تأشيرة دخول إلى مدن الإبداع
رؤى في عناقيد آخر الليل
للشاعر عبد الزهرة لازم شباري
عبد الزهرة لازم شباري
الشاعر والإعلامي
خلف لفته المناصير
الشاعر عبدا لزهرة لازم شباري في مجموعته (( عناقيد آخر الليل)) يمتطي صهوة جواده للمرة الخامسة نحو مدن الإبداع كخيط عنكبوت رقيق ، يمر بالذاكرة ويحرك أشجان السطور ، ممسك بخيط السنين فوق رأس أبيض بلون الثلج في شوارع كلاويز .
لقد كانت مهزلة سنوات الحرب بين أصابعه التي مزقتها رائحة البارود ودخان النخيل المحترق، كان الليل إغماضة في عيون الشاعر وهو يصحو من تأملاته !
(( تحت طيات البساط
تندرج السموم .. لتمحو من الشعر الطهارة ))
هكذا كنت أتمنى أن يقول.. حتى لا ينبلج المحال ويعلن السفر نحو الغموض، ويبقى الذئب يصرخ ( مني....ومنها العيال ) ، ويظل شاعرنا يدور في سورة الشطآن يحبو إلى مدنه ليعود يأتلف الخيال وأن الزهر المتصحر لم يعد ذو فائدة ولن يتقادم كي يسقي ضفافك
التي امتدت حتى مسامات القلب والوجدان ، كم أشم رائحة الإبداع وأنا أتقلب في شوارع الخيال بين مدن امتدت فناراتها إلى أعماق الصمت لتغفو على هدير الأقلام الخاوية وبقايا وريقات بعثرتها الأزمنة ، وما بين الأسى وساعات الافتراق التي مساحتها كالتي تمتد من القلب إلى القلب !
تارة يصحو الشاعر تم يغفو.. يسير حافياً ويحلم أن يعانق حلاوة الرطب البصري..
( دعنا نعيد الأمنيات
كما كنا صائمين! )
يبحث عن مرفأ للدفء وصدر للأمان ما بين وطن ضاع تحت وطأة الجلادين وقصائد الشعراء المفعمين برائحة الحب فوق أسنة الرماح!
وينتابك قلق مستديم ثم تصحو على رائحة الخبز وغفوة الضمير الأبدية في وطن أنهشته الكلاب ، نصف يحترق وآخر يوميء للسنين!
(( يعصرني الشعر ..في زنزانة أحلامي )) هكذا يصف الشاعر حلمه الذي مزقته رائحة البارود ، وفي (أحلام المحطات ) مدخل لعودة الشاعر إلى حتفه بعد أن ملأت أقدامه الحافية أشواك الوطن وهو يبحث عن رائحة الحب والرطب ما بين النهرين ومدن المنفى
تحت مظلة الوطن ورماد الشظايا من قهقهة أولاد الليل !
وكم دغدغته الأمنيات وهو يلهث وراء السراب ، أو يخمد وجعه الآتي من أقصى مدن الأرض ومسارات الدموع فوق محراب الصمت وخارطة الألم !
وحين يتحول الشاعر كاهناً في محراب الشظايا ومظالم الروح ، تحمله الرياح والقصائد
التي راحت تعبيء الشجون .. يأس مفعم وقلق واضح فوق مدارات القصيدة حين يقول..
((تمتد ما بين الجذور ونفسي
سرب من الغربان ))
تحملها عاصفة من الألم لتخمد تلك الأنفاس وشاعرنا لا يزال يفتش عن جرحه في القلب من بين الثلج والجمر وبقايا صدأ عالق في كف الريح وصحراء العمر .
وهكذا فالغالب على قصائده بكائيات قد تستمر حتى بعد الربيع ( مجموعته الرابعة )
(( هل تذكرين .. معطفك الأثري
وعكازتي الطريق !!
موعد اللقاء ..
ووريقات لطخة بماء العيون !!))
إذن هي رائحة الدمع في مفرداته ليعود ينعى أيامه من خلال منظاره فيقول ..
(( خذي نواقيس شعري والأيام
التي باتت عقيمة .. تبحث عن رؤى الأحلام ))
لا أدري ماذا يريد الشاعرمن ذالك أهو الحلم والرؤيا التي هي أشبه بالحقيقة ؟
ولكنه لم يك وحده يستجدي الأفتراضات ويحاكي أيامه الخوالي عبر فنارات لونتها فوهات المدافع وأزيز القصائد العصماء في حضرة الوطن !!
لقد جعلني إبداع الشاعر أضيع بين مدنه الزرقاء أبحث معه عن حدائقه المهجورة وومض الأيام الممطرة ورؤى المراقد المشحونة بالصلوات، وتارة أخرى أجهش بالبكاء المر على رحيل المبدع والصديق كاظم الأحمدي وهو يضيء فناراته فوق البحار أو يرتشف فنجان الشاي على لوحة التأمل في بصرته القديمة مع صديقه الأستاذ عبدالأمير العيسى ، هكذا كنا نجلس نقلب صفحات الماضي القريب .. سامح الله أبا ثائر فقد أيقض كل الجراح ليظل يحلم في جوف العتمة يبحث عن الشمس التي أفلت مع نجم الأحمدي ، وصمت البريكان وصبح قد لا يتنفس إلا فوق جماجم الغانيات وباعة الضمير ، واللذين إحترفوا العزف على آلة الخداع .....
(( في جوف العتمة
تقلب رأسي على عقبه
كي أمشي مرتعش الأفق
يرتعش النجم القابع في أعلى الليل
ليتنفس فجراً .. يصحو شمساً
ثم ينقشع مثل ضباب الفجر ))
وتكبر رويداً هالة اليأس عنده حد الإمتعاض حين يرسم لوحته ...
(( في مرآة ترسم وجه الدنيا
كجدار مشطور
تتأرجح فيه صرخات
صرخات ورفات قبور
وليال دامعات وأنين وزهور ))
ولأن عالم الشاعر الخاص المملوء بالقهقهة المصطنعة والإيثارية المطلقة يختلف عن نبوءته الشعرية حين يتعامل مع وحي الكلمة بصدق أدق وشيء من الموضوعية وهذا هو وجهه الحقيقي بعذاباته وتنبئه للأيام المقبلة ، وقد تهتز كل فرائصك وأنت تجده يخلد مبدعاً فوق خارطته الشعرية أو يكتب عن صديق له في كردستان يقاسمه الألم فوق تلول الشطوط الجرداء حد التوجع ، أو يخترق أروقة الصمت لأله الصمت الأبدي (( محمود البريكان)) فيقول ...
(( فاطلق صوتك لحناً
يتأرجح كالأرجوحة
ما بين الصورة والذكرى
واخلع ثوب الموت
فالصورة شبح يتدلى
في وجه المقبرة!!))
ونعود بعد أن اجبرتنا مدنه للدخول إلى مملكة الإبداع لنتنفس ببرائته الشعرية رائحة الجراح الممتدة فوق بساط الملح ، لنرى بمنظار أسود شاعرنا يحبو عارياً فوق سهام الإبداع وهو يشعل حروفه ووريقات شعره ليعيد المحاولة ما بين النزف الأول وتأشيرة الندم لينز وبعيداً بين الومظة والشمعدان في حانات العواصم المملوكة وصباحات تكبلها الطقوس الكاذبات ويعود ينتخي ثانية ولا أدري أية سيوف يناشد في بكائيته ...
(( ففي السيوف
شهامة الأجداد
وسورة الشطآن
وعذوبة ماء الفرات !!))
وفي قصائده (( حب ، وجدلية الزمن المباح )) يجعل الشاعر للنظرات مكاناً آخر غير القلوب تتعانق ، ويجعل للبوح رغبة فوق مسارات الروح ويتامل أن تعزف مووايل الذكرى ثانية بعد أن كسرت معاول الجلادين أجنحة الرغبةعبر أنفاس يؤلمها زفير الحب ، ونراه يبكي لوحده وهو يجعل من وسن الجفون التي هجرت النوم خضاب له ،
وفي (( أخيلة وإيقاعات )) يعزف على وتر التأمل ممسك بخيوط البراءة والإبداع ولكنه عاد يبحر في شواطيء اليأس حين يرى وجه ((حميد)) وهو يشخب في ذاكرة تتعرى !!وفي قصائده القصار التي يرى فيها أوجاعه ويغسل بقايا الضمير من شظايا الخيانة في حضرة قداس ،كطفلة ألقت دميتها في فراش الموت خوفاً عليها من رائحة الدمار ، وحين يلبس إنساناً قناع العتمة بين الظلام والضجيج يحلم أن يجد بين خربشات قلمه مرفأً للصدق والذكرى في دروب لم تأو سوى التائهين ، وما بين ((حقد السنين ،)) ورائعة ((سيد السلالات)) أرى الشاعر أكثر جدية في العزف على وتر الإبداع والتحدي بأسلوب رائع !!
(( يا وطني
على كفيك أبغي التجول
واعتناق الضوء،
والاقتراب من قرقعة رعودك
وهي تهمس بانفراج الليلْ ))
ثم يقول ............................
(( في مراكب العائدين
دعني أقل عناقيد زهوك
يا سيد السلالاتْ،
ومن وجهك نستمد الظل
وانبهار الرؤى!! ))
غناء واضح للوطن وانتقاله مقبولة من اليأس الجاثم على أنفاس الشعر إلى عالم الصلوات في محراب الصالحينْ !
خذني لزهوك يا سيد السلالات ، ترنيمة لتأريخ الأصالة والعراقة لوطن أسس السلالات والشرائع ، ومن الرجالات التي كتبت التاريخ بالدم في هذا الوطن الذي أهدته جراحاتها وصهيل الفراسة حين يقول.....
(( وعلى ضفافك ينتابني
هاجس من الشعر
ووخز من أناشيد الأولينْ ))
ويتنفس الشاعر المبدع بلغة لاتخلو من المباشرة ولكنها توحي بالصدق والانفعالية ! ..
(( أنت في وحدتي
وبقيتي في محراب الصمت )) ، ويستطرد ..
(( وبين الصدق والكذب
خطوط حمراء
وتنافر قطبين لا يلتقيان ْ ))
صور كثيرة تتراءى من بوابات القلق المصاحب لفوضوية العاشق الخمسيني وهو يهتز طرباً على تنهيدة طفل أو موسيقى نهر دافق ، أو جدائل امرأة جنوبية على شط العرب ..
(( دعيني ألج في
صباحاتك الفوضوية
وأهجر وحدتي
وميلاد صوم السنينْ ))
وعلى (( خدوش في الذاكرة ، وجناح الأماني، وأصدقاء الغربة، )) ملاذات واضحة نحو الإبداع ولكن قراءة واحدة لا تكفي أن تضع النقاط على الحروف في مجموعة الشعر الخامسة التي جاءت أكثر تمييزاً من سابقتها في مجاميعه الشعرية الأخرى !
وقد تلاحظ في كتاباته المقفاة تشنج واضح واسترسال بسيط نحو السهل الممتنع بينما يسير في خطى واثقة رغم طراوة اللغة والسرد المسهب في قصائده الحديثة التي لا تخلو من الموسيقى الواضحة مما جعلني أتلوى بين عذاباته وأتلذذ بخياله الشعري ، وهو يعتلي منصة الحزن في لوعة الفراق ، ربما المعني روح الفقيدة التي أثرت على مخيلته بهذا الإلهام ومسحة الإبداع !!
(( من يغسل عنا لوعة الفراق
ويطفئ الجمر المستعر
بين طيات الضلوعْ ،
فالستائر مسدلة ..
والقلوب والهة تعج بالذكرياتْ ))
وفي قصيدته (( مدي يديك)) إنتقالة واضحة مميزة يهيم بها ليعتلي سارية صمته فيقول ..
(( مدي يديك
فأني لا أطيق الفراق
وامسحي عرى روحي
عسى أن يستيقظ صمتي ))
ولكن الشاعر ينهض من صحوة موته فينتفض بصراخ مؤكد فيثقب برؤى الراهب الأكبر ضمائر المغفلين وأوهام الليل في معترك الشهوة العارمة إنه (( صراخ الوحشة)).
أما في قصائده (( نداء الدماء، لهيب الأزمنة، لامية الزمن المباح )) يتألقا أكثر ، وكأنه يضع قصائده في مجاميعه مثل سلسلة في مديات التألق ،
لغة جيدة وإيماءات خالدة في ذاكرة القصيدة ، شاعر تخطى أطر الانزواء في دائرة الصمت فاخترق كل شيء ليصل إلى مديات الإبداع ...
(( مزقت قصائدي
ولواعج فكري
حتى لا تحترق بلهيب الأزمنة بخدوش سوداءْ ))
فشاعرنا هنا يبحث دائماً عن الصورة اللامعة في موازين القصيدة ..
(( في مآدب القبور
تجلس في طابور الأحياء .. الأموات !!))
قراءة واحدة وقراءات لاتكفي أن تمنحك جواز المرور إلى عالم الشاعر ، تباركت بموهبتك وبالروائع التي أتحفت الشعر بها، ولكني أطمح أن أراك فارساً أكبر في الطابق السادس وأنت تستكمل عمارتك الشعرية الرائعة التي امتدت جذورها في القلب لتصل إلى القلب !! ،
صوت في دائرة حبلى
، بالأصوات المهجورة حد العهر ، والأقلام الموبوءة حد اللعنة
شكراً لك ولكل مبدع !!