثي ابن الفرات العراقي وديوانه الذي صدر حديثا بعنوان (جراح بلا ساحل) ليست جراحك يا خلف يا ابن دلف وحدك بلا ساحل بل كل جراحنا بلا ضفاف ولا شواطئ ولا سواحل منذ أن عرفتك قبل خمسين سنة وبضعة أعوام كنا حالمين كانت أحلامنا الأكبر منها وماتت الأحلام .

كنا صغارَ الأعمارِ كبارَ النفوس :

( وإذا كانتِ النفوس كباراً      تعبتْ في مُرادِها الأجسامُ )

وكنا شبابا والله مكتهلين في شبابنا وسع قلبنا الدنيا ولم تسع الدنيا قلبنا منذ كنا أنا وإياك براعم شعراء أصدقاء وزملاء نتبارى في الشعر ونتبارى في رياضة النفوس في قريتكم الثمانية والخمسة قرية صديقنا الشاعر والصحفي ستار الألماز الذهب:

( أيا أخا الودِّ سناءً وسنا      حفظ اللهُ زماناً أطلعَكْ )

 أتذكر يا شاعر ديوان ( جراح بلا ساحل ) يا خلف دلف حين كنت نقف أنا وإياك في ساحة المدرسة الابتدائية ننشد أناشيد الصباح تحت العلم العراقي وهو يعلو ونحن نحيه في الصباحات الشتائية وتعلو قاماتنا لنبلغ قاماته المهيبة ونحن ننشد مع معلمينا وأساتذتنا وأترابنا ،

(عشْ هكذا في علوٍّ أيها العلمُ     فإننا بك بعد الله نعتصمُ )

 وننشد أيضا ونحن في علاثة نحث الخطى ونمضي قدما ونقطع السباسب والتنائف والضهرة نحو أكناف العِلْمِ والشيخ حديد والدرب الجوّاني والدرب البرّاني ثابتة أقدامنا كثبات تلول ياسين ونشيد موطني (موطني الجلالُ والجمالُ والسناءُ والبهاءُ في رباك موطني) مع البوق والطبل وآلات الفرق الموسيقية الكشفية والرياضة منذ ساعات الفجر حتى الضحى والظهيرة والقرّ والحرّ من قصيدة صفي الدين الحلي:

( بيضٌ صنائِعنا سودٌ وقائعُنا      خضْرٌ مرابعُنا حمرٌ مواضينا )

لا نملك من الملابس الرياضية إلا الفانيلا واللباس الكدري والجابان والبازا والتوباي تو والكالة ولا نملك الدريس ولا البوتين ولا السروايل الرياضية وحناجرنا تصدح ( الله أكبر فوق كيد المعتدي )

( لاحت  رؤوس الحرابِ          تلمع    فوق   الروابي )

( ومِنّا الرشيدُ ومنا الوليدُ          فَلِمْ لا نسودُ ولم لا نشيدُ )

 كنا أيها الشاعر خلف دلف ألحديثي الذي كنت أحمله حينا ويحملني حينا آخر وكان كلانا يحمل كلينا منذ بدأنا نحب في الحشائش نرتع على الحصباء والرمال في شواطئ علاثه ونكرع الماء من الساقية تحت النواعير التي أصبحت أثرا بعد عين ونقطف البطنج والزعتر ونجني الكمأ، كم خططنا في ربى النقع فلم تحفظ الريح ولا الرمل وعى والسيول تجرفني وإياك حين يسيل وادي الخمسة فنلوذ بأبيك العتّال دلف مهاوش يضمنا إلى جبل يعصنا من الماء وكان أبي الفَرَّاش في المدرسة إبراهيم داود آل جعفر يفرش لنا راحتيه في المدرسة ونحن زغب الحواصل ولا ماء ولا شجر منشغلين بالشعر والأدب والمكتبة المدرسية وأمينها المربّي الأستاذ الفاضل عبد المجيد الآلوسي ومدرس اللغة العربية الأستاذ محمود عبد الحميد ومدرسنا في النحو والأدب الشاعر صلاح سعيد الحديثي ومدرسنا في اللغة العربية والإنشاء والتراث الشعبي الأديب طلال سالم الحديثي وكنا نتبارى في حفظ حماسات أبي تمام والبحتري والشجري وسرت على نهيج الحماسة في ديوان شعرك الذي تأخر صدوره حتى صرت من شعراء الحماسة يا خلف بالقول والفعل أما أنت يا خلف فقد بقيت رهين الشعر في مكان أِسمه حديثة المحتلة تكتب الشعر وتنشر في الانترنيت باسم ابن العراق الجريح ويوم اتصلت بك بعد الأحتلال قلت لك هاتفيا مَنْ هو الجريح العراق أم أنت ؟ فقلت كِلانا الجريح بكسر الحاء وبضمِّها، أما أنا في لا مكان أِسمه بغداد المحتلة رهين المحبسين على نهج أبي العلاء المعري وإذا كنت قد قلت قبل عشرين عاما إني كالشاعر أحمد الصافي النجفي ( أسمع بغداد ولا أراها ) فأنا لا أسمع بغداد ولا أراها فلم تَعُدْ بغدادَ كعبةَ الأسودِ ولا بلدَ الرشيد ولا قبلة المجد التليد بل صارت كما وصفها الشاعر أِبن العنزي حينما سقطت فقال :

( من ذا أصابك يا بغداد بالعيْنِ         ألمْ تكوني قديماً قرّة العيْنِ )

صارت بغداد دار السلام سابقا مثلما وصفها أبو نؤاس بقولِهِ :

( يا دار ما فعلت بك الأيامُ          ضامَتكِ والأيامُ ليس تُضامُ )

لقد زرعْنا العريشَ والوردَ يا خلف دلف وزرعْنا الشعرَ والأدبَ وزرعْنا فسيلَ النخلِِ والعجوَ وسكّرْنا السُّكُورَ بين الشاميةِ وبروانةِ والجزرِ والحوايجِ والشيخ محمد وتلَّ الفِرْدَوْسِ لكننا حصدنا الشوك والحسك والعاقول وقبضنا الريح والعواصف والرعد والصواعق يكفيك يا خلف أن تكونَ شاعراً وطنياً ولا يتبعك الغاوون بل يتَّبِعُك الهداةُ فحلّقْ كالعقاب بجناحيك حرّاً معلِّما في المدرسة الابتدائية التي علمتنا الشعر الوطني أمّا أنا فأتعلَّمُ وأحفظُ عن ظهر قلب ما في الصحف الأولى صحف إبراهيم وبعد أن كلت عيوني وسافرت عنك في لا وطن في الطوفان بلا سفينة ولا نوح ولا الجودي ولا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ربك وأنت في (جراح بلا ساحل ) ديوانك الجديد في العراق القديم :

يـا قارئي.. من لهيب الدمِّ iiأشعاري
ومن دم الغبش المصلوبِ في طُرُقي
مـن  الأعـاصيرِ تزجيها iiمقاومتي
ومن نزيفٍ جرى من حرّةٍ iiصرخت



ومـن  حنين ترابي صغتُ iiأفكاري
ومـن دفـاتـر طـفلٍِ بين iiأحجارِ
تنقضُّ صاعقةً في صبرها iiالضاري
بـيـن الـسجونِِ سباها حِقْدُ iiجزّارِ

قلْ لماشٍ على العصا كيف أمسى وأصبحا          ما حوتْها يدُ أمريءٍ بعد موسى فأفلحا

*

وأنا الذي اجتلب المنيةَ طرفُهُ          فمَنِ المطالِبُ والقتيلُ القاتلُ

*

أعنّي ربي من حَصْرٍ وعيٍّ          ومن نفْسٍ أعالِجُها علاجا