البناء الشعري البسيط
القصيدة الإسلامية نموذجا
سراته البشير
لقد تميزت القصيدة الإسلامية عن القصيدة الجاهلية في أمور عدة. لكنها لم تختلف عنها اختلافا كليا وجذريا، بل شكلت امتدادا لها ولأشكالها وأنماطها التعبيرية والتصويرية والدلالية، بل والبنائية الهيكلية كذلك، ذلك أن العديد من شعرائها كانوا بالأمس القريب منتجين ومبدعين لنظيرتها الجاهلية. إن القصيدة الإسلامية لا تشكل قطيعة مع سابقتها الجاهلية على مستويات الدلالة والبناء والتركيب والصورة، بل تتمة تغني مسيرة الشعر العربي، حيث نهلت من إبداعات الشعراء الفحول الأوائل كامرئ القيس والنابغة وعنترة وزهير...، وغرفت من بحر الفصاحة القرآنية المعجزة، وبيان الحديث النبوي الشريف، وشعر المسلمين في ذلك الوقت كحسان وكعب بن مالك وابن رواحة ولبيد ... وغيرهم.
ومن باب التوافق بين القصيدتين الجاهلية والإسلامية، تمثلهما لثنائية تخص مجال الإبداع وظروف إنتاجه، هي ثنائية الواقع والفن.. وهكذا ، وعلى غرار القصيدة الجاهلية،خضعت القصيدة الإسلامية لطغيان تجليات الواقع على الفن تارة، ولطغيان تجليات الفن على الواقع تارة أخرى.
إن القصيدة الإسلامية بدورها تشكلت من خلال نمطين اثنين: نمط واقعي بسيط على جميع مستوياته وبنياته اللغوية الشعرية، ونمط فني يعتمد الصنعة الشعرية، ويكثف الدلالات الانزياحية، ويسلك سبيل اللامباشرة للإدلاء بأفكاره ومواقفه، دون ان يلغي طبعا مظهر تعبيره عن ظروف واقعية نفسية ذاتية وجماعية.
والملاحظ للقصائد الإسلامية من حيث البناء الهيكلي، يلاحظ وجود عدد كبير من القصائد التي جاءت بسيطة في هيكليتها، حيث تسعى إلى موضوعها سعيا مباشرا دون ممهدات أومقدمات، قصائد تعبر عن المكنونات النفسية والواقعية لأصحابها الذين لايرون أهمية لأي موضوع آخر غير موضوعهم الرئيس الذي يسعون للتعبير عنه، والإفصاح عن جوانبه في مقام الإبداع الشعري.
يقول حسان بن ثابت في مدحه للرسول صلى الله عليه وسلم:(1)
أغر عليه للنبوة خاتم من الله مشهود يلوح ويشهد
وضم الإلاه اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
نبي أتانا بعد يأس وفترة من الرسل والأوثان في الأرض تعبد
ويقول في قصيدة واقعية بسيطة البناء، مادحا الرسول الكريم وصحبه يوم بدر:(2)
مستشعري حلق الماذي يقدمهم جلد النحيزة ماض غيررعديد
أعني الرسول فإن الله فضله على البرية بالتقوى وبالجود
وقد زعمتم بأن تحموا ذماركم وماء بدر زعمتم غير مورود
وقد وردنا ولم نسمع لقولكم حتى شربنا رواء غير تصريد
مستعصمين بحبل غير منجذم مستحكم من حبال الله ممدود
ويقول في قصيدة مدحية أخرى: (3)
والله ربي لانفارق ماجدا عف الخليقة ماجد الأمجاد
متكرما يدعو إلى رب العلى بذل النصيحة رافع الأعماد
مثل الهلال مباركا ذا رحمة سمح الخليقة طيب الأعواد
إن غرض هذه القصائد هو المدح. والعادة أن يكون المدح من خلال قصيدة فنية فخمة، حيث يذكر الشاعر ألمه وحزنه نتيجة خراب الديار ورحيل أهلها عنها، لينتقل إلى ذكر رحلته ممتطيا ناقته أو فرسه، مشيدا براحلته ومتذمرا من مشاق أهوال السفر؛ هذا السفرالذي لا تنتفي سلبيته هذه إلا بالوصول إلى شخص كريم عزيز، والمثول بين يدي أمير أو سيد جواد يفيض على الشاعر من جوده وكرمه، ويغدق عليه الرضا المادي والمعنوي...هذه هي هيكلية الكثير من القصائد المدحية التي صادفناها عند زهير والنابغة والأعشى. إلا أن هذا الشكل ينتفي في هذه القصائد التي مثلنا بها، لا تقليلا من قدر الممدوح، ولكن لإعلاء مكانته أكثر فأكثر.
إن الشاعر في هذه الأمثلة يرفض كل موضوع آخر يؤجل عنه تغنيه بخصال الممدوح وبصفاته ومكارمه.إنه ينقض على موضوعه مباشرة، مفرغا بذلك حمولته النفسية الشعورية والفكرية في أشكال لغوية تعبيرية تتجلى فيها مظاهر الواقع بشكل كبير.
وإذا كانت العلاقة بين الشاعر والممدوح في كثير من القصائد الجاهلية متمثلة في علاقة الصراع الناجم عن تخلي المبدع عن أناه وذاته، والاستسلام لرغبات الممدوح، فإن العلاقة في هذا المقام هي علاقة التوافق والتلاؤم، ذلك أن الحب الرابط بين الشاعر والممدوح ليس رياء أو نفاقا، بل هو حب حقيقي لا تؤسسه رغبات أو أغراض مادية صرفة. إنه حب من أجل نيل رضا الله والفوز في الدنيا والآخرة، حب صادق نابع من أعماق النفس الإنسانية التواقة للخير والسلام.
وإذا كان الشاعر الجاهلي مثلا يصارع الممدوح شعريا، ذلك الممدوح الذي سلبه عزته وكرامته، وذلك بإثبات أناه من خلال وحدات كالناقة أو الفرس، حيث يشيد بقوته وشجاعته، وبشدة بلاء راحلته، وكذا من خلال إثبات شاعريته وفحولته. إذا كان الشاعر الجاهلي كذلك، فإن الشاعر الإسلامي خاصة في مدحه للرسول الكريم وجموع المسلمين وكما تبين هذه الأبيات لا يرى قوته وعزته وكرامته، إلا في قوة وعزة وكرامة ممدوحه أو ممدوحيه. إن الشاعر فرد لايكتسب قيمته إلا من خلال انخراطه في الجماعة، سواء أكانت هذه القيمة مادية أم معنوية، بل إن الشاعر لن ينال درجته الشعرية والفنية إلامن خلال تمثل شعره لأفكاره ومبادئه التي يؤمن بها، والدفاع عنها، وهي نفس أفكار ممدوحه أو ممدوحيه.
وإذا كانت القصيدة المدحية المركبة الجاهلية نفيا للذات على المستوى الواقعي، وإن تحقق هذا الإثبات على المستوى الشعري، فإن القصائد المدحية الإسلامية البسيطة إثبات للذات على المستوى الواقعي، ما دام الشاعر عضوا في الجماعة التي يمدحها، وما دام الممدوح: الرسول الكريم، لا يسعى إلى جاه أو سلطان يدفعه إلى فرض شروطه الفنية التي يجب أن تتوفر في القصيدة المادحة، إذا ما أراد صاحبها أخذ العطاء، وهو ما يدفع هذا الأخير إلى التفنن في ضروب الرياء والتملق قصد التكسب.
إضافة إلى ذلك، تشكل هذه القصائد الواقعية إثباتا للذات على المستوى الشعري، حيث لها الفخر، كل الفخر في مدح خير الأنام، وأفضل الناس طرا؛ هذا المدح الذي لا يفاوت بين الناس بحسب أحسابهم أو أموالهم، بقدر ما يسوي بين جميع المسلمين كما أمر الدين الحنيف بذلك.
وهكذا يتضح أن هذه القصائد البسيطة، ذات البناء البسيط المباشر، لا تهدف إلا إلى إبلاغ أفكارها ودلالاتها التي تتضمنها، وهي أفكار ودلالات نابعة من صميم الذات والواقع والمجتمع؛ الذات المحبة والمؤيدة للرسول الكريم وصحبه، والراغبة في تحقيق مبادئ الخير والعدل والإخاء، وإشاعة نور الله في الأرض ورفض كل غي أو ضلال، وكل ملمح من ملامح الشرك والوثنية. كما أن هذه الأفكار نابعة من بواطن مجتمع مسلم يحارب بكل ما أوتي من قوة، مادية وشعرية، المجتمع الجاهلي الكافر، مجتمع الفساد واللغو، مجتمع الظلم والجور...
إن بناء هذه القصيدة يستجيب للظروف الواقعية التي تؤطر إبداع الشاعر، في حين يؤجل تجليات الفن لمرتبة لاحقة.. وبهذا يتضح أن هذه القصائد البسيطة واقعية من حيث البناء الهيكلي الذي اعتمدته، وهو بناء يثور على القواعد والأعراف الشعرية الفنية التي عرفت، بل وتأسست منذ العصر الجاهلي خاصة فيما يتعلق بالقصائد المدحية.
ويقول عبد الله بن رواحة مادحا الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يودعه عندما تهيأ القوم للخروج إلى غزوة مؤتة، وهي الغزوة التي استشهد بها:(4)
فثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصرا كالذي نصر
إني تفرست فيك الخير نافلة الله يعلم أني ثابت البصر
أنت الرسول فمن يحرم نوافله والوجه منه فقد أزرى به القدر
إن الشاعر في هذا المقام الشعوري والنفسي الحزين، وهو مقام الوداع، لا يحتاج إلى مقدمات أو ممهدات كيفما كان نوعها، بل يذكر خصال النبي بطريقة شعرية مباشرة، مبينا بذلك عن حبه الصادق له، والذي لا يمكن أن تؤكده إلا بساطة الشكل الشعري للقصيدة دونما حاجة إلى أعراف وقواعد فنية. إن هذه الأبيات الثلاثة التي استشهدنا بها تبين عن اندماج الأنا /الشاعر بالآخر /الممدوح في القصائد المدحية الخاضعة للنمط البنائي البسيط، اندماج نابع من ذلك الشعور الفياض المتدفق بالحزن الناتج عن الفراق الذي قد يطول، والذي قد ينتهي بالموت، خاصة أن الشاعر متجه للحرب؛ هذا الشعور الذي ذكره صاحب السيرة بقوله في معرض حديثه عن غزوة مؤتة التي وقعت في جمادى الأولى سنة ثمان. قال ابن اسحاق(5) :"... فلما ودع عبد الله بن رواحة مع من ودع من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى، فقالوا : ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال : أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله عز وجل يذكر فيها النار : (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا"(مريم الآية : 71) فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود. فقال المسلمون : صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين".
فهل يستقيم القول الشعري المبني على مقدمات طللية أو غزلية، وممهدات كالناقة أو الفرس أو الوادي في هذا الموقف الوداعي المحزن المؤثر؟ وهل يكون الشاعر حاذقا بليغا إذا سلك في بنائه الشعري غير الذي سلك ابن رواحة؟ طبعا لا. وهل تنقص أبيات ابن رواحة هذه قوة العاطفة وصدق الفكرة وبلاغة تصوير الموقف؟ طبعا لا. إن هذا الموقف الواقعي المرتبط بذات الشاعر ومجتمعه يتطلب إلغاء جميع القيود الفنية المكبلة لتدفق مشاعر الإنسان، وخوض غمار العملية الإبداعية الشعرية بكل بساطة وتلقائية. إن الشاعر في هذا البناء الواقعي البسيط يرضي نفسه، ولا يأبه بالآخرين. إنه يوفر لشعره شحنات فنية نابعة من صدقه التعبيري ومن حسن معالجته للمواقف والأمور.
إن هذا النوع من القصائد خاضع لغلبة تجليات الواقع، خاصة على مستوىالبناء الشعري، وهو ماصادفناه حتى في كثير من القصائد الجاهلية التي فضلت هذا المنحى الهيكلي، غير آبهة بالنمط الفني الذي حقق شهرة شعرية أكبر.
ويقول لبيد بن ربيعة في قصيدة إسلامية له: (6)
إنما يحفظ التقى الأبرار وإلى الله يستقر القرار
وإلى الله ترجعون وعند الله ورد الأمور والإصدار
كل شيء أحصى كتابا وعلما ولديه تجلت الأسرار
إن هذه القصيدة التي تضم عشرين بيتا، ليس لها من موضوع سوى الوعظ والإرشاد الناجمين عن الحس الإيماني العميق للشاعر. وما دام الأمر يتعلق بالتعبير عن مكنونات النفس الإنسانية، فإنه لا مجال للتصنع الشعري على مستوى البناء، بل المباشرة في التعبير عن هذه الأفكار، وإبراز دلالاتها، وبالتالي استخلاص العبر المتوخاة منها.
إن الشاعر لبيد الذي أبدع قصائد طوالا مركبة من وحدات متعددة كالطلل والرحيل والناقة والمدح، وغير ذلك، يتخلص من كل هذه القيود عندما يتعلق الأمر بمعالجة الواقع في شعره سواء في قصائده الجاهلية أو الإسلامية..
ويقول كذلك في موضع آخر:(7)
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
ونائحتان تندبان بعاقل أخا ثقة لاعين منه ولا أثر
وفي ابني نزار أسوة إن جزعتما وإن تسألاهم تخبرا فيهم الخبر
وفيمن سواهم من ملوك وسوقة دعائم عرش خانه الدهر فانقعر
فقوما فقولا بالذي قد علمتما ولا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي لا خليه خليله أضاع ولا خان الصديق ولا غدر
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
إن هذه القصيدة الشعرية للبيد تحمل ذلك النفس الشعوري الحزين والمؤلم، الباعث على البكاء، وعلى التفكر والتدبر إزاء حياة الإنسان التي لا تدوم، بل سرعان ما تنقضي أيامها ولياليها، ليبقى ذكر هذا الإنسان مرتبطا بخصاله وصفاته الحميدة التي عرف بها في حياته. هذه الخصال التي هي مصدر فخر واعتزاز ، كما هي عزاء لموته ونهايته.
إن إحساس الشاعر بدنو أجله، بالموت الذي يحيط به من كل جانب إحساس حزين، زاد من تأجيجه بكاء ابنتيه عليه، وهو ما جعله ينتج هذه القصيدة. من هنا نستخلص أن ملابسات واقعية صرفة هي التي تحكمت في عملية الإبداع هاته، وبالتالي لانتعجب إذا وجدنا تجليات هذا الواقع حاضرة بقوة وكثافة، لا أدل على ذلك من غياب البناء المركب الخاضع للقواعد الفنية الجافة ، البعيدة كال البعد عن تمثل الجانب العاطفي الذاتي للإنسان، والذي يفيض رؤى ودلالات وتصورات بطريقة صريحة واضحة صراحة ووضوح هذه العواطف والأحاسيس.
إن لحظة حساسة ومؤثرة كالموت، لا يتطلب الحديث عنها شعريا وصف الطلل والدار، أو التغزل بهند أو سليمى أو أسماء، أو الخروج إلى الصيد بامتطاء جواد أصيل مغوار، ولا ركوب ناقة عوجاء مرقال تقطع الفيافي كأنها سفينة تواجه عباب الموج؛ بل إن هذه اللحظة المفجعة، وهذا الحدث الجلل يتطلبان الدخول مباشرة في الموضوع الأساسي، الذي لا يحتمل التأجيل أو التأخير، ولا التصنع والتكلف في القول، وهذا منتهى الفحاة والبلاغة، وقمة الإبداعية والشاعرية. هذا لا يعني غياب قصائد شعرية مركبة فنية تتحدث عن الموت، وتتخذ الرثاء موضوعا لها. إن هذه القصائد موجودة في الشعر الإسلامي، وهي من خلال بنائها هذا تسعى إلى تحقيق أغراض وغايات متعددة، يعد التعبير عن خصال ومناقب الفقيد واحدا منها، وإن كان أهمها جميعا.
وقال كعب بن مالك الأنصاري يرثي ويبكي عبيدة بن الحارث الذي هلك من مصاب رجله يوم بدر::(8)
أبا عين جودي ولا تبخلي بدمعك حقا ولا تنزري
على سيد هدنا هلكه كريم المشاهد والعنصر
جريء المقدم شاكي السلاح كريم الثنا طيب المكسر
عبيدة أمسى ولا نرتجيه لعرف عرانا ولا منكر
وقد كان يحمي غداة القتال حامية الجيش بالمبتر
وقال حسان بن ثابت يرثي خبيبا بن عدي الأنصاري:(9)
يا عين جودي بدمع منك منسكب وابكي خبيبا مع الغادين لم يؤب
صقرا توسط في الأنصار منصبه حلو السجية محضا غير مؤتشب
قد هاج عيني على علات عبرتها إذا قيل نص على جذع من الخشب
وهكذا يتضح أن كثيرا من القصائد البكائية والرثائية في فترة صدر الإسلام أيام الرسول الكريم والخلفاء الراشدين، حيث كثرة القتلى المستشهدين نتيجة الفتوحات الإسلامية في شبه الجزيرة وخارجها، تميزت ببنائها الشعري الواقعي البسيط، الخالي من المقدمة الطللية أو الغزلية أو الخمرية، أو وحدات أخرى كالناقة أو الفرس أو الظعائن أو الوادي أو السيل.... هذا البناء يستجيب لظرفية حدث الموت الذي يصوغه المبدع الإسلامي شعرا، فينتج قصيدة إسلامية معبرة عن روح الإسلام وتعاليمه، عن آماله وتطلعاته، وعن الصعوبات التي تعترض نشر دعوته.
إن هذا البناء لم يأت اعتباطا، بل كان ملمحا من ملامح الواقع الإسلامي في تلك الفترة، حيث ضيق الوقت نتيجة توالي الأحداث بسرعة كبيرة، هذا التوالي الذي كان يجب على الشاعر أن يواكبه بالتعبير عنه. هذه المواكبة التي لم تكن لتستمر لولا إعراض الشاعر عن البناء الفني المركب الذي يتطلب زمنا طويلا من أجل التنظيم والتنفيد والتنقيح. إن الشاعر في هذا الخضم ليقدم أشعاره وقصائده في قالب بسيط، يمتاز بالحرية التعبيرية ولا يخضع لتلك النمطية المقننة لبناء القصائد.
هذا إضافة إلى أن الشاعر قد تحمل في يم هذه الأحداث والحروب والقضايا المصيرية وظيفة كبرى هي التعبير عن كل هذا : نصرة الدين الجديد والدفاع عنه، ومحاربة الأعداء والمناوئين من الكفار شعريا، ومدح الجنود والمحاربين الأبطال، ورثاء الشهداء المفقودين، وكذا تعليم مبادئ الدين الإسلامي للآخرين، ما دام الشعر ديوان العرب الذي لم يكن لهم ديوان غيره... إلى غير ذلك من الوظائف المهمة والخطيرة التي حملها الشعراء على عاتقهم في هذه الحقبة من التاريخ الإسلامي.
إن وظيفة الشاعر هذه وظيفة واقعية في جوهرها على مستويات متعددة اجتماعية وسياسية وأخلاقية ووعظية إرشادية. ونجاحها مرهون بتوفق صاحبها أي الشاعر في جني النتائج العملية المتمثلة في حث المسلمين على الجهاد، وتعليمهم دينهم، وبالمقابل الحط من همة وعزيمة الكفار والمشركين، والتشكيك في عقائدهم ومواقفهم.
وقال كعب بن مالك يوم بدر يشيد ببسالة المسلمين وشجاعتهم، ويهجو المشركين معتمدا في ذلك على بناء بسيط واقعي لا مجال فيه للهيكلية الفنية:(10
عجبت لأمر الله والله قادر على ما أراد ليس لله قاهر
قضى يوم بدرأن نلاقي معشرا بغوا وسبيل البغي بالناس جائر
وقد حشدوا واستنفروا من يليهم من الناس حتى جمعهم متكاثر
وسارت إلينا لا تحاول غيرنا بأجمعها كعب جميعا وعامر
وفينا رسول الله والأوس حوله له معقل منهم عزيز وناصر
لينهي قصيدته دون التعرض لغرض آخر سوى ما بدأ به بقوله:(111)
وكان رسول الله قد قال : أقبلوا فولوا، وقالوا : إنما أنت ساحر
لأمر أراد الله أن يهلكوا به وليس لأمر حمه الله زاجر
إننا نلاحظ أن الشاعر المسلم قد التزم البناء الواقعي، ليس في القصيدة الذاتية العاطفية المعبرة عن قضايا نفسية وشعورية صرفة تهمه وحده دون غيره، بل حتى في قصائد ذات مواضيع أخرى كالمدح والرثاء ثم الهجاء، وذلك لسبب بسيط يتجلى في كون هذه الموضوعات ليست شخصية، بل هي من صميم وظيفة الشاعر المسلم التي حملها الإسلام إياه، وفرضتها الظروف الواقعية عليه، والتي تشرف بقبولها وأدائها على أتم وجه، ولا أدل على ذلك من قول الرسول الكريم:(12) "أمرت عبد الله بن رواحة فقال وأحسن، وأمرت كعب بن مالك فقال وأحسن، وأمرت حسان بن ثابت فشفى واشتفى"، وكذا خبر عائشة فيما ترويه عن حسان لما أرسل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ليقلده وظيفته الخطيرة هذه(13) "قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه، ثم أدلع لسانه فجعل يحركه، ثم قال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم فري الأديم..."
وعن محمد بن سيرين قال :(14) "قال رسول الله صلى الله وسلم للأنصار : ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟ فقال حسان بن ثابت : أنا لها."
والملاحظ لديوان الشعر العربي في هذه الفترة، وخاصة للقصائد الإسلامية، ليستنتج استنتاجا مفاده غلبة القصائد ذات البناء الواقعي البسيط على نظيراتها الفنية الفخمة، ولا أدل على ذلك من كثرة الأولى في دواوين حسان وكعب وابن رواحة، وهم أكبر شعراء تلك الحقبة، وأكثر الوالجين إلى ساحة الصراع الفكري والشعري ضد كفار قريش. قال محمد بن سيرين:(15) "فكان يهجوهم ثلاثة من الأنصار : حسان بن ثابت، وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، فكان حسان وكعب يعارضانهم بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر، ويعيرانهم بالمثالب. وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر. قال : فكان في ذلك الزمان أشد القول عليهم قول حسان وكعب، وأهون القول عليهم قول ابن رواحة. فلما أسلموا وفقهوا الإسلام، كان أشد القول عليهم قول ابن رواحة".
إن أغلب قصائد هؤلاء الشعراء الثلاثة وغيرهم، لم تلتزم تعدد الأغراض والمواضيع في القصيدة الواحدة. وتجدر الإشارة إلى أن الحديث هنا يتعلق بالأشعار الإسلامية لا الجاهلية، لأن هؤلاء أنفسهم قد أنشدوا أشعارا جاهلية أثبتنا بعضها في الفصل المتعلق بتجليات الواقع والفن في القصيدة الجاهلية من قبيل التمثيل والاستشهاد.
إن الأمر هنا يتعلق بالقصائد ذات النفس والروح الإسلاميين، هذه القصائد التي لم تخضع لذلك التسلسل الهرمي المكون من مقدمة وتمهيد ثم موضوع كالمدح أو الهجاء أو الوصف أو الرثاء... هذا لا يعني غياب القصائد الإسلامية الفنية؛ فهي حاضرة وبكثرة، ولكن ليس بنفس درجة حضور القصيدة الإسلامية الواقعية.
وكثافة حضور القصائد ذات البناء البسيط راجعة إلى سببين اثنين متكاملين، أولهما انتشار المقطوعات الشعرية أو القصائد القصيرة، والثاني هو واقع الصراع والحروب خاصة الفتوحات الإسلامية.
أما العنصر الأول، فمرده إلى طبيعة الحياة الاجتماعية والسياسية، بل وحتى النفسية في ذلك العصر، لهذا جاءت هذه الأشعار أو القصائد أو المقطوعات معبرة عن موقف آني أفرزه حدث اجتماعي أو سياسي كالانتصار في موقعة أو الانهزام فيها، أو موت شخص عزيز، أو فتح قرية أو مدينة... هذه الأشعار لم تكن بذلك الطول الذي كان من الممكن أن يتجسد فيها لو عرف أصحابها حياة الاستقرار والسكينة والطمأنينة، ونعموا بالأمن والسلام وراحة البال.
إن هذه القصائد القصيرة ذات البناء الواقعي البسيط كانت تعبيرا شعريا إبداعيا عن أشياء واقعية عاشها الشاعر المسلم وعايشها، تأثر بها أو أثر فيها؛ أشياء واقعية استدعت تدخله بإنتاجاته الإبداعية للحسم فيها.
أما العنصر الثاني، والذي يتداخل مع العنصر الأول، فيتمثل في حياة الصراع ضد الكفار في بداية الدعوة ، حيث الحروب والمنازعات والمخاصمات المتوالية، وكذا حياة لنشر الدعوة الإسلامية خارج شبه الجزيرة العربية، فيما عرف بالفتوحات الإسلامية التي تطلبت رحيل آلاف الرجال عن ديارهم، وبالتالي بعدهم عنها، وتحملهم لآلام الغربة والوحشة وفراق الأهل والأحبة، من أجل الجهاد في سبيل الله، ونشر الدين الجديد وتعاليمه بين الأمم والشعوب. حياة اللاستقرار هذه هي التي جعلت الشعراء يعبرون عن مشاعرهم المتراوحة بين الفرح نتيجة نصر كلمة الله والرغبة في الفوز بالشهادة، وبين الحزن والألم لفراق الآباء والأبناء والأهل، في قالب شعري بسيط بعيد عن كل نمطية فنية.. أضف إلى ذلك تصوير هؤلاء الشعراء لحالات الصراع المرير ضد الأعداء، ولهول الحرب وشدتها... وهي ظروف لا تسمح فيما يبدو بإنشاد قصيدة مركبة البناء تتطلب التنظيم والتنسيق بين وحداتها وفقراتها، كما تتطلب بذل الجهد في استحضار القواعد والقيم الفنية المتعارف عليها منذ الجاهلية، وبالتالي تمثلها، والعمل على حسن توظيفها في ثنايا الأبيات الشعرية؛ فلا مجال للحديث عن الطلل مجازا كما كان يفعل الأوائل، والشاعر بعيد عن أهله وأحبته حقيقة، ولا مجال للحديث عن امرأة جميلة حسناء، يتضوع منها ريح المسك، والناس يخوضون غمار الحروب التي ذهبت بأرواح بعضهم، وأسالت دماء بعضهم الآخر. يقول ابن الأثير في هذا المجال: (16) "... وأما إذا كان القصيد في حادثة من الحوادث... فإنه لا ينبغي أن يبدأ فيها بغزل، وإن فعل ذلك دل على ضعف قريحة الشاعر وقصوره عن الغاية، أو على جهله بوضع الكلام في مواضعه."
كما انه لا مجال لذكر الناقة أو الفرس، والإشادة بدورهما في الوصول إلى الممدوح، لأن هذين الحيوانين يستعملان الآن في ساحة الوغى، ولا يمكن أن يوصلا إلا إلى الموت والشهادة، أو النصر والنجاة.
إن هذين العنصرين المذكورين أعلاه، متداخلان في عموميتهما؛ هذا التداخل الذي ولد قصائد تثور ضد كل أصناف المقدمات والممهدات التي عرفتها قصائد أخرى في هذا العصر.
يقول أحد الشعراء المحاربين، وهو يستجمع ذكريات وطنه وأهله، متمنيا لقاءهم، حتى وإن كان هذا اللقاء من باب الخيال:(17
أكرر طرفي نحو نجد وإنني إليه وإن لم يدرك الطرف أنظر
حنينا إلى أرض كأن ترابها إذا مطرت عود ومسك وعنبر
بلاد كان الأقحوان بروضة ونور الأقاحي وشي برد محبر
أحن إلى أرض الحجاز وحاجتي خيام بنجد دونها الطرف يقصر
وما نظري من نحو نجد بنافعي أجل لا ولكني إلى ذاك أنظر
أفي كل يوم نظرة ثم عبرة لعينيك مجرى مائها يتحدر
متى يستريح القلب إما مجاوز بحرب وإما نازح يتذكر
إن هذه القصيدة البسيطة في بنائها تفيض شوقا وصبابة وحنينا إلى نجد بلاد الشاعر ووطنه... وهكذا تتحول كل حواس الشاعرومشاعره إلى أصله الذي نبع منه، ليقدم لنا هذا الشعور الإنساني الفياض في قالب شعري واقعي، لا يعترف إلا بالصدق الشعوري المتمثل في التعبير المباشر بعيدا عن كل تصنع شعري.
وهذا شاعر آخر ينشد أبياتا يضمنها وبطريقة بسيطة، تلقائية ومباشرة، كل شوقه وحنينه إلى دياره في بني بكر، وكذا كل آلامه وأحزانه الناتجة عن الغربة والنأي والفراق. يقول ورد بن الورد:(18
أمغتربا أصبحت في رامهرمز ألا كل كعبي هناك غريب
ولا خير في الدنيا إذا لم تزر بها حبيبا ولم يطرب إليك حبيب
وهكذا يرفض الشعراء المسلمون، خاصة شعراء الفتوحات الإسلامية البناء المركب الفني للقصيدة الشعرية، وإن كان هذا الرفض ضمنيا غير صريح؛ هذا الرفض لا يعد إنكارا لجودة البناء الفني، فلا أحد يعتقد ذلك، ولكنه رفض لصلاحية وتوافق هذا البناء الفني والظروف الواقعية السياسية والاجتماعية والنفسية التي يعيشها الشاعر المسلم، وهي ظروف تتطلب منه السرعة في إنتاج إبداعاته الشعرية، وكذا المباشرة في الخطاب، دون أن يعني هذا إرغام الشعراء على التخلي عن الفنية في طابعها الكلي والشمولي، وتحويلهم إلى مجرد خطباء ووعاظ.
ولقد تم التصريح برفض البناء الفني للقصيدة الشعرية، وبالتالي الطعن في قيمة المقدمة الطللية، ومدى صلاحية تضمينها في القصائد، خاصة عندما يتعلق الأمربقضايا حساسة ومصيرية يجب أخذها بعين الجد شعريا، لا السعي إلى التلاعب بالألفاظ والأفكار والأخيلة عند تقديمها. هذا الموقف النقدي المعادي للعرف الفني الشعري، يعبر عنه حسان ابن ثابت في إحدى قصائده، على الرغم من كون هذا الشاعر قد أنتج قصائد فنية سواء في الجاهلية أو الإسلام: يقول :(19
يا للرجال لدمع هاج بالسنن إني عجبت لمن يبكي على الدمن
إني رأيت أمين الله مضطهدا عثمان رهنا لدى الأجداث والكفن
يا قاتل الله قوما كان شأنهم قتل الإمام الأمين المسلم الفطن
ما قاتلوه على ذنب ألم به إلا الذي نطقوا بوقا ولم يكن
إذا تذكرته فاضت بأربعة عيني بدمع على الخدين محتتن
إن الحدث الواقعي الذي أنشدت فيه هذه القصيدة هو مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ هذا الحدث لم يكن ليسمح للشاعر إلا بالتعرض له مباشرة دون مقدمات أو ممهدات لا علاقة لها ظاهريا بقضية الموت. لذلك يتعجب الشاعر من أولئك الذين يبكون على الديار والدمن الصم البكم، تعجبا أقرب إلى السخرية والتهكم. إن البكاء على الفقيد الغالي أولى بالتقديم، ولو كان ذلك خروجا على سنة الشعر الراقي الحسن.
هكذا يتضح أن كثيرا من القصائد الإسلامية، لم تلتزم البناء الفني المركب المعتمد على تعدد الأغراض والمواضيع، وإن كان هذا التعدد ظاهريا فقط، كما أنها لم تلتزم بالمقدمة الطللية أو الغزلية التي ضمنها الكثير من الشعراء الفحول في أشعارهم، وركز عليها النقاد باعتبارها مقياسا للجودة الفنية.
إن اعتماد كثير من القصائد الإسلامية على البناء الواقعي البسيط، يعني استجابة هذه القصائد للواقع بمختلف تجلياته السياسية والاجتماعية والنفسية، وبالتالي التعبير عن الذات الإنسانية في علاقتها مع هذا الواقع المتمثل في بروز الدين الجديد، وما نتج عنه من حالة الصراع بين أطراف متناقضة متباينة في الفكرة والعقيدة.
(2) نفسه: ص: 133.
(3) نفسه: ص 134 135.
(5) السيرة النبوية : 4/6
6) ديوان لبيد: ص: 41
(7 نفسه ص : 213 214.
8) سيرة ابن هشام: 2/ 298 299.
(9) ديوان حسان ص : 106 107.
(10) سيرة ابن هشام : 2/289 290.
(11 نفسه : 2/290.
12) الأغاني : الأصفهاني : 4/149.
13) عون الباري : 4/22.
14) الأغاني : 4/144.
15) ) نفسه : 4/144 - 145.
17 ياقوت الحموي : معجم البلدان 5/262 263
ط : 1977. دار صادر. بيروت.
(18) معجم البلدان : ياقوت الحموي 3/17 18.
19) ديوان حسان :ص : 464.