الانتفاضة في أدب الوطن المحتل
الذي لا يفهم بالكلام يفهم بالحجر: الانتفاضة... كثورة إنسانية...
قراءة في قصة "الزمن الجديد" لنبيل عودة من كتاب
نبيل عودة
كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة
محمد توفيق الصواف
من أي نواحيها نظرنا إليها وتمعناها، باحثين ومحللين، نخرج بقناعة ثابتة تؤكد أن الانتفاضة ثورة إنسانية، بكل ما تحمله كلمة (إنسانية) من معنى... فهي إنسانية في منطلقها وبواعثها؛ إنسانية في أهدافها وغاياتها... وإنسانية حتى في أساليب ممارسة أبطالها لفعلهم النضالي اليومي..
وبالطبع، لا يمكن اتهام هذا التوصيف بأنه من قبيل المبالغة التي قد يوحيها إنسياق الباحث العربي وراء مشاعره القومية، ذلك أنه -أي التوصيف- يستمد مصداقيته وموضوعيته وقوة اشعاعه، كحقيقة وواقع من استقراء سيرورة وقائع الانتفاضة وأحداثها، منذ انطلاقتها وإلى اليوم..
فمن ناحية البواعث، نلاحظ أن انطلاقة الانتفاضة جاءت، بالدرجة الأولى، تعبيراً عن رفض الإنسان الفلسطيني لاستمرارية وجود المحتل الإسرائيلي فوق الأرض العربية، بأي شكل، وتحت أي ذريعة... أي كانت الانتفاضة تعبيراً عملياً عن الرغبة الفلسطينية الكامنة والمصممة على تحقيق الحرية للأرض الفلسطينية، وللإنسان الفلسطيني، في آن واحد معاً... هذه الرغبة التي ولدت لحظة وضع المحتل قدمه فوق الأرض العربية، معلناً اغتصابه القسري لها...
وبالتأكيد، ليس ثمة من يستطيع الزعم بأن سعي الإنسان، أي إنسان، لتحرير أرضه من غاصبها، وتحرير نفسه من نير هذا الغاصب وسيطرته وممارساته، يعدّ سعياً لا إنسانياً.. ذلك أن الحرية، وبأي المعايير قيمناها، هي مطلب إنساني مشروع ومسوغ... وكيف لا، والحرية تعني قضاء على الظلم والاضطهاد، وخلاصاً من كابوس القهر الذي يجثم على صدر من يتعرض لهما ولما يدفعان إليه من ممارسات، يتناقض، حتى أهونها، مع أبسط حقوق الإنسان والمبادئ الإنسانية؟ كيف، وعلى الصعيد الفلسطيني تحديداً، تعد الحرية الشرط الأول والأخير والوحيد، لاعادة اللحمة إلى الكيانية الفلسطينية المتشظية، والمبعثرة هنا وهناك، في شتى بقاع الأرض...؟ وهل يمكن للشعب العربي الفلسطيني أن يمتلك القدرة على تقرير مصيره بنفسه، أو أن يحقق حلمه بإقامة دولته المستقلة على كامل تراب وطنه، إلا إذا نجح أولاً، في تحرير هذا التراب تحريراً كاملاً، يتيح له لملمة شظاياه المبعثرة، وإعادة تركيب كيانيته من مجموعها...؟
من هذا المنظور المحدد، وحسب معاييره، تبدو بواعث انطلاقة الانتفاضة ودوافعها، ذات اتجاهات وأهداف إنسانية واضحة، لا لبس فيها... ومن هذا المنظور المحدد أيضاً، طرحها نبيل عودة في قصته الرائعة (الزمن الجديد) *، مؤكداً هويتها كثورة إنسانية مشروعة، تستمد مسوغات انطلاقها واستمرارها، من كونها محاولة لتجسيد تطلع الإنسان الفلسطيني إلى تغيير واقعه المأساوي القاسي الذي عانى فيه، ما عانى، من عيش باهظ مرهق، خلال عشرين سنة، في ظل الاحتلال الإسرائيلي العنصري، بواقع آخر جديد، أهم ما يميزه هو كونه نقيض واقع الاحتلال الذي انطلق منه، في المعطيات والسمات والآفاق، على حد سواء...
ويقدم نبيل رؤية الفلسطيني الخاصة لواقعه الجديد المأمول، عبر شريط الحلم الذي يكبر في نفس أحد أبطال القصة أمنيات، ولهذا نراه يسلط الضوء على مخيلة هذا البطل، ليمكننا من قراءة ما يتشكل على صفحتها : " كان يحلم بزمن مختلف يخلص الإنسان من غربته، ينقذه من وحشته... زمن يعطي للثمر طعمه الحقيقي، وللكلمة وقعها الصحيح، وللحب معناه الإنساني الأصيل. فيه تنتهي المعاناة وتمتد السعادة. يتضاءل القهر وتفيض النشوة." *
بشيء من الجرأة، يمكن الزعم أن هذا الحلم الطيب البسيط والعادل هو وإلى حد ما، الجانب الأكبر من الوجه الإنساني للانتفاضة، وهو أساس رسالتها... وانطلاقاً من مفردات هواجسه، يبدو واضحاً أن الإنسان الفلسطيني لم ينطلق في ثورته، يطلب مستحيلاً، أو يسعى إلى هدف غير مشروع... بل انطلق طالباً أبسط حقوقه كإنسان... انطلق حالماً بالخلاص من كابوس غربته ووحشته، وراجياً عودة المياه إلى مجاريها الطبيعية في حياته... كيما يتمكن من تذوق الطعم الحقيقي للثمر في فمه، وكيما تلتقط أذناه الوقع الصحيح للكلمات... انطلق ليشعر بالمعنى الإنساني للحب في قلبه المتعب... انطلق جائعاً للسعادة والفرح اللذين حرمته منهما قسرية معاناته للقهر في ظل الاحتلال...
إن مجمل هذه الأهداف /الرؤى، هي بواعث الثورة الفلسطينية الحالية، وهي، في نفس الوقت، نقيض بواعث الإسرائيليين في سعيهم الهستيري الرامي إلى قمعها والقضاء عليها... إن ثمة توحداً مثيراً، يقدمه نبيل عودة، في المقطع الآنف بين الباعث والهدف في نفس الفلسطيني... وهو توحد يعطي لثورته دفقاً رائعاً، وقدرة مذهلة على الاستمرار، على الرغم من كل الصعاب والعوائق.. لأنها، في نظره، ثورة الإنسان لاستعادة إنسانيته، ولرفض كل ما من شأنه محاولة إلغاء هذه الإنسانية أو تحطيمها..
ولكم تتأكد إنسانية هذه الثورة، وتزداد ألقاً وروعة، حين نتمعنها من زاوية السلاح الرئيس لأبطالها... هذا السلاح البسيط والبدائي جداً، ما كان يمكن له أن يكون فعالاً ومجدياً في مواجهة أعقد أنواع الأسلحة الحديثة، وأكثرها تطوراً وقدرة على الفتك، لو لم يكن معبأ بإرادة إنسانية صادقة، همها الرئيس أن تعيد للسماء زرقتها وشمسها، ولعيون الأطفال ألقها وحيويتها وإنعكاسات الاطمئنان والحبور في نظراتها... لم يستورد الإنسان الفلسطيني سلاحه هذا من الدول الصناعية المتقدمة، ولم يصنعه من مواد لا حب فيها، بل أخذه جاهزاً للإستعمال من الأرض التي أحبها، ويسعى إلى تحريرها من غاصبها وظالمه... حتى ليتهيأ للوهم أحياناً، أن هذه الحجارة الرائعة ليست سوى قلب الأرض الذي فتتته همجية الغاصب، فانتثر على السطح، فحمله ابن الأرض سلاحاً وقرر به، وبه وحده، إعادة الأمور إلى نصابها... والأفلاك التي تاهت سنين إلى مداراتها الأصلية... وعبر هذه الرؤية تتوحد الانتفاضة /الثورة ... ثورة الأرض وإنسانها، في كلّ لا يتجزأ...
ولعل من المثير حقاً، ثقة الإنسان الفلسطيني بجدوى حجارة أرضه كسلاح فعال، وبقدرة هذا السلاح على هزيمة البنادق والقنابل وغيرها، أي على انتزاع النصر... ويمكننا استشفاف هذه الثقة عبر متابعة ما يعرضه شريط الأمنيات على مخيلة /وليد/ أحد أبطال قصة (الزمن الجديد)
ففي لحظة استشراف للمستقبل المرتجى، يرى هذا الطفل الفلسطيني نفسه، وقد صار طاعناً في السن، يجلس بين أحفاده، ليقص عليهم معجزة النصر الذي صنعه جيله بحجارة الأرض...: "عندما يبلغ من العمر أعتاه ويجلس مع أحفاده، سيحدثهم عن أيام زمان. حاول أن يصغي لصوته. أن يكون فكرة عن هيئته عجوزاً طاعناً يحدث أحفاده عن زمانه الكبير السابق، يوم صار الحجر أسلوباً سياسياً." * ومن اللامعقول الذي صيرته إرادة التحرير الصلبة، في نفس الفلسطيني، معقولاً، ينطلق خيال وليد في محاولة لإضاءة المعجزة، "ثورة حجارة في عصر الفضاء. ينظر إليه الأولاد مشدوهين بحديث العجائب، غير قادرين على التصديق، محاولين استخراج الحقائق من جدهم الذي تعتعه الكبر. ولكن الجد يبتسم، ويهز رأسه متأملاً أحفاده، قائلاً بصوته الخشن:
"- الذي لا يفهم بالكلام يفهم بالحجر." *)
هذا هو العنوان الإنساني لهذه الثورة الشعبية الجبارة... إنها ليست إرهاباً أو عصياناً، أو فوضى وعدوانية متطرفة، كما يصفها أعداؤها، وإنما هي حوار، ولكن بلهجة أخرى وأسلوب آخر... وحتى حين يثور القلق في نفس وليد الصغير سؤالاً حول جدية الحوار بالحجارة وجدواه، وحول واقعية المواجهة بين الحجر والبندقية أو القنبلة، ما يلبث أن تزيل ثقته.بحجارته ما ثار في نفسه من قلق عابر... : "والذي لا يفهم بالحجر؟ احتار بعض الشيء... وفكر في السؤال الذي طرحه على نفسه، ثم اشرقت ابتسامة خجلى على وجهه، وتمتم نفسه مجيباً نفسه على سؤاله: سيفهم بالمزيد من الحجارة.." *
وهذا الاصرار على بلوغ النصر بالحجارة وحدها، يفتح المجال أمام إشراقة إنسانية الانتفاضة، ورؤيتها من زاوية ثالثة، هي زاوية موقف الثائر الفلسطيني /الإنسان/ من عدوه العنصري ومحتل أرضه... وهو الموقف الذي عرضنا الجانب الأكبر منه، في الفقرة السابقة من هذا الفصل...
فمن خلال إعادة القراءة للحوراية التي أدارها نبيل عودة على مسرح وعي بطل قصته (الحاجز) – ( راجع دراسة عنها تحت عنوان : " قراءة في قصة الحاجز ) ، بين ذلك البطل ونفسه، في لحظة صراع فريدة وحرجة بين نداء واجبه الإنساني، كطبيب، تجاه جريح ينزف دماً، ويجب اسعافه، وبين نداء واجبه القومي والوطني، كفلسطيني، يعد هذا الجريح عدواً له وغاصباً لأرضه من خلال هذه الحوارية، والموقف (الهاملتي) الذي تجسده، ومن خلال إصرار /وليد/ وغيره من ثوار الانتفاضة على أن يكون الحجر سلاحهم الوحيد لتحقيق أهداف ثورتهم، يمكننا إضاءة إنسانية الموقف الفلسطيني، وإنسانية الرسالة الثورية المبنية عليه والمنبثقة منه، أكثر...
إن أبطال هذه الثورة، لم يخرجوا مقاتلين بحجارة أرضهم انتقاماً، وإنما رغبة في التغيير... وبالتالي فليس هدفهم القتل وإنما الدفاع عن أنفسهم، وعن أجيالهم القادمة، من التعرض للقتل، بسبب وبدون سبب على الغالب.. وإذا كان ثمة ما يؤكد هذا التوصيف، فهو موقفهم من عدوهم الساعي إلى قتلهم حين يتمكنون منه، وقد فقد حوله وقوته، بوقوعه جريحاً، أوأسيراً في أيديهم...
ففي مثل هذه الحال، لا نراهم يحاولون قتله، تشفياً وانتقاماً، بل على العكس، يعزفون عن استغلال فقدانه القدرة على حماية نفسه والدفاع عنها، ويتعالون عن الإضرار بمن غدا عاجزاً عن إلحاق الضرر بهم... لا، بل أكثر من ذلك، نراهم- كما في قصة (الحاجز)، يمدون له يد المساعدة، ويحاولون انقاذه، دافعين عنه كأس الموت التي كان يريد تجريعها لهم... كل هذا من فيضان نبع الحب الإنساني وطهارته ونقائه في قلوبهم.. فبمجرد فقدان هذا العدو لقدرته على مواصلة العدوان، يتحول، في نظرهم، إلى مجرد إنسان... إنسان "لدمه نفس اللون، لجراحه نفس الآلام..." ** ولهذا، لا يرون كبير ضير في إنقاذه.... ولا يشعرون، لحظتذاك، بأي تناقض بين موقفهم الوطني والقومي وما يحتمه عليهم تجاهه، كعدو، وبين مشاعرهم الإنسانية تجاهه أيضاً، كجريح ينزف... "أكرهه كعدو... لا جدال في ذلك، لكنه ينزف." **
إنه امتزاج عميق ورائع بين مشاعر قوية... امتزاج بين الوطني والقومي والإنساني، في إطار رؤية نبيلة وشاملة، رؤية تمتد جذورها عميقاً في أرض التاريخ العربي والرسالة العربية الإنسانية التي حرمت على جدّ هذا الفلسطيني الثائر اليوم، أن يتعرض لامرأة أو شيخ أو طفل أوأن يقتل جريحاً أو مسالماً، أو يقطع شجرة، مع أن ذلك الجد العظيم لم يكن، وقتها، في موقع المستضعف، بل في موقع الفاتح المالك لكل مقدرات القوة والبطش...
نعم، فمن صلب هذه الفلسفة، من معين هذه الرؤية النبيلة، حددت الانتفاضة هدفها وموقفها تجاه عدو الإنسان الفلسطيني وأرضه، وحددت ما تريده من هذا العدو، بشكل واضح... إن فعالياتها تتجه رأساً إلى محاولة تحطيم عدوانيته، وإلى القضاء على ممارساته العنصرية اللاإنسانية، إلى قتل الذئب الكامن فيه... أي إلى محاولة القضاء على وجود الاسرائيلي كمحتل للأرض ومضطهد لانسانها، وليس إلى محاولة القضاء على وجوده كإنسان... بل، وربما ليس في هذا أي مبالغة، يمكن القول: إن الانتفاضة تدافع عن الإنسان في نفس الإسرائيلي، وتحاول أن تنقذه من براثن ذئبيته العنصرية، حين تحاول منعه من ممارسة هذه الذئبية ضد الإنسان الفلسطيني..
وهذا كله يعني: أنه لا يجوز، بحال من الأحوال، النظر إلى الانتفاضة كعدوانية مضادة لعدوانية المحتل العنصري، بل كثورة إنسانية هدفها التصدي لتلك العدوانية وتعطيلها، والحيلولة بينها وبين بلوغها ما تهدف إليه، وذلك عن طريق وصول هذه الثورة إلى هدفها الاستراتيجي الأخير، إلى تحرير الفلسطيني وأرضه...
وفي القصة، كما في الواقع تقريباً، نلاحظ اهتمام عديدين من مؤلفي قصص الانتفاضة، في الوطن المحتل، بالدعوة إلى الإصرار على مواصلة التحدي والنضال حتى تبلغ الثورة كامل أهدافها... وهم، في معرض طرحهم لهذه الدعوة وتأكيدها، لا يغفلون ما تكلفه تلبيتها من تضحيات باهظة جداً، ولكنهم يحاولون تسويغ احتمال تلك التضحيات بالإشارة إلى أنها مهما بهظت، يظل احتمالها أهون وأقل بما لا يقاس، من احتمال نتائج اخفاق الانتفاضة في الوصول إلى أهدافها... وعلى أساس قناعتهم بصوابية هذه الرؤية، نراهم يرفعون اصبع التحذير، معلنين أنه من الممنوع على من شقوا الطريق أن يتوقفوا في منتصفه، أو أن ينكصوا عائدين مسربلين بيأسهم وإخفاقهم...
ولأن التزام هذا الممنوع ضرورة، لا جدال فيها، برأيهم، نراهم يحرصون على تجنب تقديم ثائر الانتفاضة، إلى قارئهم، كبطل فرد، كلي القدرة، بوجوده وبقائه تستمر الثورة، وبانقصامه أو استشهاده تتوقف وتنتهي... وهذا يعني، اقتناعهم بضرورة نفي البطولة الفردية، في القصة والواقع، على حد سواء، والتأكيد بالمقابل، أن الانتفاضة هي فعل جماعي، وأن نموذج البطل فيها، هو مجموع الشعب وليس أي فرد من أفراده، حتى وإن تهيأ للوهم احتمال أن يكون هذا الفرد خارقاً...
ومن الملاحظ أن طرح مؤلفي قصص الانتفاضة، في الوطن المحتل، لموضوع الدعوة إلى الإصرار على مواصلة التحدي والثورة، لم يكن طرحاً خطابياً مباشراً، كما أنه لم يشكل، في أيّ من القصص، محوراً موضوعياً مستقلاً، بل كان متضمناً في سياق التأكيد لنفي مفهوم البطولة الفردية، في صنع أحداث الانتفاضة ومنجزاتها، وبالتالي، نفي احتمال توقف استمرارية الانتفاضة بسقوط أيّ من أبطالها أو القضاء عليه...
ومن أكثر قصص الانتفاضة احتفالاً واهتماماً بهذين الموضوعين، ومن أكثرها وضوحاً في طرحهما، قصة (الزمن الجديد) لنبيل عودة. ففي نهاية هذه القصة الغنية، يسقط قائدها الفذ (سليم) شهيداً، قبل أن يكمل ما بدأه من تغيير في قناعات أهل قريته ومفاهيمهم ومواقفهم، وقبل أن تكتحل عيناه برؤية نتائج التغييرات التي أحدّثها واقعاً ملموساً.... ولكن استشهاده لا يعني توقف أهل قريته عن مواصلة الثورة التي هيّأهم لتفجيرها والاستمرار فيها، سواء بقي هو الذي يقود خطواتهم فيها، أو صار القائد غيره.. فالثورة ليست هذا الفرد أو ذاك، حتى وإن كان صانعها ومفجرها... وبالتالي، فإن استشهاد القائد لا يهم كثيراً، ما دام يوجد بين أتباعه والمؤمنين بنهجه وأفكاره، من يستطيع حمل المسؤولية بعده..
بل إن أي ثائر صادق، يرفض أن تنتهي ثورته وتنطفئ بانتهائه قائداً لها... ذلك أن مثل هذا الثأئر لا يعنيه كثيراً أن يشهد بعينيه نتائج ما بدأه، بل يعنيه استمرارية السعي إلى تحقيق ما خطط له، في حركية من يليه /النابعة من إصرارهم على إكمال الدرب التي بدأها.. لأنه، وبهذه الإستمرارية فقط، يتحول استشهاده إلى حياة، فيسطيع أن يرى ثمار نضاله وانتصار رسالته بعيون الذين تابعوا حملها بعده، ونجحوا في تحقيق أهدافها واقعاً.. أي يتحول موته إلى معبر لخلوده...
وإيماناً من سليم نفسه بهذه الحقيقة، نجد أن جوهر الوصية التي يتركها لأتباعه هو دعوتهم إلى ضرورة مواصلة الثورة بعده، فيما لو سقط شهيداً وبالفعل، ما يكاد خلفه (وليد) يتيقن من استشهاد ذلك القائد الفذ، حتى ينطلق في أزقة القرية وحواريها، ناشراً تلك الوصية، ليحضّ أهل القرية على متابعة الثورة التي فجرها سليم، صارخاً بأعلى صوته:
- "سليم لم يمت... سليم معنا للأبد... سليم يقول لكم لا تصدقوا أنه يموت... سليم يقول لكم اصمدوا، واحموا كل البلد. سليم يحبكم وينتظر أن يسمع أخباركم المشرفة... سليم معكم في كل مكان. سليم يوصيكم أن تدفنوه في تراب وطنه المحرر سليم لا يموت... لا يموت... لا يموت.". *
من الواضح أن سليم في الصياغة السابقة، قد خرج من محدودية كينونته المادية الضيقة، ليصير رمزاً تتجسد فيه روح الثورة الشعبية التي فجرها في أهل قريته، وليصير رمزاً لكل الشهداء الذين ضحوا بحيواتهم الدنيا من أجل إيصال مبادئ الرسالة التحريرية لثورة شعبهم إلى أهدافها، ومن أجل تجسيد هذه الأهداف كحقائق، على أرض الواقع... ولهذا، فهو لا يموت، ولا يمكن للموت أن يجد سبيلاً إليه... لأن موته، على مستوى الرمز الذي يجسده، يعني انطفاء شعلة الثورة بعده، واستحالة وصولها إلى تحقيق أهداف رسالتها...
وعلى افتراض صحة القراءة السابقة لنهاية قصة (الزمن الجديد)، يمكن القول إن الدعوة إلى ضرورة مواصلة الثورة، متضمنة في كل جملة دخلت في تركيب تلك النهاية... وتكاد هذه الدعوة تتخذ صيغة الخطاب المباشر، في دلالات الجملة الأخيرة التي يوصي فيها سليم أهل قريته بأن يدفنوه في تراب وطنه المحرر... إذ كيف لهذه الوصية أن تنفذ، إن لم تستمر الثورة بعده، حتى تحقق كامل أهدافها، وخاصة هدفها /الغاية... أي تحرير تراب الوطن الذي أوصاهم أن يدفنوه فيه...؟
الدعوة إلى تطهير صفوف الشعب الثائر من العملاء
إلى حد ما، يمكن القول: إن إطلاق هذه الدعوة قد تزامن مع إطلاق الدعوة السابقة... وإذا كانت الدعوة السابقة هي نداء موجه للفلسطينيين، في الوطن المحتل، من أجل المبادرة، ذاتياً، إلى التطهر من رجس العمل في مؤسسات العدو وأجهزته، لما يجلبه هذا العمل من العار لصاحبه، فإن الدعوة الثانية هي أشبه ما تكون بإنذار تهديدي موجه إلى المتورطين، من أبناء الوطن المحتل، في التعاون مع سلطات العدو، ضد أبناء شعبهم... وعلى هذا يمكن توصيف الهدف من اطلاق هذه الدعوة بأنه محاولة جادة لتطهير هذا الشعب من عملاء العدو المندسين، بين صفوف أبنائه الثائرين..
ومن مراجعة مضمون هذه الدعوة التطهيرية، يتبين لنا أن قيادة الانتفاضة لم تقف عند مطالبة أولئك العملاء، بمجرد الكف عن الاستمرار في ممارسة عمالتهم للعدو، وإنما دعتهم، إضافة لذلك، إلى الإعتراف العلني بجرمهم، ثم طلب الصفح من الشعب، وإعلان التوبة والالتزام بها، على رؤوس الأشهاد فمن استتاب منهم وأقلع، تاب الشعب عليه، وصفح عمّا سلف منه، أما من أبى، فقد استحق عقاب الخائن، أي الإعدام..
وبين المتوفر من قصص الانتفاضة، وردت إشارة قصيرة إلى هذا الموضوع في قصة (الزمن الجديد)، لنبيل عودة. وكان ورودها، في سياق صراع بطل القصة سليم، بعد أن زعمّه أهل قريته عليهم، مع المختار القديم الذي كان -كما توحي القصة- متعاوناً مع سلطات الاحتلال، ومستزلماً لهم...
فوسط حشد من كبار القرية، وأهلها، توجه سليم إلى المختار القديم، داعياً إياه إلى الاستتابة عن التعامل مع العدو، تحت أي ذريعة، وبأي صيغة وإلى إعلان التزامه بهذه التوبة، أمام الملأ جميعاً.. ثم منذراً إياه، في ذات الوقت، بأن الأمور قد خرج زمامها من يده، وآل إلى الثوار؛ وعلى هذا، فليس أمامه، وأمام أمثاله، سوى خيارين لا ثالث لهما: إما إعلان التوبة، ويعفو الشعب عما مضى، وإما مغادرة القرية، دون إبطاء: "نحن نرحمك ونقبل توبتك. ونحن لا نفرق بين أحد. نظمنا كل شؤون البلد. الشباب أمسكوا بزمام الأمور. وليعلم الجميع أن الذي لا يتوب لن يكون له موطئ قدم بيننا.". *
وفي القصة، كما في الواقع، يدرك المختار، ومن ترمز إليهم شخصيته القصصية، أن التغيرات المستجدة، والأوضاع التي نجمت عنها، لا تساعدهم على تحدي هذه الدعوة التحذيرية الجادة الموجهة إليهم... ولهذا، فإن من الحكمة والخير لهم، كما قدّروا ، أن يبادروا، إلى تلبيتها، وإظهار الانصياع لما تطلبه منهم. أي، أن يبادروا، فيحنوا رؤوسهم وهاماتهم أمام عاصفة الانتفاضة، ريثما تمر، على أمل أن تعود مياههم إلى مجاريها القديمة، بعد أن تهدأ الأحداث، وتستقر وهذا ما رمى إليه نبيل عودة، في صياغة جملته الإخبارية التي ضمنها إعلان المختار لتوبته: "وبعد أن أيقن المختار أن البلد لم تعد تلك البلد قبل تفجّر الأحداث، أعلن توبته، ولكنه بقي بنفس العقلية.". *
وواضح، في المقطع الأخير من الجملة السابقة، أن المؤلف قد قصد، من صياغتها، الطعن بصدق توبة المختار، والإيحاء، بالتالي، أن معظم الذين استجابوا لدعوة قيادة الانتفاضة، من أزلام الاحتلال وأعوانه وعملائه، وأعلنوا توبتهم، لم يتوبوا توبة نصوحاً وصادقة، وإنما تظاهروا بالتوبة فقط، مداراة وتقية، ولفترة، بانتظار ما ستسفر عنه فعاليات الانتفاضة، من نتائج في المستقبل القريب أو البعيد... وهذا يعني أنهم، في قرارة نفوسهم، ما تزال قناعاتهم المهترئة على حالها، لم تتغير، وأنها ستظل، مما يستوجب الحذر الدائم منهم..
ويبدو أن موضوع التحولات التي أحدثتها انطلاقة الانتفاضة واستمراريتها، في نفسية الإنسان الفلسطيني، قد استقطبت الكثير من اهتمام القاص نبيل عودة، الأمر الذي أغراه بإعادة الإشارة إليها، في قصته (الزمن الجديد) ولكن من منظور آخر، وعلى نحو أكثر تفصيلاً ووضوحاً.. فاستعادة ثقة الفلسطيني بنفسه وبشعبه، في هذه القصة، ليست وليدة إحساس مفاجئ، يداخل إنساناً فرداً، بل هو إحساس جماعي يداخل أبناء قرية بطل (الزمن الجديد) الذي ينجح في إعادة وعيهم الوطني إليهم، وفي إشعارهم بضرورة الانتماء إلى الثورة والمشاركة في فعالياتها، لا بهدف تحرير أرضهم فقط، وإنما بهدف تحرير أنفسهم، أيضاً، من ذل الخضوع لمحتل تلك الأرض، ومن خوف التعرض له وتحديه.. ولايصالهم إلى هذا المستوى من الوعي، كان على بطل القصة، أن يخوض، أولاً صراعاً مريراً مع أعوان سلطة الاحتلال وأذنابها، ومع رموز الإحباط ودعاة اللامبالاة والتجابن في القرية... وهؤلاء وأولئك، جسدهم نبيل عودة، تجسيداً رمزياً، في قصته، بشخصية مختار القرية وأبناء أغنيائها..
ولنعد إلى بداية الحدث، لنستطيع متابعة تطوراته ونتائجها... لقد شدت بطولات ثوار الانتفاضة ونتائج أفعالهم العظيمة، أنظار بعض شباب القرية وأطفالها، وأثارت اهتمامهم..ثم ما لبثت هذه البطولات أن دفقت في نفوس أولئك الصغار رغبة جامحة بالمشاركة، في الفعل النضالي الساعي إلى بناء غد التحرير... وكانت ولادة هذه الرغبة هي أول التحولات الهامة التي أحدثتها الانتفاضة في نفسياتهم... وتحت تأثير الالحاح القوي لهذه الرغبة على نفوسهم، اخترقوا حاجز التردد، وخرج نفر منهم لاعتراض دورية إسرائيلية مرت بالقرية... رموها بالحجارة، ونجحوا في طردها..
كانوا ثلة من التلاميذ الصغار، لم يحبطهم الخوف بعد، ولم يشل إرادة الفعل فيهم توجسُ انتقام العدو منهم، بوحشيته المعروفة... ولكن بعض كبار السن، في القرية، ممن خبروا الماضي، وكلسهم الخوف من تكرار ما تعرضوا له فيه، هم وقريتهم، والكثير من القرى المجاورة والبعيدة، سارعوا مبادرين إلى المختار/ رمز العمالة التقليدية مع المحتل، ورمز الزمن الاستسلامي الذي مزقته حجارة الانتفاضة، فيما مزقت، سارعوا إليه راجين تدخله لدى أسياده، كي لا يأخذوا القرية كلها بجريرة (طيش) بعض صغارها. وهنا، اغتنمها المختار فرصة، فراح يتشفى، ويمعن في إهانة كرامة المستجيرين بـ(جاهه)، في محاولة منه لتضخيم دوره الهزيل، ولتثبيت مركزه الذي بدأ يخاف تضعضعه..
"المختار فقع من الغضب والنرفزة، وهدد السكان بكبائر الأمور وعظائم ردود الفعل حين يصل الجيش ويفعل ويترك بأهل البلد... انقسم السكان على أنفسهم بين منخرس لما حدث، وبين متوجس خائف مرتعب لما سيحدث.
-دبرها يا مختار.
-يلعن أبو هيك بلد وأبو هيك أهل وأبو هيك أولاد وأبو هيك تربية.
-ايدينا بزنارك يا مختارنا.
-ربوا أولادكم يا بهائم.
-يا رجل المحن أنت يا مختار.
-تفو عليكم وعلى أولادكم. ماذا أقول لأصحابي؟ ما هذه المسخرة؟ أنتم قدهم؟
-سنربيهم ونكسر أيديهم وأيدي من يفعلها مرة أخرى.
-أنت سيد البلد.. ووجيهها.
-كلمة منك تزن رطلاً.
-أنت سيدنا وتاج راسنا.
-والله حيرتونا معكم... سنذهب نترجى من يسوى ومن لا يسوى؟
-دبرها يا مختار.
-هل نهون عليك؟
-دبروا أولادكم بالأول... إذا عجزتم عن تربيتهم.. الشرطة تربيهم ...الجيش يربيهم.. الحكومة تربيهم..." *
وما إن وصل المختار إلى هذا الحد، وبدأ يستشعر نشوة الإحساس بالأهمية، ولذة خضوع أهل قريته لسلطانه، حتى حدث ما لم يكن متوقعاً من أحد، على الإطلاق... فقد نهض شاب مغمور من فقراء القرية، يتحدى المختار وأسياده المحتلين، في آن معاً، غير هيّاب من أحد..، ولا ملتفت لاستنكار أحد أو مهتم بتعجبه... وفي ذات الجلسة، خطف اهتمام الحاضرين بالمختار وكلامه، وجعله ينصب على ما يقوله هو، حين راح، وتحت بصر المختار وسمعه، يشرع في تثوير أهل قريته، وإعدادهم لدخول الزمن الجديد، زمن الانتفاضة...
كان هذا الشاب المفاجئ هو سليم النجار بن عطا، خباز القرية الفقير.. وقد ركز نبيل عودة على شخصيته وأسهب في رسم ملامحها وأبعادها، وهو يقدمها، للقارئ، بوصفها شخصية بطل ثوري إيجابي، استطاع بصبره وذكائه وإخلاصه وشجاعته أن يعيد أبناء قريته إلى وعيهم، وأن ينتشلهم من بؤرة إحساسهم بالخوف واليأس والإحباط، معيداً إليهم الثقة بالنفس، والشعور بالقدرة على الفعل أيضاً..
وقد تأتى له أن يفعل هذا كله، وينجح في تحقيقه، إثر انتصاره على المختار العميل، في ذلك الاجتماع نفسه الذي كان التفوق للمختار، في بدايته... فبعد أن فاجأ سليم الجميع بتحديه للمختار، دخل الرجلان في مشادة حامية، انتهت بانتصار سليم... ولعل أبسط توصيف لما يمكن أن توحي به الدلالة الرمزية لهذه المشادة، هو أنها تمثيل للصراع بين فريقين من أبناء الوطن المحتل، كل فريق منهما ينتمي لجيل، ولكل منهما وجهة نظره الخاصة، والمختلفة عن وجهة نظر الآخر..
فالمختار، ومن استجاروا به من كبار السن، في القرية -مع تأكيد الفارق في الخلفية والأهداف بينه وبينهم- يمثلون فريقاً من جيل الفلسطينيين القدامى الذين رهلهم الركون إلى قدوم الفرج والخلاص من الخارج، وبفعل الآخرين لا بفعلهم هم. وقد كان بين الأسباب الرئيسة لاصابتهم بهذا الترهل، استمراؤهم للعبة المراوحة اللامجدية على أرضية انتظار ذلك الفرج الوهمي... هذه اللعبة التي جعلتهم، بمرور الأيام، يستكينون للاحتلال، ويكيفون أنفسهم مع وجوده، دون أن ينتبهوا إلى أنهم، بهذا الفعل، إنما كانوا يمرغون كرامتهم بالوحل، ويلقون بمستقبلهم في غياهب المجهول... أما سليم، رمز الطليعة الواعية والمثقفة للجيل الفلسطيني الشاب، فقد أيقن أن النصر هو ثمرة الفعل الذاتي، ثمرة النضال والتضحية والصمود، وليس هبة مجانية تأتي من الخارج... لنتأمل الفارق النوعي الواضح والكبير، بين وجهتي نظر الجيلين، عبر المقابلة التالية:
" في البداية، حدث صراع مع بعض كبار السن. أرادوا أن يفرضوا سلطتهم على الأحداث. افعلوا كذا وكذا. إياكم والاصطدام مع الجيش. نحن لسنا قدهم.. صحيح نحن مع الجماهير، ولكنا هنا في البلد معزولين. إذا دبكوا فينا فلن يخرج منا مخبر. إنهم وحوش كاسرة لا يقيمون حساباً لعرض أو احتراماً لعاجز أو شفقة على ولد... لا تضيعونا في آخر العمر. ما عاد لنا قد ما مضى.. وهكذا دواليك.. كلام من هذا النوع يهبط العزائم، ويترك في النفس شعوراً من المرارة والهزيمة والكآبة والإحباط.". *
إنه حاجز الخوف الذي ارتفع بنيانه على مدار عشرين سنة، ليصير يأساً وهمياً من إمكانية مواجهة العدو واحراز النصر عليه.. لكن هذا الحاجز، على سماكته المفرطة وعلوّه الشاهق، كان حاجزاً هشاً، قوامه الوهم، والوهم فقط، ومكانه بعض نفوس كبار السن، وليس جميعهم..." ولكن، والحق يقال... إن معظم كبار السن لم يرضوا عن هذا الكلام.".*
ويقينا من سليم، ومن شاكله من أبناء جيله، بهشاشة بنية حاجز الخوف هذا، ووهمية اليأس التي يوحي بها لبعض ضعاف النفوس والقلوب، نراه -أي سليم- لا يتردد في محاولة اختراق هذا الحاجز، وتبديد إشعاعات التيئيس المنبعثة منه، تمهيداً لتثوير أبناء شعبه..
"وقف سليم النجار وأبلغ أهل البلد المتجمعين في الجامع بأن أكثرية أهل القرية يرفضون هذا الكلام - يقصد كلام التخويف والتيئيس الوارد آنفاً- وتمتم بصوته الرنان:
- زهقنا الخنوع، وعفنا حياة الذل. وأتبع هذا بقول عبد الرحيم محمود الشهيد، فإما حياة تسر الصديق، وإما ممات يغيظ العدى.."*
وبعد، واضح أن وجهتي النظر السابقتين تتناقضان، تمام التناقض فأولاهما التي يتبناها مترهلو الجيل القديم، ويحاول المختار وأتباعه تأكيدها وإشاعتها، تدعو إلى الذل والاستسلام والخنوع، عبر الاستمرار في موقف العطالة عن الفعل، أما ثانيتهما التي يتبناها سليم وكثير من أبناء جيله الشاب، فتدعو إلى النقيض... ولأن الثانية هي الأقوى حجة والأكثر منطقية وإقناعاً، فقد نجح سليم، عبر إيصال فحواها إلى أبناء قريته، في إحداث التحول النفسي المطلوب... نجح في تحطيم منظومة المعايير القديمة المهترئة، وفي التمهيد لتغييرها بأخرى جديدة.. أو حسب تعبير (وليد) أحد أبطال القصة: "أزال الدهن المترسب في عقول الشباب والشيوخ وحرك الأحلام، أحيى الأمنيات، وأوقد جمر الأمل في النفوس. وأهم ما فعله زرع الثقة بالآتي حتى صار من المستحيل أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه.". *
ولكن، كيف تسنى لسليم أن يفعل ذلك كله؟
يشير نبيل عودة، معللاً موضحاً، إلى أن بطله سليم قد أتى أهل قريته، من الباب الذي لا يقدر أحد على نكرانه أو تجاهله أو الاعتراض عليه... أتاهم من صدمهم بحقيقة الواقع المهين الذي يتناسون اضطرارهم للقبول به، ويهربون من التفكير في الثورة عليه، خشية توهمهم اللاجدوى في ثورة كهذه، وخشية ما سيجره عليهم احتمال اخفاقها من التعرض لمعاناة ما هو أسوأ من واقعهم الذي كان قبلها، وما هو أشد قسوة وعذاباً.. كما أتاهم، أيضاً، من تذكيرهم بكرامتهم التي مرغت بأوحال خوفهم وأوهام يأسهم، ومن تذكيرهم بأرضهم التي أوشكت أن تنحل وشائج ارتباطهم العريق بها، نتيجة تقاعسهم عن تحريرها من جهة، ووقوفهم مكتوفي الأيدي من العدو الذي يبتلع، كل يوم، أجزاء جديدة منها، من جهة ثانية... وأتاهم، أخيراً، من باب تنبيههم إلى ضرورة المشاركة في ثورة شعبهم، على خلفية تحريك عواطفهم القومية بالعزف على أوتار القناعة التي لا ينكرها أحد منهم، القناعة بأنهم كفلسطينيين، ليسوا أفضل من أولئك الذين يضحون ويستشهدون، وهم يحاولون صنع غد الحرية لهم ولأرض وطنهم، في آن معاً...
وقد صارح سليم أبناء قريته بكل هذه الحقائق، وفتح عيونهم عليها، في سياق المشادة الحامية التي دارت بينه وبين المختار، تحت سمعهم وأبصارهم...
فبعد أن بالغ المختار في تحقير من جاؤوا يرجون وساطته لدى (أصحابه) من سلطات الاحتلال، كي لا يعاقبوا القرية كلها بـ (طيش) بعض صغارها الذين حاجروا دورية من دورياته، وبعد أن ظن بلوغه ما أراد، إذا بسليم يقطع الطريق عليه، ويتصدى له هازئاً به، مسترخصاً وساطته، ومستهيناً به وبمن سيتوسط لأهل القرية عندهم :
- " أصحابك من الادارة المدنية لايخوفونا، أنا أقول بشكل واضح، نحن جزء من هذه الأرض. نحن هنا في وطننا. أهل البلد، لأمر لا أفهمه ولا أقبله، يترجوك من الصبح، وأنت تلاعبهم لعبة شد الحبل، تهينهم وتمسح بهم الأرض هل تريد أن يعطوك نصف محصولهم حتى تحل لهم ما تسميه مشكلة؟ نحن لا نريد أن نحلها. نحن نريد أن نؤزمها. ولا توجد مشكلة اسمها قذف حجارة. توجد قضية اسمها الاستقلال. قضية اسمها الكرامة.. دم الشهداء النازف في مدننا وقرانا المحتلة ليس أرخص من دمنا...".*
بهذا المنطق النابع من موقف ثوري صادق، والمؤشر إلى اكتمال وعي الجيل الفلسطيني الشاب بأبعاد قضيته، وحقه، وبضرورة شمولية ثورته، استطاع سليم - رمز هذا الجيل في القصة- اسكات المختار الذي هو رمز الترهل والعمالة، وبهذا المنطق نفسه، استطاع تهيئة أهل قريته للثورة... فقد أقنعهم بأن التذلل والخنوع لا يجديان في مقاومة شهوة المحتل لسرقة المزيد من أراضيهم، ولا في الحيلولة بينهم وبين ممارساته العنصرية ضدهم. وعلى هذا، فإن المواجهة لا التذلل، هي التي يمكنها أن تضع حداً لاستمرارية تلك الممارسات وتصاعدها..
وبالفعل، ما إن استقرت هذه القناعة في عقولهم، حتى بادروا إلى اختراق حاجز الخوف الوهمي من عدوهم، ثم ما لبثوا أن بدأوا يستعيدون ثقتهم بأنفسهم وبقدرتهم على الحركة والفعل المؤثر الموصل إلى النصر... ولا أدل على تحولهم النفسي هذا، إلى نقيض ما كانوا عليه، من خروجهم جميعاً إلى ساحة المواجهة، غير عابئين بعدوهم وآلته الحربية المتطورة؛ ومن استعدادهم الرائع للتضحية بكل ما لديهم، حتى بحيواتهم، في سبيل تحرير أنفسهم ووطنهم... وقد رمز نبيل عودة إلى هذا التحول من النقيض إلى النقيض، بتصويره لطريقة استقبالهم نبأ أول من استشهد منهم، بالزغاريد...
أما المختار وأمثاله، فقد اندفعوا، مرغمين، إلى الانحشار في الزاوية المهملة، على هامش الأحداث التي أفلت زمامها من أيديهم، بعد عشرين سنة، أو يزيد..
من المحتمل أن لا تقوض الزلازل القوية جميع ثوابت الأرض التي تضربها، ولكن، ربما يكون من المستبعد أن لا تتعرض هذه الثوابت كلها للإهتزاز، بهذه الدرجة من العنف والقوة أو تلك... وعلى افتراض صوابية تشبيه الثورات الشعبية الكبيرة والشاملة بالزلازل القوية، فإن هذا يعني : تعرض المعايير السائدة، كمسلمات ثابتة في المجتمعات التي تنفجر فيها تلك الثورات، إلى الاهتزاز، كما يعني تغيرّ معظمها، غالباً..
وانطلاقاً من الاعتقاد بأن الانتفاضة، كيف نظرنا إليها، وبأي الوسائل والمقاييس حاولنا تقييمها، تعدّ بين الثورات الشعبية الكبيرة التي ستظل تنبض بها ذاكرة التاريخ البشري، يمكن القول: إن زلزالها قد هزّ الكثير جداً مما كان ينظر إليه، قبلها، كمسلمات ثابتة، في المجتمع الفلسطيني، داخل الوطن المحتل وخارجه، بل حتى في أوساط تجمعّ المستوطنين اليهود أيضاً... كما غيرّ هذا الزلزال العنيف الكثير من تلك المسلمات التي كانت سائدة بوصفها معايير اجتماعية وفكرية وسياسية.. وما شابه، مما لم يكن يظن، إلا قليلون، أن يرقى الشك إلى صوابيتها، لا من بين يديها ولا من خلفها... بل إن قاصاً مثل نبيل عودة، وعلى لسان (وليد)/ ثاني الأبطال الرئيسين في قصته(الزمن الجديد)، لا يجد حرجاً أو مبالغة في إطلاق التعميم بأن الانتفاضة قد غيرّت كل ما كان سائداً قبلها من معايير، على مختلف الصعد والمستويات، وفي المجالات كافة... يقول (وليد) معمماً:
- "في هذا الزمن تغيرت كل المعايير..." *
ومن مراجعة المتوفر من قصص الانتفاضة، الصادرة داخل الوطن المحتل، يتبين أن بعض مؤلفيها، قد ركزوا، في إضاءتهم لما أحدثته هذه الثورة من تغييرات، على عدد من أبرزها.. وفي مقدمة ما ركزوا عليه منها، التغييرات التي طرأت على منظومة المفاهيم والقناعات الاجتماعية والسياسية القديمة التي ضرب زلزال الانتفاضة نمطيتها السائدة، بعنف شديد، مقوضاً جزءاً مهماً من مسلماتها التقليدية...
وبين أبرز تلك المسلمات التي قوضتها الانتفاضة، على الصعيدين الاجتماعي والسياسي معاً، اشتراط المستوى الطبقي العالي، أي الثراء، إضافة إلى اعتبارات الحسب والنسب، وماشاكلهما، كمؤهلات لمن يسعى إلى الزعامة والجاه والسيادة، سياسياً واجتماعياً، على حد سواء... فقد قوض زلزال الانتفاضة دعائم هذا الاشتراط، بعد أن أثبتت أحداثها مدى خطئه وبطلانه... وذلك حين لاحظ الناس أن من فجرّ الثورة على العدو المحتل، وتصدى لغطرسته، وسعى للحيلولة دون استمرارية الوضع المذل الذي فرضه هذا العدو على أبناء الوطن المحتل، لم يكن من الأثرياء أو من أبنائهم، كما لم يكن سليل حسب ونسب، بل كان، غالباً، من طبقة الفقراء المغمورين... أما أبناء الجاه والغنى الذين كانوا يتسيّدون بالأمس ثوار اليوم، ويتشدقون بالشعارات الكبيرة التي يمارسون نقيضها، في حياتهم الخاصة، ويتاجرون بقضايا الشعب ومصيره، كل هؤلاء لم يبدُ أثرٌ لأحدهم، بعد انفجار الثورة وأثناءها... فقد تواروا عن الأنظار، وصمتوا مبتلعين ألسنتهم، تاركين من استغلوهم لمصيرهم، وكأن لا دخل لهم بما يجري، على ساحة الصراع، بعد انطلاق الانتفاضة، من أحداث دامية ومريعة...
لقد عرض نبيل عودة لهذا النموذج من أبناء الشعب العربي الفلسطيني، في قصته غنية المضمون (الزمن الجديد)، وذلك في سياق المنولوج الداخلي الذي رصده في وعي (وليد) البطل الثاني للقصة بعد (سليم)... يحادث (وليد) نفسه متسائلاً، بسخرية مفعمة بالمرارة والغيظ، في آن معاً:
- "أين أولاد المرسيدس؟.. أولاد النعيم... أين اختفى المتفلسفون الذين يفهمون في كل الأمور. أصغرها وأكبرها؟ أبسطها وأخطرها؟ حين يتكلمون عن فتيات المدن، تظن أن لهم في كل شارع معشوقة أو أكثر، فتقتلك الغيرة والحسد للنعيم الذي كان من نصيبهم. وحين يتحدثون في السياسة، يجيبون لك رأس (ريغين) على طبق من ذهب، يفهمون في حرب بيروت، ويتحاورون ويتصايحون وكأنهم أبطالها وصانعو مجدها. لهم نظريات في الطائرات الشراعية، وتحاليل في الوطنية، وانتقادات بلا نهاية حين يجعصون في المرسيدس، بالكاد يشعرون بالخلق من حولهم.
أين اختفى أولئك العباقرة؟" *
ما من جواب على هذا السؤال الاستنكاري النابض بالغيظ، سوى أن أمثال هؤلاء، ومن على شاكلتهم، قد تواروا عن مسرح الأحداث، إثر انطلاقها، وقبعوا في قصورهم ينتظرون مرور العاصفة، وقد أحنوا رؤوسهم لهبوبها الشديد، كي لا تكسر هيكلية تمظهرهم الثوري المزيف، أو تنتزع ورقة التين الدعائية عن عورة مواقفهم، فتكشف حقيقتها... وهم، في حجور انتظارهم، يترقبون تلك اللحظة التي تهدأ فيها حركة الأحداث ونشاطات صانعيها، وتتبلور نتائجها النهائية، ليقفزوا على ما حققه الفقراء بدمهم وتضحياتهم الكثيرة الأخرى، فيدعوه لأنفسهم، كالعادة، ويجيّروه لاسمهم، زوراً وبهتاناً..
وبالطبع، ليس هذا مستغرباً ولا مفاجئاً.. فالانتفاضة، شأنها شأن معظم ثورات شعوب العالم، يخطط لها المفكرون الرياديون، عادة، ويدعون لها، ثم يأتي دور الشرفاء من بسطاء الناس وفقرائهم ليفجروها، مضحين من أجل إيصالها لأهدافها، بالدم والروح، وبالقليل الذي يملكونه من عرض الدنيا... ولكن، ما إن تلوح بشائر النصر، ويحين موسم قطاف النتائج والمنجزات، حتى يقفز الجبناء والمدعون، خارجين من جحورهم التي لبدوا فيها، زمن المعارك ومواجهة الأخطار وبذل التضحيات، ليستولوا على ثمار الثورة، وليتصدروا مواكب انتصارها، وكأنهم هم الذين صنعوا ذلك الانتصار..
لقد أراد نبيل عودة أن يكشف نموذج مُدّعي الثورة هؤلاء، سلفاً، وأن ينبه إلى ما يخططون له، محذراً ومؤكداً في آن معاً، عبر سياق محاولته هذه، أن مخططاتهم ستبوء بالفشل، هذه المرة... وذلك لأن الفلسطيني الذي فتحت الأحداث، وما سبقها من تجارب ومعاناة، وعيه، وأنضجته، لن يسمح للأدعياء بأن يسرقوا منه ثمار ثورته ومنجزاتها..
من جهة أخرى، حاول نبيل عودة، وفي ذات السياق السابق أيضاً، أن يلقي حزمة ضوء على جملة الأسباب والعوامل المستجدة التي غيرت معظم السائد من المعايير القديمة، لتتيح المجال رحباً، أمام شاب فقير ومغمور اجتماعياً، كسليم النجار، مثلاً، أن يغدو زعيماً.. كما حاول أن يبين أيضاً، كيف تجاوزت تلك العوامل بسليم إلى الزعامة، من كانوا الزعماء التقليديين لقريته، مع أنه لا يملك أيّاً من مؤهلاتهم التي تسيّدوا بها القرية، في السابق..
فسليم هذا، وحسب القصة، لا مال ولا حسب ولا نسب... أي في الدرك الأسفل من السلم الاجتماعي/ الطبقي... ومع ذلك، تجاسر على المختار الثري، والقائد التقليدي للقرية، سياسياً واجتماعياً، وتصدى له متحدياً، في ذات الوقت الذي كان فيه وجهاء أهل القرية وكبارها يتصاغرون له ويرجون عونه..:
_ "أصابت اللخمة معظم الحاضرين في ديوان المختار الرحب. عشرات العيون نظرت باستهجان لهذا الشاب المتناسي أصله بأنه شحاذ بن شحاذ، المتناسي مقامه، والمتطاول على عصمة المختار في بيته وبين أهل بلده".*
وحسب إيحاءات سياق القصة، فإن مبعث (لخمة) الحاضرين واستهجانهم، كان تفاجؤهم برؤية ما ألفوه من معايير يتداعى وتختل منظوماته السائدة، على حين غرة، ودونما توقع... وقد كان من الممكن أن ينقلب الموقف، برمته، ضد سليم وما يمثله، لولا قدرته على الثبات، وعلى الاحتفاظ بهدوئه ورباطة جأشه، في مواجهة المختار، وما ولدته هذه المواجهة من إحساس بالمفاجأة في نفوس أهل القرية.
أما مصدر ثبات سليم، فقد كان، بالدرجة الأولى، ادراكه لأهمية الصراع الذي فتحه المختار وأعوانه، واستشفافه لأهمية النتائج التي سيتمخض عنها انتصاره في هذا الصراع... تلك النتائج التي كان، من أبرزها، تغيير مسار تفكير أهل القرية وموقفهم، إلى الجهة النقيض... فطيلة فترة اشتباكه مع المختار، لم يزايله الإحساس بالأمل في أن ينجح بتفتيح وعي أهل القرية، وبدفعهم إلى الخروج من دائرة العطالة التي تشل إرادة الثورة فيهم، وتجعل رد فعلهم على إهانة كرامتهم معوقاً..
وبعد انتصاره في أولى جولات صراعه مع المختار، وصوناً لهذا الانتصار، عمد سليم إلى انتهاج أسلوب عملي، أوصله في النهاية، إلى الصيرورة زعيماً... وكان قوام هذا الأسلوب وأساسه، هو تأكيد الأقوال بالأفعال، وتجسيد الطروحات النظرية وقائع ملموسة... وهكذا، فبعد أن اطمأن الجميع : "لاتزانه وفطنته وصواب رأيه" * وبعد أن : "بات مرجعاً ومستشاراً في كل الأمور" * سلّموا له بالزعامة... وما كادوا يفعلون حتى :
- " فاجأهم ابن الخباز هذا أنه قدها، وأنه لم يضيع وقته في الماضي سدى. فرغم أنه خرج للعمل في سن مبكرة، لمساعدة والده الخباز في إطعام الأفواه الكثيرة، إلا أنه واصل تثقيف نفسه... ربما هو الوحيد الذي كان يسافر للمدينة للبحث عن كتب ومجلات فقط، يقال إنها تملأ خزانة ملابسه وتفيض، ولا يبخل بها على أحد، وماذا كانت النتيجة بعد أن صار "سليم الزعيم غير المتوج للقرية في عهدها الجديد."؟.*
في نظر شاهد عيان كوليد، تلميذ سليم وراوي قصة بطولته واستشهاده، قلب سليم عالم القرية... ذلك أنه :
- "أزال الدهن المترسب في عقول الشباب والشيوخ. حرك الأحلام، أحيى الأمنيات، وأوقد جمر الأمل في النفوس. وأهم ما فعله زرع الثقة بالآتي حتى صار من المستحيل أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه". *
تُرى، أليس واضحاً، من مجمل ما سبق، إلى أي حد تغيرت منظومات المعايير والقناعات والمفاهيم الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة، قبل الانتفاضة، عما آلت إليه بعدها، وبسببها؟ ثم، أليس واضحاً، أيضاً، إلى أي حد كان كبيراً وعظيماً، دور أولئك الأبطال الواعين والمخلصين في إحداث ذلك التغيير الذي دفعوا حيواتهم ثمناً لنجاحه؟
وبعد، فهنا، وقبل المضي في إضاءة متغيرات أخرى هامة صنعها سليم وأمثاله، ثمة ضرورة للتوقف ملياً، والإشارة إلى ملاحظتين على جانب من الأهمية.. الأولى، تتضمن الإيماء إلى ذلك التداخل العضوي بين أسباب حدوث معظم المتغيرات الحاصلة وبين نتائجها، في أكثر من ميدان، وعلى أكثر من صعيد، مما يؤكد صحة توصيف الانتفاضة، بأنها ثورة شعبية متكاملة، شاملة.. أمتد تأثيرها إلى مختلف البنى المجتمعية الفلسطينية، في الوطن المحتل، وإلى الكثير من القناعات والمفاهيم السياسية القديمة... ومن الأمثلة الواضحة على ذلك التداخل، ما نلمسه، في قصة (الزمن الجديد)، من تداخل بين المتغيرت الاجتماعية والسياسية، بشكل خاص..
فسليم الثائر الملتزم بمبادئ ثورته، والمخلص لوطنه وشعبه، لم ينجح في تنحية الزعامة التقليدية عن موقعها القيادي، على المستوى الاجتماعي، فقط، بل على المستوى السياسي أيضاً... وذلك حين استطاع إخراجها من دائرة التأثير والفعل، على مختلف المستويات الحياتية، وإصابة دورها، في سائر المجالات بالعطالة التامة... وبالمقابل، نلاحظ أن العوامل التي هيأت لصعود سليم إلى موقع الزعامة الاجتماعية، كانت نفسها التي رشحته لقيادة أبناء قريته سياسياً.. وعلى ضوء هذه الملاحظة، نتبين أنه من المتعذر فصل الحديث عن متغيرات اجتماعية وأخرى سياسية..
الملاحظة الثانية، تتضمن وجوب الانتباه إلى أن سليماً، بمن ترمز إليهم شخصيته القيادية، في القصة، لا يمكن توصيفه كقائد أوزعيم تاريخي..بل هو قائد مرحلة تاريخية متميزة، لا أكثر، تخبئ، في رحمها، زمناً جديداً مغايراً للذي ثار عليه سليم وأمثاله، كما تخبئ، أيضاً، القيادة التاريخية البديلة للقيادة الفلسطينية التقليدية التي نحاها سليم، في القصة، عن موقعها..
وعلى خلفية افتراض صحة هذه الرؤية، فإن المرحلة الراهنة، بكل ما تزخر به من أحداث ومواجهات مصيرية حاسمة، لا تعدو كونها، كما ورد في بداية هذا الفصل، مرحلة المخاض الصعب التي لابد أن تسفر عن زمن جديد بقيادة جديدة... وعلى هذا، فما أشبه دور القيادة الحالية للانتفاضة بدور القابلة... وواضح أن نبيل عودة كان واعياً لهذه الحقيقة، الأمر الذي جعله لا يتردد في ترك بطله سليم يسقط شهيداً، في نهاية القصة... فلو كان يرى فيه رمزاً للقيادة الفلسطينية التاريخية المفترض أن تظفر بعد الانتفاضة وتبقى، لكان من الخطأ موضوعياً، أن يتركه يستشهد... لأن استشهاده يعدّ، عندئد، إشارة مثبطة لمن هم بقيادته من ثوار المرحلة الراهنة...
وبعد، فانطلاقاً من القناعة بأن تغيراً كبيراً قد طرأ على منظومة المعايير والقيم والمفاهيم والقناعات القديمة، على المستويين الاجتماعي والسياسي، وبأن هذا التغير قد أدى إلى تراجع الزعامات التقليدية، عن ساحة الفعل والتأثير، وإلى تضاؤل دورها في شتى المجالات، ربما ليس خطأ التوهم بصيرورة العلاقة بين الجيلين الفلسطيني القديم والجديد، علاقة تداخلية، يذوب في شروطها التفاعلية الخاصة، الجيل القديم في الجديد، ذوباناً تدريجياً... وصحيح أن مثل هذا الذوبان ما يزال جزئياً، لما يكتمل بعد، إلا أن دلائل كثيرة تؤكد قابليته لبلوغ تلك المرحلة... ومثل هذا التوهم، على افتراض صحته، يفسح بدوره، مجالاً للاعتقاد باستحالة احتمال عودة الأوضاع، في الوطن المحتل، إلى ماكانت عليه، قبل انطلاقة الانتفاضة ؛ ليس على هذا الصعيد أو ذاك، وإنما على الصعد والمستويات كافة...
وبين يدي هذه الدراسة قصتان، كلتاهما جعلتا من موضوع ذوبان الجيل القديم في الجيل الجديد، واحداً من محاورها الرئيسة... وهاتان القصتان هما: (الملثمون)( ) لجمال بنورة، و(الرجل الصغير)( ) لناجي ظاهر... وبداية، من الضرورة ملاحظة أن كلتا القصتين قد طرحتا العلاقة بين الجيلين، وماطرأ عليها وعلى منظومة المعايير المتعلقة بها، من تغيير بتأثير الانتفاضة، من منظور مختلف تماماً عن ذاك الذي اعتمده نبيل عودة، في قصة (الزمن الجديد)... بتعبير أوضح، لم تطرح القصتان هذه العلاقة ومتغيراتها، كعلاقة صراعية، مشحونة بتوترات الكراهية والضغينة، شأن أي علاقة صراع يجري بين ضدين متخاصمين، بل طرحتاها كعلاقة إيجابية، يحكمها منطق الرغبة الصادقة في التعاون بين أبناء الجيلين، لإيصال الانتفاضة إلى أهدافها... وتغيب، في طيات هذه الرغبة، حكماً، أثرة الأنا الفردية التي تحرك الزعامات التقليدية، في العلاقة الصراعية التي لحظنا مثالاً عليها، في (الزمن الجديد).
والحقيقة أن خلود الثائر الحق، بعد استشهاده، في ضمير من يليه من أهله ورفاقه، ليس جديداً، بل هو قديم... قديم قدم المعركة الأزلية التي وجد الإنسان نفسه يخوضها، على ظهر الأرض، ضد قوى الظلم والشر، بشرية كانت هذه القوى، أم كانت خرافية، كما هي في بعض أساطيره الغابرة.. ومصدر هذا الخلود بالدرجة الأولى، تقدير الناس لمن ضحى بحياته من أجل أن يعيشوا حياتهم، بعده، أحراراً كراماً ومطمئنين..
وبالطبع، لا توجد وسيلة لتخليد ثائراً استشهد، أعظم من التزام رسالته، ومن متابعة درب نضاله الساعي إلى تحقيق أهداف هذه الرسالة التي قضى قبل أن يراها وهي تتحقق فعلاً.. وهذا ما كثف نبيل عودة الإشارة إليه، في خاتمة قصته (الزمن الجديد)... وذلك في صيغة النداء الحار الذي وجهه وليد لأهل قريته، عقب تيقنه من استشهاد رفيق دربه وزعيمه سليم فقد راح وليد يجوب أزقة القرية مؤكداً:
- " سليم لم يمت.. سليم معنا للأبد... سليم يقول لكم لا تصدقوا أنه يموت... سليم يقول لكم اصمدوا، واحموا كل البلد... سليم يحبكم وينتظر أن يسمع أخباركم المشرفة... سليم معكم في كل مكان.. سليم يوصيكم أن تدفنوه في تراب وطنه المحرر... سليم لا يموت. سليم لا يموت.. لا يموت.. لا يموت..".*
لعل من الواضح أن مضمون هذا النداء الذي ختم به نبيل عودة قصته، يشف بما حواه من دلالات رمزية عن الشرط الذي لا بد منه لاستمرار الشهيد حياً.. وهذا الشرط هو التزام من يليه برسالته التي استشهد وهو يسعى إلى إيصالها لأهدافها، إن لم تكن قد وصلتها بعد، أو الالتزام بالحفاظ على ما وصل إليه الشهيد من تلك الأهداف، والعمل على بلوغ الباقي منها... فبهذا الالتزام أولاً، يكون إكرام الشهيد، وبه وحده يتمكن أي ثائر من عبور حدود الفانية إلى رحابة الخلود الأبدي..
وربما، وانطلاقاً من هذه الإعتبارات التي يؤكد جميعها أن الشهيد حي خالد، يدرك الفناء جسده، ويبقى عاجزاً عن المساس بفعله وآثاره، استقر في روع الناس ووجدانهم، أن من الخطأ استقبال خبر الشهادة أو جثمان الشهيد، بذات طقوس الحزن والحداد والتفجع التي يستقبلون بها خبر الموت العادي وجثمان الميت العادي... فقد درج معظم الناس، وخصوصاً في الإطار المجتمعي للفلسطينيين، داخل الوطن المحتل وخارجه، على عدم البكاء والعويل والندب، لدى سقوط أحدهم شهيداً.. إذ كيف يُبكى ويندب من استطاع اختراق الفناء، وصار خالداً؟ أليس الأجدر أن يستقبل خبر معجزة كهذه، وكذلك جثمان صانعها، بالزغاريد؟
بلى.. ولهذا، وبذات الطقوس التي يقوم بها الناس حين يزفون عريساً منهم إلى عروسه، يستقبلون جثمان شهيدهم ويشيعونه... وهذه المقاربة بين العريس والشهيد، ليست مجرد تعال على صراخ الألم وتباريحه، أو مكابرة على أوجاع الفراق وجراح الثكل واليتم، بل هي تعبير رمزي، عن وعي جماعي عميق، يربط بعلاقة وثيقة بين الشهادة والحرية والخير والسلام... إن هذه المقاربة تعبير عن اعتقاد شعبي راسخ بأن الشهادة هي إعلان عن الخلاص القادم وبشرى تؤكد قرب صيرورته واقعاً... هذا الخلاص الذي ضحى الثائرون بأرواحهم من أجل أن يعيشه أهلهم وشعبهم وأرض وطنهم... وثمة بعد ثالث لهذه المقاربة بين الشهيد والعريس، تتمثل في وعي الناس، بعلاقة وثيقة أخرى بين الشهيد وأرض وطنه.. فالأرض في المعتقدات والمفاهيم العربية الأصيلة هي عرض المرء وعنوان شرفه.. ومن لا يضحي من أجل عرضه إذا اغتصب..؟ ومع التطور الدلالي لهذه العلاقة الرمزية، صارت الأرض هي الحبيبة، وصار الشهيد هو عريسها الذي افتدى حريتها وخلاصها بدمه لنتأمل هذا المقطع الصغير من قصة (الزمن الجديد):
- ".. فجأة تنطلق زغردة من سماعة الجامع:
-عريسكم حسن استشهد يا شباب..
عشرات الزغاريد في كومبارس غريب الأطوار... تصفيق رتيب وغناء للعريس من قلب الجامع. هل هي القيامة؟ هل اختار الله هذه اللحظات لقيام الساعة؟
-مبروك يا أم الشهيد.
وزغاريد.. وغناء.. وزغاريد.."*
إنها صورة مثيرة للدهشة والإعجاب، في آن معاً. صورة تثير القشعريرة في بدن القارئ انفعالاً وتأثراً.. ومصدر الإثارة فيها، لا يكمن، فقط، في كونها نقيض الصورة المألوفة لاستقبال خبر الموت العادي، في المجتمع العربي، بل في كونها، أيضاً مؤشراً قوي الدلالة على إمكانية استمرار عرب الوطن المحتل في ثورتهم، حتى تحقق القسط الأكبر من أهدافها، إن حالت الظروف التآمرية القاسية دون تحققها كلها.. ذلك أن شعباً له مثل هذه القدرة على العطاء اللامحدود، من البدهي أن تزداد امكانيات استمرار ثورته ونجاحها، كلما ازداد عدد ضحاياه وشهدائه..
* قصة :" الزمن الجديد " لنبيل عودة
** قصة : " الحاجز " لنبيل عودة ، راجع مقال ( قراءة في قصة الحاجز لنبيل عودة ) .