النص القرآني عند محمد شحرور 24
ياسين سليماني
[email protected]
المبحث الثاني: نقد آراء شحرور في القصص القرآني
إذا كان شحرور قد أصاب في تقسيمه للتاريخ إلى قديم وحديث، وإذا كان محقا إلى حد ما
في حديثه عن التاريخ القديم الذي يبدأ بظهور الإنسان على الأرض، فإن الخطأ يراود
تقسيمه الآخر
حيث أرجع بداية التاريخ الحديث إلى نبوة محمد (ص)، وحدث عنده نوع من الخلط، فقد ذكر
أن هذا التاريخ يبدأ بتشكل لغة مجردة وإنسان يفهمها، وذكر بعدها هذا التاريخ نفسه
يبدأ بنبوة محمد (ص).
ومكمن الخطأ أنّ تشكل اللغة المجردة (الحديث عن أشياء غير ملموسة من قبيل الجن
والملائكة..) بدأ قبل النبي (ص) بقرون، وهذا ظاهرة في الشعر الجاهلي، والنبي (ص)
جاء ليخاطب الناس بلسانهم فلو بدأ التجريد مع محمد (ص) لما فهمه أكثر الناس، وإذا
ضربنا مثالا على لفظة "الله" نجدها متداولة في الحياة العامة، وهي مجردة غير
ملموسة، لذلك فالتجريد لم يبدأ مع النبي (ص) ولكن بدأ قبله. زيادة على هذا فقد
اختزل شحرور جميع المراحل التاريخية المعروفة، فبين ظهور الإنسان وظهور اللغة
المجردة مراحل عديدة ( العصر الحجري وغيره) وقد أشار القرآن إلى بعضها.
1. حـول "نوح":
تظهر النزعة المادية عند محمد شحرور في حديثه حول الأنبياء والرسل بدءا بنوح
(ع)إذ يركز في تحليله لقصة نوح فعاليّة "الإنتاج" مؤولا إياها تأويلا مادي بحيث
تبدو الغاية من قصّ قصة نوح هي المادة دون الروح، وهو ما يبين طغيان المرجعية
المادية في فكر شحرور على المنهج المستخدم في التأويل، كما أن شحرور الذي يؤكد على
أن القرآن لم يذكر التفاصيل الجزئية ينفي أن تكون عند نوح (ع) وصايا أخلاقية أو
شعائر تعبدية، ومثل هذا الموقف يجب تعريضه للنقد لأن الدعوة إلى توحيد الله تستوجب
طاعته في كل ما يأمر به، فإذا لم يؤمن به إلا القليل القليل – وهو حال نوح- فكيف
يستطيع أن يأمرهم بالصلاة والزكاة؟
إضافة إلى ذلك فالصلاة تعني الاستغفار، قوله تعالى:" وصل عليهم إن صلاتك سكن
لهم" ، وما دام نوح (ع) طلب إلى قومه أن يستغفروا الله فقد طلب منهم بشكل من
الأشكال أن يصلّوا وإن لم يرد اسم "الصلاة" بالتحديد، أما الوصايا الأخلاقية فهي
تحصيل حاصل بعد التوحيد، فلا يمكن لنوح (ع) ولا لأي نبي غيره، أن يأمر الناس
بالتوحيد، دون أن يثنيهم عن فعل المنكرات، مثال ذلك: لا يمكن أن يطلب من أحد أن
يؤمن بالله وحده لا شريك له، ولا ينهاه عن الفواحش.
ولذلك فالنزعة الوثوقية عند شحرور ظاهرة بيّنة وهو حينما يؤكد على عدم وجود
العبادات فإنه وثوق غير مبرّر في مجمله، فما هو إلاّ ظن يحتاج إلى تأكيد، خاصة أنه
يقرّ بعدم ذكر القرآن لكل التفاصيل.
وإذا كان شحرور يبدأ الحديث عن نوح بفكرة "الإنتاج" وبدائيته في عصره، فهو يقتصر
نبوة نوح على فكرتي التوحيد وتعليم البشرية ركوب الماء، والثاني لا أساس له من
الصحة، بل هو خادم للأول ذلك أن نوحا (ع) جاء ليهدي الناس إلى الصراط السويّ، فحين
لم يؤمنوا عاقبهم الله بالطوفان وأنجى المؤمنين بواسطة "الفلك" فهذه السفينة هي
وسيلة يدرك بها الناس صدق نوح (ع)، وليست غاية في ذاتها، بمعنى أن نوحا لم يأت
ليعلم الناس فن بناء السفن، ولكن جاء ليفهمهم عقوبة رفض التعاليم الإلهية لذلك حين
يشطر شحرور مهمة نوح إلى شطرين، أحدهما روحي (التوحيد) والآخر مادي (تعليم الناس
ركوب الماء) فهو يثبت نزعته المادية دون أن يعطي دليلا مقنعا بشكل كاف، خاصة أن
صناعة مثل إنشاء السفن ليست مهمة النبي أو الرسول بل من مهام الصانع والنجار
وغيرهما.
وخلافا لما ذكره شحرور حول الطوفان وأنه شمل منطقة معينة دون سائر الأرض، فإننا
نجد عند "ابن كثير" قوله: " قال جماعة من المفسرين: ارتفع الماء على أعلى جبل
بالأرض (...) وعمّ جميع الأرض طولها والعرض، سهلها وحزنها وجبالها وقفارها ورمالها
ولم يبق على وجه الأرض ممن كان بها من الأحياء عين تطرف، ولا صغير ولا كبير"(1)،
ويدل على ذلك قوله تعالى على لسان نوح (ع):
"ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا"(2)، غير أننا نصطدم بإشكالية
أخرى، فكيف يغرق جميع أهل الأرض رغم أنّ رسالة نوح (ع) كانت محلية؟ وجواب ذلك أنّ
قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل فأهلكهم الله بالطوفان نتيجة الكفر والعصيان فإن
الله لم يعذب قوم نوح بالغرق إلاّ والأرض ملأى بهم، وليس هناك بقعة من الأرض إلاّ
ولها مالك وحائز.(3)
كما أن الغاية من إرسال نوح (ع) ليس تعليم ركوب الماء كما يقول شحرور – وهي
استهانة بعمل جليل لنبي جليل- بل الغاية:
أولا: تبليغ الرسالة.
ثانيا: تقرير النصيحة.(4)
دليل ذلك:" أبلّغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون"، كما يشتد
ظهور النزعة المادية عند شحرور عندما يقول أن السبب في غرق الذين لم يركبوا السفينة
هو عدم تعلهم السباحة ولا ندري كيف يمكن لمن يعرف السباحة أن ينجو من عقاب الله
أولاّ، ولا كيف يخرج سالما من طوفان كطوفان نوح (ع) بضخامته !
زد على ذلك أن شحرور يسيء إلى سيرة النبي الكريم نوح (ع) فينعته بـ "الجاهل"، فيزعم
أنه ينادي على ابنه وهو ليس ابنه، مستدلاّ بقوله تعالى:" إنه ليس من أهلك"(1)
بأن نوحا لا يعرف ابنه بعدما سأل نوح (ع)فـ:" قال ربيّ إنّ ابني من أهلي"(2)،
وهذا ما بينه تفسير ابن كثير مفسرا للآية "هذا سؤال استعلام وكشف من نوح (ع)، عن
حال ولده الذي غرق "قال ربّ إنّ ابني من أهلي أي: وقد وعدتني بنجاة أهلي، ووعدك
الحق لا يخلف فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين؟" قال يا نوح إنه ليس من أهلك"، أي الذين
وعدت إنجاءهم، لأني إنمّا وعدتك بنجاة من آمن من أهلك، ولهذا قال:" وأهلك إلاّ من
سبق عليه القول منهم" فكان هذا الولد ممن سبق عليه القول بالغرق لكفره ومخالفته
أباه نبي الله نوح (ع)"(3).
أما ما ذهب إليه شحرور من أن السفينة حملت من كل زوجين اثنين بمعنى مؤمن وكافر،
فهذا تأويل لا يتمكن من فهم الدلالة القرآنية ذلك أن الطوفان والسفينة جاءا ليظهرا
خطأ الكافرين في عدم إيمانهم بدعوة نوح، فإذا كان نوح (ع) يركب معه الكافرين أيضا
فلماذا جاء الطوفان أصلا؟ جواب هذا هو "تعليم الناس ركوب الماء" وهو جواب متهافت لا
يمكن لعقل أن يتقبله.
وفيما يتعلق بالحيوانات التي صعدت إلى السفينة، والتي يذكر شحرور أنّها كانت
أليفة كلها، فهذا ينافي الحديث الذي ورد عن النبي (ص) حيث يقول:" لمّا حمل نوح في
السفينة من كل زوجين اثنين قال أصحابه: وكيف نطمئن؟ أو كيف تطمئن المواشي ومعنا
الأسد فسلّط الله عليه الحمى فكانت أوّل حمّى نزلت في الأرض"(4) ، فمن
هذا الحديث نعرف أن الفلك حملت شتّى أنواع الحيوانات لا الأليفة وحدها كما ذكر
شحرور .
أما القول بأن قوم نوح الذين أغرقوا بالطوفان قد قذف بهم في فوهة البركان فهذا
رأي يحتاج إلى دليل علمي وهو غير متوفر ذلك أنّ البركان إذا ألقيت فيه الأجساد حقا
فهي تندثر اندثارا كاملا فلا يبقى منها من الأثر ما يمكن أن يكتشفه العلماء في
القرون اللاحقة. والأحرى أن النار المذكورة في قوله تعالى:" ممّا خطيئاتهم أغرقوا
فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا"(5)، هي نار جهنم التي
يخّوف بها الله عباده، يقول ابن كثير في تفسيره للآية:" من كثرة ذنوبهم وعتوهم
وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم "اغرقوا فادخلوا نارا" أي نقلوا من تيار
البحار إلى حرارة النار"(6).
يقول الزمخشري في "الكشاف":" جعل دخولهم النار في الآخرة كأنه متعقب لإغراقهم
لاقترابه ولأنه كائن لا محالة فكأنه قد كان، أو أريد عذاب القبر، ومن مات في ماء أو
نار أو أكلته السباع والطير أصابه ما يصيب المقبور من العذاب، وعن الضحاك: "كانوا
يغرقون من جانب ويحرقون من جانب، وتنكير النار إمّا لتعظيمها أو لأنّ الله أعد لهم
حسب خطيئاتهم نوعا من النار"(1)
إن شحرور الذي يرى بأن النبوة تعني الجانب الموضوعي، مقابل الرسالة وهي الجانب
الذاتي، أراد أن يفرغ رسالة النبي نوح عليه السلام من محتواها، فليس نوح (ع) عنده
إلا داعية من دعاة التطور المادي، في عهده بشّر بالاستقرار (منازل، زراعة...) ولم
يفعل في رسالته سوى الدعوة إلى التوحيد وكأن التوحيد عند شحرور أمر ثانوي، رغم أن
الأنبياء والرسل لا يبعثون إلى قوم إلا من أجل هدايتهم إلى عبادة الله تعالى وحده
لا شريك له، والائتمار بأمره والانتهاء عن نواهيه، وبإفراغ رسالة نوح (ع) من
محتواها ظهر جليا ومرة أخرى النزعة المادية المتسلّطة على فكر شحرور.
1- ابن كثير، البداية والنهاية، دار التقوى، بيروت، لبنان، دط، دت، المجلد1، ص140.
2- سورة نوح، الآية26.
3- محمد على الصابوني، قبس من نور القرآن الكريم، مكتبة رحاب، الجزائر، ط2، 1989،
ج3، ص43.
4- المرجع نفسه، ص37.
1- سورة هود، الآية 46.
2- سورة هود، الآية 45.
3- ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار ابن كثير، دمشق، سوريا- بيروت، لبنان، ط1،
1994، مجلد2، ص ص551،552.
4- ابن كثير، البداية والنهاية، المجلد1، ص139.
5- سورة نوح، الآية25.
6- ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، المجلد الرابع، ص504.