غموض الحكاية وضعف الرمز في قصيدة النثر
غموض الحكاية وضعف الرمز
في قصيدة النثر
أبو غوش سينتظر طويلا ليله الطويل
إبراهيم جوهر
يلفت نظر القارىء قوة العنوان الذي اختاره الشاعر ماجد أبو غوش بما يحمله من دلالات وحركة ولذّة مشتهاة ومنتظرة .
( أسمّيك حلما وأنتظر ليلي ) عنوان الديوان الذي ضمّ 48 مقطوعة شعرية تراوحت بين الطويلة نسبيا والقصيرة جدا ، وكأنها الطلقة السريعة أو النبضة التي تلقي حملها وتمضي مسرعة !
العنوان مقطع من بين ستة مقاطع لقصيدة حملت عنوان ( سكر ) ، وكلماتها كالآتي :
" الآن عند اكتمال القمر
واحتساء الذئب
لكأسه الأخيرة
سأسمّي الأشياء بأسمائها
سأسمّي الموت موتا
الحزن حزنا
الحبّ حبا
البحر بحرا
الشمس شمسا
وأسمّي السلطان
ب..... !
سأسمّيك قمرا
وأجدل لك قلائد الورد
بدمي
سأسمّيك غزالا
وأركض صوبك
مشرع القلب
مغمض العينين
سأسمّيك حلما
وأنتظر ليلي
سأسمّي الأشياء بأسمائها
وأمشي في الشوارع
بلا قدمين !
الآن أمضي
مع كأسي إلى آخر الحلم
وأول السّكر
لأصحو على الأشياء
وقد تبدّلت أسماؤها ! " ( صفحة 38 – 40 )
لقد حملت المقاطع الستة مضمونا متمرّدا رافضا حالما منتظرا وعاشقا ؛ لقول الحقيقة ، التي يمنعه السلطان من قولها ، وعاشقا لها ( سأسمّيك قمرا ) ويتضح لنا أنها فلسطين – الوطن من قوله : ( وأجدل لك قلائد الورد بدمي ) .
إنه يسمّيها ؛ قمرا ، وغزالا ، وحلما ، ( ص 39 ) ثم يقول : ( سأسمّي الأشياء بأسمائها ) ويعطف على فعل التسمية فعل المشي حين يقول : ( وأمشي في الشوارع بلا قدمين ) ، وكأنه يودّ القول إنه سيمشي خيالا لا واقعا ، رحلة في الخيال وليس الواقع ، مشي مجازي لا حقيقي ، وهذا يتناسب مع تسميتها حلما ، وانتظاره لليله ليراها ، ولكنه يتعارض مع تسميتها قمرا يجدل لها الورد بدمه ، فالتسمية هنا والفعل اللاحق لها الناتج عنها يدلاّن على العمل لا القعود والانتظار .
ويتناقض انتظار الليل ليراها في المنام حلما مع تسميتها غزالا وهو يركض صوبها مغمض العينين مكتفيا ببصيرة القلب ( سأسمّيك غزالا وأركض صوبك مغمض العينين ) .
في المقطع الخامس ( سأسمّي الأشياء بأسمائها وأمشي في الشوارع بلا قدمين )
كيف ؟؟ علينا أن نحلّل هذا التناقض للوقوف على المعنى الذي عناه الشاعر . مشي بلا قدمين ؟ واضح أن الشاعر لم يقصد المشي الحقيقي ، وواضح أن التعبير يحمل في داخله ضده . هل سيمشي في الخيال ؟ الشاعر لم يسمّ الأشياء بأسمائها هنا ، مثل تسميته لها في المقطع الأول الذي جاء باردا ، عاديا مشبعا بالنثرية والسطحية ، لا حرارة فيه ولا إيحاء . إنه سيسمّي الموت موتا ، والحزن حزنا ، والحب حبا .... ولا أدري ماذا كان يسمّي هذه الأشياء من قبل ؟! ولكنه سكت عن تسمية السلطان حتى وهو في قمة التسميات للأشياء بأسمائها !
في المقطع السادس ( الآن أمضي ، مع الكأس إلى آخر الحلم .... ) آخر الحلم هو أول السكر ، أو هما مشتركان في صدق البوح ، ؛ الحقيقة / الصحو . آخر الحلم هو الصحو ، وأول السكر _ حسب إيحاءات المضمون والجو العام هو المصارحة والجرأة ، إذ كان قد قال : سأسمّي الأشياء بأسمائها .
الحقيقة والمكاشفة ( المصارحة ) هما اللتان ستنتجان عن المضي مع الكأس إلى آخر الحلم وأول السكر حتى يصحو على الأشياء وقد تبدّلت أسماؤها ، أي تغيّرت وصارت حقيقية . ولكن ، أي الأشياء هذه التي ستتغير ؟
هل هي الأشياء التي ذكرها في المقطع الأول ؟ الموت والحزن والحب والبحر والشمس والسلطان الذي أبقاه بلا تسمية ، لعل الصحو الأخير يوجد له اسما ؟!
لقد أغرق الشاعر قصيدته برموز مغلقة قلقة حائرة جانبها التوفيق ، مما أفسد الانسجام الداخلي المطلوب لقصيدة النثر . وهو عبّر عن حالة من الخوف والحيرة والارتباك والإخلاص للمحبوبة / الوطن ، ولكن خطوات خفية ( بلا قدمين ) تحمل آثارا ضبابية في الرؤية لم تبددها الصورة الشعرية المجدولة من قلائد الورد والركض خلف الغزالة التي لم أفهم لماذا سيركض نحوها مغمض العينين .
ولكن !! وفي نظرة أخرى ومحاولة للاقتراب من النص المخفي ، هل لي أن أنطلق من قوله ( سأسمّيك حلما ، وأنتظر ليلي ) على أنه سيعمل ليلا وأنه ينتظر الليل ليجدل قلائد الورد بدمه ، ويركض صوب الغزالة مشرع القلب مغمض العينين ؟ ويمشي في الشوارع بلا ضجيج يكشف حركته ؟
من الممكن فهم هذا الفهم هنا .وهذه إمكانية أخرى لمقاربة النص الخفي المثقل بالرموز والغموض ، وهي تقترب مما اعتدنا عليه في تفسير رموز الشاعر الفلسطيني المسكون بالهم الوطني وفعل التغيير الثوري ... ولكن المقطع الأخير يصدم حلمنا في هذا الفهم والتأويل لأنه يعيدنا إلى آخر الحلم مع الكأس وأول السكر ليصحو على الأشياء وقد تبدّلت أسماؤها ! وعلامة التعجب من الشاعر هنا !
فهل ستتبدل أسماء الأشياء وحدها ، وقد قدّم لها كأسا وحلما وانتظر أول السكر ؟!
أرى هنا أن الشاعر لم يوفّق في تسيير حكايته الشعرية مع الظلم والخداع والذئاب في اتجاه التعبير عما يريده من حرية واستقلال وحقيقة غيّبها صحو الذئب .
ماجد أبو غوش هنا مثل شعراء كثر في الآونة الأخيرة . إنه يقترب من الرموز ولكنه لا يحسن توظيفها في مشروعه التعبيري فلا يترك بصمة مميزة في قصيدة النثر التي تغنيها لغتها الداخلية وإيحاءاتها وصورها ذات الإيقاع والحركة واللون .
لقد قادني عنوان المجموعة الشعرية للوقوف مع هذه القصيدة دون سواها ، لأنني توقعت أن أقرأ قصيدة يوازي جمال تعبيرها جمال الرمز والحركة والإيحاء ولهفة الترقب التي حملتها جملة العنوان ( أسميك حلما وأنتظر ليلي ) . ولا يخلو الاقتصار على قصيدة واحدة من ظلم لبقية القصائد التي احتواها الكتاب الذي جاء في 116 صفحة من لقطع المتوسط ، وهي قصائد جاءت على شكل برقيات ساخنة أحيانا ، وغاضبة أحيانا أخرى . ووجدت في بعض منها تعبيرا عن مشاعر إنسانية ووجدانية ووطنية أليفة ، كما وجدت في بعضها غضبا وانتقادا ، ووفاء ، وأملا ورجاء .
ففي ( عودة – ص 9 ) كانت عودة المرأة المنكوبة دلالة على استمرار المسيرة وعدم اليأس ، وفيها انتقاد واضح للفئة التي تمثلها المذيعة الجميلة التي لا تدري لماذا عادت تلك المرأة المنكوبة التي تقول قولا مؤثرا : عدت ( لأروي شجرة الياسمين ، حتى تظلّل الشهداء ) .
وفي ( قانا ص 11 ) تتعدد الضحايا في قانا وبيروت وبغداد وغزة والقاتل واحد ، إنه الولايات المتحدة الأميركية .
وفي ( البكاء على صدر غزة – ص 14 ) يظهر تأثّر الشاعر بعنوان رواية رشاد أبو شاور ( البكاء على صدر الحبيب ) وهي قصيدة ذات أبعاد وهندسة بنائية لافتة . لقد جاءت على شكل قطرات من الدمع متناسبة مع البكاء ، وكل دمعة / مقطع يمهد للدمعة التي تليه . أما مضمونها الباكي فيستثير الإعجاب للقدرة على التعبير الموجز السريع الموجع المعبر عن الألم والبكاء حين يقتل الأخ أخاه .
وقد أحسن الشاعر فيها حين وحّد بين ماء البحر المالح ودمعها ، تلك التي لم يعرّف بهويتها ليحددها القارىء بأنها الوطن الذي تشخّص في سيدة يخبرها بأن هذا الذي على ردائها دمه : ( ماء البحر مالح ، ودمعك ! نعم سيدتي ، هذا الذي على ردائك ، دمي ! والذي رفعني على الصليب ، كان أخي ! والذي دفعني إلى البئر ، كان أخي ! )
لقد توحد الشاعر مع الضحايا ، كما توحد ماء البحر مع الدمع ، والبحر هو بحرنا ، والدم هو دمنا ، والقاتل هو أخونا ...
ويتناصّ الشاعر هنا مع قصة يوسف عليه السلام في هذه البكائية على صدر غزة ، أو على صدر الحبيب ، المحملة بعاطفة الأخوة الأعداء ، وكأنها تحيلنا إلى قصة ابني آدم عليه السلام .
أخيرا ، هذا هو الكتاب الحادي عشر للشاعر ماجد أبو غوش . ومن حق الشاعر علينا أن نصدقه ، ومن حقنا عليه أن نطلب منه العمل على تنمية أداته الفنية ، والالتفات إلى أهمية بناء القصيدة وعجنها بماء الحياة ؛ الصورة الفنية ، واللغة الشعرية ، والرمز الشفيف الحاني . وألاّ يكتفي بقوة الفكرة التي لا تشفع وحدها للقصيدة .
مقدّمة إلى ندوة الخميس الثقافية / اليوم السابع 25/ 2 /010
الكتاب صدر دار النهضة العربية ، بيروت لبنان ، الطبعة الأولى 2009 م.