تل الحكايا.. ما بين السيرة الذاتية والغيرية

محمد عليان

ربما اعتدنا  أن نقرأ السيرة الذاتية لهذا الكاتب أو ذاك، يتحدث فيها عن محطات هامة ومفصلية في حياته، ولكن من النادر جدا أن نقرأ السيرة الغيرية أي أن يوثق الكاتب بأسلوب أدبي روائي سيرة الغير، فهذا يتطلب الكثير من الموضوعية والنزاهة والقدرة أيضا على نقل أحداث  وتوثيق محطات لم يكن الكاتب  العنصر الأساسي فيها، وهنا تكمن صعوبة وخطورة هذا النوع من الكتابة، تل الحكايا سيرة غيرية ممزوجة بسيرة ذاتية، ولكن حتى سيرتها الذاتية كانت قد تكونت  وتبلورت   بتأثير مباشر من سيرة الغير، وهي سيرة والدها المناضل الذي أثارت تجربته النضالية جدلا واسعا ومفصليا في  الإطار الحزبي الذي كان ينتمي إليه، فضلا عن الوسط الاجتماعي الذي كان يعيش فيه.

ورغم ان الكاتبة وعلى لسان بطلتها نجاة تكتب وتروي قصة حياة الغير وهو والدها،إلا أنها لم تنقل الأحداث على نحو حيادي بصفتها راوية او متفرجة، بل أبرزت وعلى نحو مبدع اثر هذه الاحداث على  صقل شخصيتها،وتطور فكرها وتوجهاتها السياسية والحزبية، وكانت جزءا لا يتجزأ من هذه التجربة، بحيث بدت  الرواية وكأنها سيرة ذاتية، امتدت على  معظم مراحل حياتها بدءا من الطفولة وانتهاء بمرحلة النضوج السياسي والفكري. وقد أبدعت الكاتبة في نقل الاحداث من  وجهة نظر الراوية ورؤيتها للحدث وتفسير أبعاده،  حيث أن تفسير  نجاة الطفلة للحدث يختلف عن تفسيرها وهي في مرحلة الدراسة في المدينة أو الدراسة الجامعية،مما جعل الرواية تقترب الى حد التماثل مع الواقعية والمنطق .

رسائل كثيرة أرادت الكاتبة نقلها عبر صفحات هذه الرواية، ليس أولها ولا آخرها نقل محطات هامة من النضال الفلسطيني ودور المناضلين الذين لم تنصفهم الذاكرة الفلسطينية، والذين كان لهم كبير الأثر في ترسيخ المفاهيم الثورية، ووضع اللبنات الأولى في العمل الحزبي في الوطن الفلسطيني،  لقد رصدت الكاتبة تجربة الرعيل الاول في الحركة الوطنية الفلسطينية، وخاصة الحزب الشيوعي الذي مر بإرهاصات فكرية وسياسية أدت في النهاية إلى انشقاق في صفوفه، واتهامات متبادلة بين التيارات الفكرية المتنازعة، لقد اعتاد كتاب"الادب الحزبي"  ان يخفوا عن القارئ بعض النماذج الثورية التي كانت تخوض صراعا فكريا من اجل التغيير، وربما لان إظهار هذه النماذج يشكل تحديا للقارئ الذي حتما سيكتشف الخطأ من الصواب، وربما هذا ما يفسر خلو الأدبيات الحزبية من هذه النماذج التي   تجاهلها التاريخ،وفي الحالات التي ذكرت في التاريخ فقد ذكرت بشكل مشوه وباتهامات شتى .

لقد تجاوزت اهمية هذه الرواية الجانب الادبي والفني، حيث  كان سعيد الفلاح وابنته نجاة  مدرسة ثورية  نشأت  وتبلورت في خضم النضال الوطني، وفي الميدان، وهذه التجربة تعتبر مساهمة نوعية في الثقافة التنظيمية والحزبية والعمل النضالي السري الذي يعتقد البعض اننا لم نعد بحاجة اليه نظرا للتطورات السياسية .

لقد كتبت الرواية باسلوب ادبي شفاف يأسر القارئ، ويشده حتى  النهاية،وكانت اللغة جميلة وسلسة مفعمة بالوصف الدقيق للأمكنة والشخوص والتفاصيل الدقيقة وقد اهتمت البرغوثي اشد الاهتمام بنقل التجربة كاملة،  حتى انها جنحت في بعض الاحيان الى التقريرية  والافراط في التفاصيل، وربما من اجل نقل الحقيقة  والصورة كاملتين.

 انها رواية تجمع كافة العناصر: اللغة، الاسلوب، المكان، الزمان، الرسالة الوطنية،الدروس والعبر التنظيمية  والحزبية، الجرأة في نقل التجربة بامانة ونزاهة،انها رواية ملتزمة كتبت ونشرت في زمن االدعوة  للتحلل من الالتزام الثقافي والفكري،حقا  ثمة ضوء في نهاية النفق.

ورقة مقدمة لندوة اليوم السابع