رجاء النقاش وحقبة الزمن الجميل

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

رحل عن عالمنا الكاتب الكبير رجاء النقاش يوم الجمعة في غرة صفر 1428هـ الموافق 8 من فبراير 2008، بعد رحلة عطاء تجاوزت الخمسين عاما، قضاها في خدمة الثقافة العربية عبر منابر صاحبة الجلالة في الوطن العربي. بداية من مجلة روز اليوسف بمصر ومرورا بصحف يومية ومجلات دورية، عمل فيها كاتبا ومديرا ورئيسا للتحرير كالراية القطرية التي تولى إدارة تحريرها، ومجلة الدوحة الأدبية التي كان أول من رأس تحريرها ...وانتهاء بتفرغة لكتابة مقاله في الأهرام الذي ينشر في يوم الأحد من كل أسبوع.

لقد عاش رجاء النقاش فترة خصبة في حياة الثقافة العربية؛ فميلاده كان في سبتمبر 1934م بمحافظة الدقهلية في شمال مصر وتخرجه كان في كلية الآداب بجامعة القاهرة سنة 1956م، وامتدت حياته إلى أن شاهد الثورة المعلوماتية وريادة الفضاء؛ ليكون بذلك قد عاش حقبة الزمن الجميل الذي ما زال الناس يعيشون في إبداعته إلى اليوم؛ فهو إذا كاتب مخضرم عاش أكثر من فترة شهدت فيها الأجناس الأدبية تغيرا وتطورا كبيرا ؛ لتأثرها بالواقع السياسي الذي كان يموج بالاضطرابات والقلاقل.

شهد النقاش الصراع بين الحداثيين ومن يعارضهم، وشهد الصراع القائم بين المدافعين عن الشعر الحر وقصيدة النثر وبين المحافظين الذين يرفضون التجديد في الأوزان الذي تركها آباؤنا الأقدمون، وأدلى بدلوه في هذه القضايا الثقافية المهمة من خلال معايشته لكبار الأدباء والشعراء من كل الأطياف كالعقاد والمازني وطه حسين وصلاح عبد الصبور وغيرهم من أعلام الثقافة العربية.

وخلال هذه التجربة استطاع أن يكون رؤية نقدية تعتمد على الأصالة لتنطلق إلى المعاصرة؛ فهو عندما يتكلم عن ظاهرة في شعر شاعر معين فإن ذاكرته الأدبية تربط المعاصر بالسابق ربطا غير متكلف؛ فيوقف القارئ على تطور الرؤى والأفكار، ويتجلى ذلك في حديث عن الشاعر محمد عبد المعطي الهمشري الذي اهتم في شعره بالفلاح فغنى له وبكل ما يتصل به، فيبدأ حديثه بأن الشاعر القديم كان يغني للجمل في قصائده فيقول مثلا:

 شكا إلي جملي طول السري
يا جملي ليس إلي المشتكي
صبرا جميلا فكلانا مبتلي

ثم بعد أن يشرح الأبيات ويبين شدة ارتباط العربي بجمله، يتساءل عن مدى صحة أن يتغزل الشاعر في الجاموسة، وأن يرى الشاعر فيها تجربة إنسانية جديدة، ليتحدث عن بيئة الهمشري وعن تأثره بالشعر الإنجليزي ومقدما لقصيدته في الجاموسة ذاكرا بأنها قصيدة طريفة عجيبة؛ إذ لم يجرؤ شاعر معاصر على أن يتغزل في الجاموسة وينقل لنا قول الهمشري علي لسان الفلاح الذي يغني لجاموسته‏: ومنه
تنقلي تنقلي‏..‏ من جدول لجدول
جاموستي يا ساحرة‏..‏ جوبي الحقول الناضرة
تنقلي‏..‏ تنقلي
يشدو لك العصفور‏..‏ ويهمس الغدير
تنقلي‏.. تنقلي
خطوتك الحسناء‏..‏ يمشي بها الرجاء
وكان هذا الربط بين الأصالة والمعاصرة ليؤكد أن التجارب الإنسانية تشترك في التأثر ببيئتها، وتختلف في كيفية التعبير عن هذا التأثير.

وإذا كانت طرافة الفكرة التي أتى بها النقاش في هذا المقال، ومستشهدا بها بالنادر من شعر الهمشري فإنه أيضا في مقالاته الكثيرة يحكي روايات كثيرة عن كبار النقاد والأدباء؛ ليظهر بعضا من جوانب عبقريتهم التي أبدعت هذا النتاج الأدبي؛ كحديثه عن قوة ذاكرة المازني في الحفظ، من خلال حديثه عن اعتراف المازني على نفسه بالسرقة من رواية ابن الطبيعة التي قام بترجمتها بنفسه، ولم يهتم بأن يأخذ لنفسه نسخة منها، حتى أتى عليها حين من الدهر؛ ليرى أن ذاكرته تكتب دون وعي كلاما امتد لخمس صفحات منها بالحرف الواحد في قصة إبراهيم الكاتب، ليتهم بعدها بالسرقة.

لقد كان النقاش مهتما بقضايا الأمة اهتماما أقض مضجعه؛ ومن ثم كان يحاول أن يبتعد عن الواقع بعض الوقت بأن يقرا كتابا يخرجه من واقعه المرير إلى واقع آخر قد يجد فيه بعضا من الحلاوة فيقول مقال له نشر في الأهرام 27/5/2007م: " تعودت كثيرا أن أحاول أحيانا الابتعاد عن الواقع الذي أعيش فيه‏,‏ طلبا للراحة والهدوء‏,‏ ولو ليوم أو عدة أيام‏,‏ فالحياة الواقعية مثيرة للتوترات والانفعالات‏,‏ وهي تفرض علي الانسان ان يكون منتبها علي الدوام‏,‏ والانتباه الدائم هو مرض من أمراض الاعصاب له كثير من الخطورة والضرر‏,‏ ومن أجل هذا أحاول ان أغيب قليلا عن الواقع‏,‏ وذلك بأن أمد يدي الي مكتبي وأترك للصدفة ما سوف ينتج عن ذلك‏".

إن هذه الغيبوبة الثقافية – إن صح التعبير- كانت وسيلة للكاتب يريح بها أعصابه، ولكن أعصابه لم تسترح؛ إذ سرعان ما تقع يده على كتاب يتناول هما ثقافيا، فينشغل به، ولا يستريح، وهذا ما حدث فقد وقعت يده على كتاب استخدم فيه صاحبه كثيرا من مصطلحات أجنبية وهو غير مضطر لها؛ فغار الكاتب على لغته العربية، وانبرى يدافع عنها، رافضا التبعية المطلقة لأوربا التي أخذت ما زالت مدينة للعرب بالكثير، ومستعينا بما كتبه المازني في هذا المجال؛ ليطلق على مثل هذا النوع من

وكان هذا الدفاع هادئا ممتعا، لم يتسم بالثورية ولا بالجفاف؛ فقد أتى بقصة حدثت للمازني يبين فيها غفلة العرب عن لغتهم، وخلاصتها أنه دعي في إحدى الحفلات وعرف بسيدة وصفت بالنبوغ في الأدب، وتوقع المازني أن تحدثه الأديبة عن أعماله وأثره في النهضة والأدب، ولكنه فوجئ بسؤالها: (حضرتك من مصر ولا من الشام؟)؛ ليقع المازني في حرج شديد، يعبر عنه بقوله: "واضيعتاه‏!‏ أبعد ثلاثين عاما قضيتها في الأدب‏,‏ أكتب في كل يوم مقالا‏,‏ والقي في كل اسبوع محاضرة‏,‏ وأخرج في كل سنة كتابا‏..‏ اجد في المتعلمات بالقاهرة من يسأل‏:‏ أمن الشام أنا أم من مصر؟".

ثم ينقل حديث المازني في الدفاع عن اللغة العربية الذي يقول فيه: "إن لغة المرء هي تاريخه وذاته‏,‏ فالغض منها غض منه‏,‏ والتفضيل عليها تفضيل عليه‏,‏ ولا يرضي لنفسه الضعة والصغار الا من هان علي نفسه وكان من العاجزين‏."‏

وهكذا يعيش النقاش هموم الأمة العربية على مدى خمسين عاما، كان يحب أن يهرب من واقعها المرير أحيانا ولكن هيهات؛ ليقول لنا بعد عرضه لإشكالية اللغة العربية في الأمة:  "وهكذا أردت أن أستريح بقراءة سهلة لطيفة تنسيني الواقع من حولي‏,‏ فانفتحت أمامي كل أبواب الريح‏!‏". رحم الله رجاء النقاش فلعله يجد الراحة في جنات الخلود