مقدمة أنا ووطني
د. عبد الله الطنطاوي
سعدت عندما قرأت أول عملٍ أدبي لأديبتنا الصاعدة الواعدة بالكثير: آزاد، وازددت سروراً بها عندما علمت أنها في المرحلة الإعدادية، وفي هذا المستوى الجيد من التفكير، والاهتمامات والأسلوب معاً، وبدأت أعمالها الأدبية تترى، شعراً ونثراً؛ خاطرة، وقصة، ومشهداً تمثيلياً.. وكلها تشير إلى ميلاد أديبة، عطاؤها أكبر من عمرها، فقد امتلكت من أدوات العطاء الأدبي المتنوع، ما يبهر القارئ الذي يعرف سنها، ومرحلتها التعليمية، مما يؤهلها لتكون من أديبات رابطة أدباء الشام ولسائل أن يسأل: كيف حصل هذا، ونحن نرى من لداتها ما نرى من طفولية، وولدنة، وإسفاف، بل نرى ممن يكبرنها في مرحلتيها: العمرية والتعليمية، من هبوط في الإدراك، والاهتمامات الدونية، واللهاث نحو الأسفل، والسعي وراء كل ما يشين.. وراء المطربين والمطربات، والممثلين والممثلات، التافهين والتافهات.. يلاحقن أخبارهم وأخبارهن، ويحتفظن بصورهم وصورهن الفاجرة، ويقلدنهم ويقلدنهن، في السلوك الهابط، فيما نرى اهتمامات فتاتنا الأديبة الشاعرة آزاد، اهتمامات من عرف زمانه، واستقامت طريقته، اهتمامات وطنية، واهتمامات إسلامية، واهتمامات إنسانية.. هيهات للكثير من أبناء جيلها وبناته أن يرقوا إليها..
والجواب على ذلك التساؤل: أن آزاد وهبها الوهاب من الحس الدقيق، والقلب الرقيق، والعقل الحصيف, والعاطفة النقية، ما جعلها أكبر من عمرها، وما صيرها في قلب الأحداث.. في لهب المأساة.. ترى إلى معاناة والديها وأهلها وأقاربها وأصدقائهم، فتعي حجم المأساة، وهذا الوعي هو الذي صهرها، وأذكى مشاعرها، فكانت آزاد الشاعرة والكاتبة بنت مدرسة الغربة، والاغتراب، غربة حسية وغربة معنوية عن الديار.. عن وطن آبائها وأجدادها، فقد ولدت في الغربة لأبوين مجاهدين مهاجرين بدينهما من دمشق وحلب، إلى بلاد الله الواسعة، وتربت في بيئةٍِ الحديثُ فيها لا يكون إلا في معالي الأمور.. في العلم، والعبادة، وألوان العمل الجاد لنصرة هذا الدين وأهله المظلومين..
وفي
هموم الوطن، ومآسي الشعب، وجهاد المجاهدين في كل مكان.. في بيئة علم وأدب ودين
وأخلاق برز كثير منها فيما كتبت آزاد.
إنها خريجة مدرسة الحياة بأرجائها المتراحبة. مدرسة البيت المؤمن، مدرسة القرآن
العظيم، مدرسة الحب في الله، والكره في الله ولله.. مدرسة القيم العربية والإسلامية
التي يتناءى عنها المراهقون والمراهقات، ليتدانوا إلى الشهوات البهيمية الساقطة..
أنجبتها مدرسة الإيمان بالله وكتبه ورسله، فكانت المثقفة النجيبة، بثقافة هذا الإسلام العظيم، تراها في هذه الآيات الرائعات التي أحسنت الاستشهاد بها، في الأماكن المناسبة لها، وكذلك تلك الأحاديث التي نطق بها سيد البشر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى جانب الرقائق من الشعر الحكيم، والحكم التي صدرت عن تجارب الحكماء والعظماء..
وبهذا وبسواه، أنتجت أدباً ينتمي إلى مذهب (الإسلامية) ويتشبث بها، ولا يحيد عنها.. وآزاد لا تحيد عن (الإسلامية) في وجدانياتها، ولا في كل ما صدر عنها مما اطلعت عليه.. وهذا ما يجعلني أتوقع لها مستقبلاً أدبياً في عالم (الإسلامية) وأرجو من الله الكريم ألا يخيب رجائي فيها، وإليكم البرهان:
انظروا إلى العنوان.. فهو ينبئكم عن المضمون والمضمون يقودكم إلى عالم هذه الشاعرة المراهقة بنت السادسة عشرة بل منذ بدأت مشوارها الجاد في الثالثة عشرة.. إنها مهمومة.. تعتورها الهموم.. وأي هموم هذه التي تعتاش مشاعرها منها؟
الذي يتبادر إلى الذهن: أنها كهموم قطعان السوائم من المراهقين والمراهقات، الفارغين والفارغات، السائرات في مهامه (الموضة).. ولكنك بعد أن تطالع عنوانات الموضوعات التي ضمها هذا الكتاب، تراها موزعة بين الأسرة (أسرة أديبتنا آزاد) والمدرسة، والأخوة في الله، والوطن الذي لم تكتحل عيناها برؤيته، بعد أن حكم الظالمون على أمها وأبيها بالإبعاد أو الموت البطيء المريع في أقباء السجون والمعتقلات.. (وطني العجيب) (أحب وطني) (مستقبلي في سورية) (قالوا: بلادي) هذه بعض العنوانات التي تتحدث عن البلد الحبيب، ولكنها لا تقف عند وطنها الأول سورية الحبيبة، فعيناها وعواطفها وعقلها وقلبها بكل أولئك تتطلع إلى ما هو أبعد من سورية.. إلى فلسطين، إلى الأقصى الأسير، إلى غزة المحاصرة.. إلى الأمة الإسلامية.. (واقدساه) (عن القدس) (عاجل إلى أشقائنا في غزة الرباط) (إلى شعب الحياة.. وغزة الرباط) ترى.. لو سألنا أولئك المراهقين والمراهقات عن معنى (غزة الرباط) فبماذا سوف يجيبون؟.. يا خيبة الأمة بهم.. (جراح الأمة) (قبلة وقنبلة)..
وعندما تتحدث عن مأساة لبنان على أيدي الأشرار، لا تنسى فلسطين (سلاماً لبنان) في عام النكبة الستين..
وهل يغيب العراق وما نزل به من كوارث على أيدي الصليبيين الجدد، والشعوبيين الحاقدين على العروبة والإسلام؟ لا.. اقرأ ذلك في (مناظرة بين بغداد ودجلة.. وبين مغولي أمريكي) لترى كيف تمتد اهتماماتها، ويفكر عقلها، وتهتف أشواقها، ويصرخ قلبها.. فجرح بغداد النازف أنهاراً من دماء، كجرح فلسطين، كجرح لبنان، كجرح وطنها الأصلي: سورية المدماة..
وكذلك مناجاتها لقصر الحمراء في الأندلس الفيحاء التي أضاعها أمراؤها وقادتها، باختلافاتهم السخيفة على مصالح وأهواء وشهوات هابطة.. الأندلس العزيزة الغالية في ذاكرتها الحية، فسلوا لداتها إن كن سمعن بالأندلس، أو أثارت هذه الكلمة في نفوسهن، مشاعر السخط على أمرائها، والحسرة عليها، كما هي عند آزاد.
وبصرها الحديد، يجتاز الحدود والسهوب، ليخترق الجدران السمكية سماكة قلوب الذئاب الذين أقاموها حول المعتقل الرهيب الرعيب في سجن صيدنايا الذي يحترق المؤمنون الأحرار فيه وتتفحم أجسامهم التي نبتت من حلال، على أيدي الفجار أولاد الحرام.. تسيل دماؤهم أمام أنظار العالم (الحر) وعالم العبيد، منذ أشهر، ولا يعرف أهلوهم شيئاً عنهم.. آزاد تقتحم الجدران الشائكة، بقصتها: (ثورة الأحرار لكتاب الله) إنها تتحدث –مرة ثانية- عن مجزرة سجن صيدنايا، قرب دمشق الحزينة، تلك التي لم تنته فصولها الدامية حتى الآن، ولا يعرف الناس عنها شيئاً إلا الجلاوزة، وسادتهم الطواغيت، وهؤلاء ليسوا من الناس.. وليس لهم أدنى انتماء إلى البشر.. المجزرة التي طالت المؤمنين المنافحين عن كتاب الله الذي أهانه الفجار..
ومن تلك الآفاق التي تمتد إليها بصيرة آزاد، ما عبرت عنه في قصة "حرية روح تقبع وراء الشمس) أرأيتم؟ حرية... حرية ماذا ومن؟
حرية روح.. وأين هي؟ إنها هناك.. في الأعالي.. وراء الشمس.. فتصوروا وتخيلوا الأمداء التي تمتد إليها وعبرها، بصيرتها، وبصرها الحديد..
لا تعجبوا.. فإنها من ذوات القلوب الموصولة بالله تعالى.. وتأملوا قصائدها: (حياتي لله) و(نسمات من طيبة) و(كل يوم وأنت عيد حبي).. عيد حبها أن تلقاه على الحوض.. يالله.. ما هذه الأنداء في هذه الفيافي والقفار يا آزاد؟ أي نور يقودك لتجتنبي المتاهات في هذا العصر المادي الكثيف الثقيل يا بنت السادسة عشرة، يا من بدأ مشوارك بوعي وأنت في الثالثة عشرة، منذ دنوت من الشعر والشعور والمشاعر، وأنت في عواطفك الغضة، وما ينبغي لها إلا أن تكون غضة.. طفولية.. ولكن قارئ هذا الكتاب سوف ينبهر من استوائها على سوقها، ومن جذورها الضاربة في أعماق الوطن الذي حال الظالمون بينك وبينه..
وعندما ننتقل من العنوان إلى الإهداء، تبهرنا آزاد.. فالذين تهديهم أول عمل أدبي لها ليسوا من الرقعاء التافهين الذين يستهوون الرقيعات.. المتبذلات التافهات، بل هم: أهل، ووطن، وقيم، يأتي الوفاء في طليعتها..
وفي المقدمة تطلعات فيها سمو وشموخ تبشر بميلاد جيل جديد من بناتنا اللواتي تربين في أحضان الفضيلة، ووعين ما يحاك لهن ولإسلامهن ولأخلاقهن ولأوطانهن وأمتهن، فانطلقن يتحدين صواحب التيار الهلوك، بدينهن، وعفتهن، وعقولهن، وقلوبهن، وقيمهن: قيم العروبة والإسلام.
الذي يطالع المقدمة التي خطتها يراعة آزاد، ينشرح صدره، ويطمئن قلبه لهذا الجيل المؤمن الجديد، ففيه خيرٌ كثير، وستبقى الخيرية في هذه الأمة إلى يوم الدين.
إني أشد على يديك يا ابنتي آزاد، وأدعو لداتك إلى أن يتأسين بمن تأسيت بهن من أمهات المؤمنين، وسائر الصالحات ممن عرفتهن في حياتك الطيبة، من أمثال المجاهدات الرائعات: زينب الغزالي، وأمينة قطب، وحميدة قطب، وأمينة الشيخة، وإلهام دلال،وعائشة شعبان، وسواهن من العاملات في حقل الدعوة وميادين الجهاد بالكلمة الطيبة، والعمل الصالح، والموقف المسدد..
هؤلاء هن الماجدات العاملات لاستئناف حياة العزة والكرامة لهذه الأمة المنكوبة بالكثير من أبنائها وبناتها.
شدي أنت وأخواتك يا آزاد، فأنتن شقائق الرجال المجاهدين، ولا تدعن فراغاً يملؤه الأخساء من الذكور والإناث.. نريدكن أديبات، وشاعرات، ومفكرات، وصحفيات، ,..و ... وأنتن داعيات ترين الله تعالى في صدق العزمات، في سائر الميادين، وتنهضن بهذه الأمة التي خذلها من خذلها من التاعسين والتاعسات..
أما (إخوانيات) آزاد، فجميلة، فيها من التسامي في الحب والود شيءٌ كثير وبديع، في شعرها ونثرها ورسائلها الخاصة ولمن؟
لا سر ولا أسرار.. إنها آزاد كالشمس في رائعة النهار.. وهي في رسائلها هذه، كما هي في سائر أحوالها.. أديبة.. مفكرة، داعية، قد نفت من حياتها كل ما يشين وملأتها بكل جميل.. ورسائلها من الأدبيات الإخوانية التي تخبرك عن جوهر هذه الفتاة... عن تطلعاتها.. عن سموها.. عن شموخها في سائر أحوالها:
وبعد:
فهل وفيتك بعض حقك يا آزاد؟
حقك علينا كبير، وسداده في الكلمات النقدية التي أدعو أدباءنا إلى الكتابة عن هذا الكتاب.. فهو كتاب مما كتبه الأطفال الكبار، للكبار، ولعله يكون حافزاً للداعيات الأديبات الصغيرات الكبيرات، أن ينهجن نهجه.. ونهج كاتبته، فنحن في مسيس الحاجة إلى الأقلام النسائية المبدعة، المقتحمة، في إقدام واعٍ، وقلب بصير.
وأخيراً
وإذا كان لا بد من كلمة أخيرة.. من وصية شيخ لمن في سن حفدته وحفيداته، فإني أوصيك بلغة القرآن العظيم.. مفردات، وجملاً، نحواً وصرفاً وإملاء.. شعراً ونثراً.. قراءة وحفظاً.. احفظي ما تستطيعين من آي الذكر الحكيم، ومن الشعر الرصين، قديمه وحديثه، وتأملي ما فيه من أصالةٍ ومن موسيقا ومن ألفاظ شعرية منتقاة، ومن تراكيب فصيحة..
أقول هذا، بعد أن قرأت الكثير مما يسمى شعراً عربياً، فيه من الغموض، وفيه من السفاسف والابتذال ما يبعده من الشعر، وفيه من الأغلاط العروضية والنحوية والصرفية والإملائية ما يبعده من العربية الفصيحة، بله الفصحى، حتى رأيتني أخشى على ذوقي من فسادها.
اكتبي بأناة ومن دون تعجل، كما تقرئين بأناة وتفكر وتأمل، ولا تنشري إلا على حذر، وهذا لا يعني أن تكون قصائدك حوليات، ولا نشرها متباعداً، بل يعني التريث والحذر حتى لا نقع في المطبات التي يستهين بها كثير من (شعراء) اليوم ومن الناثرين..
والسلام عليك في الأديبات المسلمات الخالدات.
22 من ذي الحجة 1429هـ
20 من كانون الأول 2008م