براعة التصوير في قراءة القرآن
الشيخ مصطفى إسماعيل نموذجا
د. نعيم محمد عبد الغني
يعتذر الشيخ سيد قطب، في كتابه "التصوير الفني في القرآن الكريم" لوالدته؛ التي أهداها الكتاب، عن أنه لم يصبح قارئًا مشهورا للقرآن، يستطيع أن يتلوه بصوت حسن، بتقديم كتابه؛ الذي يبين فيه براعة التصوير الفني في القرآن الكريم، فيقول: "إليك يا أماه، أرفع هذا الكتاب، لطالما تسمعتِ من وراء "الشيش" في القرية، للقراء يرتلون في دارنا القرآن، طوال شهر رمضان، وأنا معك - أحاول أن ألغو كالأطفال- فتردني منك إشارة حازمة، وهمسة حاسمة؛ فأنصت معك إلى الترتيل، وتتشرب نفسي موسيقاه. وإن لم أفهم بعدُ معناه.
وحينما نشأتُ بين يديك، بعثتِ بي إلى المدرسة الأولية في القرية، وأُولى أمانيك أن يفتح الله عليَّ، فأحفظ القرآن؛ وأن يرزقني الصوت الرخيم، فأرتله لك كل آنٍ، ثم عدلتِ بي عن هذا الطريق في النهاية، إلى الطريق الجديد الذي أسلكه الآن؛ بعد ما تحقق لك شطرٌ من أمانيك، فحفظت القرآن!، ولقد رحلتِ عنا - يا أماه- وآخر صورك الشاخصة في خيالي، جلستك في الدار أمام المذياع؛ تستمعين للترتيل الجميل؛ ويبدو في قسمات وجهك النبيل أنك تدركين - بقلبك الكبير، وحسك البصير- مراميه وخفاياه.
فإليكِ يا أماه. ثمرة توجيهك الطويل، لطفلك الصغير، ولفتاك الكبير، ولئن كان قد فاته جمال الترتيل، فعسى ألا يكون قد فاته جمال التأويل. والله يرعاكِ عنده ويرعاه".
وهذه لفتة من سيد قطب، إلى أن التصوير الفني في القرآن، مرتبط بأداء القرآن الصوتي؛ الذي بين في مواضع من هذا الكتاب، الأثر الصوتي، في إعطاء الصورة الفنية لآيات القرآن الكريم.
وبراعة التصوير في قراءة القرآن الكريم تقوم على معايير، تتلخص في إتقان الحروف، وإجادة الوقوف، ويكون ذلك بالموهبة الفطرية والدربة معًا، وهذه لا تتأتى إلا لأولئك الذين يجيدون الوقوف، ويحسنون أداء الحروف، في تناغم صوتي جميل.
لقد أكدتُ أكثر من مرة، أن القارئ يتدرب كثيرًا على أداء القرآن الكريم؛ ليراعي إحسان مخارج الحروف، وأماكن الوقوف، وينتقل ببراعة بين المقامات الموسيقية؛ التي تساعده على أن يكون حسن الصوت، جميل الأداء.
وأؤيد هذه الفكرة بواقع عملي للشيخ مصطفى إسماعيل؛ الذي سجل القرآن الكريم، مرتلا ومجودًا، ولكنه تميز ببعض السور؛ التي كان يكررها في كثير من الحفلات، كسورة القصص؛ التي استطعت أن أحصل على قرابة عشرين تسجيلا صوتيًّا لها، كل تسجيل كان في مكان مختلف، في مصر وخارجها، وفي أزمنة، امتدت من سنة 1948م، وحتى 1969م، وكذلك سور النجم والقمر والتحريم والنمل، وآخر سورة آل عمران؛ التي أتت بنسب أقل في التكرار.
ولقد سمعتُ الشيخ مصطفى إسماعيل، في برنامج شاهد على العصر؛ الذي يقدمه الإذاعي الكبير عمر بطيشة، يذكر أنه يُفضل قراءة آخر سورة آل عمران، ويلاحظ في كل ما يفضل الشيخ مصطفى إسماعيل قراءته، أن الجانب القصصي يغلب على هذه السور؛ فالقصة تستميل النفوس، خاصة إذا كان أداؤها جميلا.
والسمة العامة في قراءة الشيخ مصطفى إسماعيل، أنه يقرأ - كما يُقال- بطريقة السهل الممتنع؛ فعندما تسمعه تُحس أنه لا يبذل مجهودا، فلا ترى صوته مرتفعًا إلا في مواضع معينة، تصل بالمستمع إلى قمة الانفعال، ومن ثم يظن من يسمعه أنه يستطيع أن يقرأ مثله، حتى إذا جاء ليُجرِّب، وجد بحرًا من المواهب لا تُكدِّره الدلاء، وهذه هي قمة العبقرية - كما يذكر الجاحظ- التي تتمثل في تقديم السهل الممتنع.
ونحن نلاحظ ذلك في الشعراء المجيدين؛ الذين يأتون بكلمات نستخدمها في حياتنا العادية، ويعيدون تشكيلها في قصيدة شعرية، يأخذ سَنَا حروفها بالألباب، يقول الجاحظ: "والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصحة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السبك".
ومعايير الجودة؛ التي وضعها الجاحظ لضبط الشعر، لا تختلف كثيرًا عن المعايير التي أكدنا عليها في أداء القرآن الكريم؛ الذي هو معجز في نظمه، وسلامة نطقه تزيده إعجازًا.
والسمة الثانية: التشويق في القراءة؛ التي اتخذ لها وسائل متعددة، منها أنه كان ينهي القراءة وهو في قمة الأداء، والجمهور في قمة الانفعال معه، فيتركهم وهم أشد تعلقًا به، ومن طريف ما رُوِيَ لي، عن بعض من حضروا حفلات الشيخ، أن حفلا ضم الشيخ مصطفى إسماعيل مع قارئ آخر، صوته حسن، وله شعبية أيضًا، ولكنه أصغر سنًّا من الشيخ، فخاف من الشيخ مصطفى، فبادر دون استئذان؛ ليقرأ في بداية السهرة، وأطال القراءة، وأبدع فيها، حتى يتشبع الناس بتلاوته فقط، وينصرفوا بعدها، ليتركوا سماع الشيخ مصطفى إسماعيل، فلا تكون هناك بعد ذلك فرصة للمقارنة.
وقد حدث ما خططه هذا القارئ تمامًا، ولكن الشيخ مصطفى إسماعيل ابتدأ القراءة، بطريقة لم يألفها الناس، من تمهيد بصوت منخفض، حتى يأخذ الناس رويدًا رويدًا، من القرار إلى الجواب إلى قمة الأداء، ويتركهم معلقين، ولكنه بدأ بمقام موسيقي، جعل الناس يرجعون مرة أخرى، وهم أشد إعجابا بهذا الأداء العجيب، وظل الشيخ يقرأ إلى الفجر، ثم أذن الفجر، وصلى بهم، وانصرفوا.
ومن وسائل التشويق في قراءة الشيخ مصطفى إسماعيل، إجادة الوقوف، ومصاحبة الوقف بتنغيم يحدد نوع الجملة في سياقها، من حيث الخبرية والإنشاء، ولنتأمل معًا قراءته لقصة سيدنا موسى مع ابنتي شعيب؛ التي وردت في سورة القصص، ويفضل كثير من القراء قراءتها، مما يؤكد قولنا: إنهم يتدربون على نغم القرآن.
فيقرأ الشيخ قوله تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ) (القصص: 23)، بصوت فيه حميمية الراوي؛ ليقف عند (يَسْقُونَ)، وبذلك صور للمستمع البيئة التي سيُروَى فيها الحوار، فهي مكان به بئر، عليه حماعة من الناس يسقون، ثم يقرأ: (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ) ويقف عند (تَذُودَانِ)؛ التي تعني تمنعان الغنم، ثم يرتفع صوته قليلا؛ ليبين أن وقفتهما كانت غريبة، باستفهام يبين هذا التعجب، ليقرأ: (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا؟)، وتأتي الإجابة ممزوجة بمقام الصبا؛ الذي يصور عذرهما، مع جواب في الصوت ينتهي بانخفاضه؛ الذي يناسب حالتهما، فيقرأ: (قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا) (القصص: 23، 24).
ويلاحظ أنه كان من الممكن أن يقف عند (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)، ويكون وقفا حسنًا، ولكن الأحسن منه أنه عبر عن البناء اللغوي تعبيرًا ممتازًا، بوصله (فَسَقَى لَهُمَا)، تعبيرًا عن سرعة استجابته لنجدة لم تُطلب منه تصريحًا، وإنما طُلِبَت تلميحًا بالإجابة عن السؤال الموجه للفتاتين، ثم يبدأ القارئ مرة أخرى بقوله تعالى: (فَسَقَى لَهُمَا)، إلى أن يختم باقي الآية بما يدل على نغمة الدعاء؛ التي تدل على التضرع، في قوله تعالى: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص: 24).
ويعود الشيخ ليصور هيئة ابنتي شعيب، في وقف بديع، فيقرأ: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) (القصص: 25)، فيقف على (اسْتِحْيَاءٍ)، خافضًا صوته؛ ليُبين أثر الحياء في مشية الفتاة، وكأن الأرض نُسِجَت خيوطًا من الحياء، ويعود ليُبين أن الحياء لم يكن سمة في مشيتها، بل في قولها أيضًا، حيث بدأ: (عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) (القصص: 25).
ثم يرتفع الشيخ بصوته؛ ليبين حكاية سيدنا موسى، للظلم الذي وقع عليه من فرعون، ويختم بطمأنة سيدنا شعيب له، بصوت في نغمة تقريرية، يجعلها الشيخ قفلا لنغمة، بدأها بالجواب، وأنهاها بقرار؛ ليوحي بهذا التأثير لذلك التعبير، في قوله تعالى (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (القصص: 25).
ومشهد آخر يشتهر به الشيخ مصطفى إسماعيل، وهو دعاء سيدنا نوح، عندما قال: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ) (القمر: 10)، يبدأ الشيخ بصوت مرتفع، فيه معنى الاستغاثة، ثم يقف على مغلوب، ويتبعها بكلمة (فَانتَصِرْ)، نازلا بصوته من ارتفاع إلى انخفاض، ثم يرتفع صوته، بادئًا بطلب النصرة (فَانتَصِرْ)، واصلا إياها بسرعة إجابة الله له، ويقرأ: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا) (القمر: 11، 12)، ويقف عند (عُيُونًا)، فيصور لك مشهد الماء وهو ينزل من السماء، ويتفجر من الأرض، في صوت مرتفع نوعًا ما، متلوٍّ بصوت منخفض؛ ليقرر نغمة تقريرية لجمل خبرية، تتمثل في التقاء ماء السماء مع ماء الأرض (فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) (القمر: 12)، وتتمثل في إنقاذ سيدنا نوح: (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) (القمر: 12)، إلى أن يصل إلى السؤال الذي يُبين شدة العذاب، بصوت مرتفع؛ ليرهب به السامع: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) (القمر: 16)، ويتبع بنغمة تقريرية في قراءة قوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) (القمر: 17).
لقد تميز الشيخ مصطفى إسماعيل بالجودة والإتقان، وتمكنه من المقامات الموسيقية لم يَطغَ على أحكام التجويد، كما نسمع من بعض القراء، بل على العكس، كان حريصًا في تلاوة القرآن حقَّ تلاوته، وتعلَّم على كبار المشايخ في عصره، كالشيخ محمد علي الضباع، والشيخ عبد الفتاح القاضي؛ الذي تعلم على يديه، وكان الشيخ القاضي يراقب أداءه في الإذاعة والحفلات، ويُرشده إذا أخطأ، كما يقول الشيخ مصطفى إسماعيل.
لقد قرأ الشيخ مصطفى إسماعيل وهو صغير السن، مع الشيخ محمد رفعت؛ الذي أُعجِب بتلاوته، وطلب منه أن يقرأ لمدة طويلة، مؤثرًا بذلك أن يفسح المجال لهذا القارئ المبتدئ، ونصحه بأن يزداد إتقانًا لأحكام التجويد، ففعل الشيخ مصطفى بعضًا من النصيحة، وبعد خمسة عشر عامًا، عاد وقرأ مع الشيخ رفعت، مرة ثانية، في القاهرة، فقال له الشيخ رفعت: ألم أقل لك أعد إحكام التجويد مرة أخرى؟، فاتخذ الشيخ مصفى إسماعيل الشيخ القاضي خليلا؛ ليتعلم منه.
وبراعة التصوير عند الشيخ مصطفى إسماعيل، أهلته لأن يلحق بركب القراء الأعلام، فتكون بدايته الحقيقية مع الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي؛ الذي يمتلك هذه الملكة، ويعرف قدرها، وجعل صوت الشيخ يتمتع به الناس، عبر الأثير المسموع.
عزيزي القارئ، مهما وصفت لك فلن أستطيع أن أمتعك كما سيمتعك الشيخ مصطفى إسماعيل؛ الذي رحل عن عالمنا يوم 23 من ديسمبر/ كانون الأول 1978م، عن عمر يناهز الثالثة والسبعين، ولعل هذه المقالة تكزن وفاءً لذكرى ذلك الصوت الحسن؛ الذي يُحَسُّ ولا يوصف، مرددين مع الشاعر:
أحبك لا تفسير عندي لصبوتي أُفسِّر ماذا؟، والهوى لا يُفَسَّر