الشِّعرُ الضَّاحِك
(في ديوان العرب)
أ.د/
جابر قميحةمن الحقائق التي حملها إلينا التاريخ، وسرى مسرى الأمثال قولهم "العرب أمة شاعرة". وكذلك قولهم "الشعر ديوان العرب". ولا مبالغة في ذلك: فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم وأيامهم، ومسيرة حياتهم.
عزيزي القارئ : في استهلال هذه الحلقة نسجل شكرنا للإخوة المستمعين الذين أرسلوا إلينا رسائلهم يعبرون فيها عن إعجابهم ببرنامجنا "ديوان العرب". وقد وقفنا أمام رسالةٍ أرسلتْها إحدى الأخوات من مدينة "وجدة" بالمغرب العربي تسأل فيها:
هل الشعر العربي كله جادّ صارم، كالحلقات التي قدمتموها من ديوان العرب؟ أليس في شعر العرب ما يثير الابتسامة أو الضحكة؟ وهي تذكرنا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول: "روحوا عن القلوب ساعةً بعد ساعة، فإنَّ القلوب إذا كلت عميت". ونحن نشكر للأخت اهتمامها، ونقدم هذه الحلقة عن "الشعر الضاحك"، وهو الشعر الذي إن لم يثر ضحكاتنا ,فهو على الأقل يرسمُ ابتسامةً على شفاهنا.
**********
نفتح ديوان العرب، ونلتقي أول ما نلتقي بشاعرِ الملاحمِ، والمعارك العربية أبي الطيب المتنبي، ونراهُ وقد مرَّ برجلين: كناني وعامري قتلا جرذا أي فأرًا كبيرًا، وأمسكه أحدهما يريه للناس ليعجبوا من ضخامته، فقال المتنبي على البديهة:
لقد أصبح الجرذ المستغير رمـاه الـكناني والعامري كـلا الـرجلين اتَّلى قتله وأيـكـمـا كان من خلفه | أسير المنايا صريع العطب وتـلَّاه للوجه فَعْلَ العَرَبْ فـأيـكما غل حُرَّ السلَب؟ فـإن به عضة في الذنب؟ |
**********
وكانت شخصية البخيل موضوعًا لسخرية الأدباء العرب، فللجاحظ كتاب ضخم عن البخلاء، وها هو ذا ابن الرومي يرسمُ صورة "كاريكاتيرية" ساخرة لبخيل اسمه عيسى في البيتين التاليين:
يقتر عيسى على نفسه وليس بباقٍ ولا خالدِ
فلو يستطيع لتقتيره تنفس من منخر واحد
ويدعو أحد البخلاء الشاعر أبا نصر "كشاجم" لتناول الطعام في بيته، فيقبل كشاجم الدعوة، وكانت النتيجةُ أنّ.. لكنْ لندع الشاعر يصفُ هذه الواقعة بنفسه يقول كشاجم:
صديقً لنا من أبرع الناس في البخل دعـاني كما يدعُو الصديق صديقهُ فـلـمـا جـلـسنا للطعامِ.. رأيتُه ويـغـتـاظ أحـيـانًا ويشتم عبده فـأقـبـلـت أسـتل الغذاء مخافةً أمـد يـدي سـرًّا لأسـرق لـقمةً | وأفـضـلهم فيه، وليس بذي فضلِ فـجـئـت كما يأتي إلى مِثْلِهِ مِثْلي يـرى أنه من بعض أعضائه أكلي وأعـلـمُ أن الغيظ والشتم من أجلي وألـحـاظ عينيه رقيبٌ على فعلي فـيـلـحظني شزرًا، فأعبثُ بالبقلِ |
ويمضي الشاعر كشاجم في وصف مشاهد المأساة، وتنتهي الوليمة بالحرمان، ويعلن الشاعر أن له ثواب الصائمين لولا أنه لم ينو الصيام مسبقًا.
**********
وكان أبو الفتح كشاجم يمتلك سكينا نفيسة لبري الأقلام، فطمع فيها كاتبٌ أديبٌ فسرقها فرثاها أبو الفتح بقصيدة منها الأبيات التالية:
يـا قـاتـل الله كـتـاب لـقـد دهـانـي لطيف منهمو خَتِل فـابـتـزنـيها،ولم أشعر به عبثا كـانـت تـقـوم أقـلامي وتنحفها هـيـفـاء مـرهفة، بيضاء مذهبة كـأنـهـا حـيـن يشجيني تذكرها | الدواوينمـا يـستحلون مِن سرْق فـي ذات حـد كحد السيف مسنون ولـسـتُ لـو ساءني ظنٌّ بمغبون بـريًـا، وتـسخطها قَطّا فترضيني قـال الإلـه لـهـا سـبحانه كوني في القلب مني، وفي الأحشاء تفريني | السكاكين
**********
والضيف الثقيل شخصية لا يخلو منها زمانٌ أو مكان. وفي الضيف الثقيل يقول ابن المعتز:
وزائـر زارنـي أوجـع لـلقلب من غريم بـغـير زادٍ ولا شرابٍ | ثـقيلٌينصر همي على سروري ظـل مـلـحًّا على فقير ولا حـمـيـرٍ ولا شعيرِ |
**********
وكان بين أحمد شوقي، والدكتور محجوب ثابت ودٌّ قديم، وكان للدكتور محجوب حصان يرتاد به شوارع القاهرة أيام الثورة المصرية سنة 1919م ، وكان أصدقاؤه يطلقون علي الحصان "مكسويني"، وهو بطل إيرلندي مشهور انتحر جوعًا بالإضراب عن الطعام. وأطلقوا على الحصان هذا الاسم (مكسويني) أو مكسي , كناية عن هزاله، وشدة جوعه وعدم العناية به. ثم باع محجوب الحصان، واشترى بدلاً منه سيارة قديمة من نوع (أوفرلاند) فقال شوقي مداعبًا موجهًا خطابه إلى الحصان:
أدنيا الخيل يا لـقـد بـدلك الدهرُ فصبرا يا فتى الخيلِ أحـق أن مـحجوبًا وبـاع الأبـلق الحر ولم يعرفْ له الفضل | مكسيكـدنيا الناس مـن الإقـبالِ إدبارهْ فـنفسُ الحرِّ صبارهُ سـلا عـنك بسيارهْ ب (أوفـرلاند) نعارهْ ولا ق_ـدَّر آث_ـاره | غدارهْ
وفي مداعبة أخرى يخاطب شوقي الحصان مكسويني قائلاً:
تـفـديك يا مكسي الجيادُ كـأنـك إن حـاربت فوقك عنترٌ فـإنـك شـمـسٌ والجياد كواكبٌ | الصلادمُونفدي الأساة النطس من أنت خادمَ وتـحت ابن سينا أنتَ حين تُسالمَ وإنـك ديـنـارٌ، وهـنَّ دراهـمُ |
**********
أما الابتسامة التالية فهي مهداة للآباء والأمهات، بصفة خاصة، فمما يحدث كثيرًا أن الأم تعود إلى البيت لتجد ابنتها التي لم تتجاوز ثلاث سنوات، أو أربعا، وقد أخرجت أدوات الزينة الخاصة بالأم، لتصب منها على وجهها وثيابها بصورة عشوائية، أو تتناول كتابًا ثمينًا من المكتبة، وتشوه وجوه صفحاته بأقلامها الملونة، وتهب الصغيرة حين تشعر بمجيء الأم لتعرض عليها في تباه إنجازها العظيم، وتكاد الأم تتفجر من الغيظ، ولكنها لا تملك في النهاية إلا الابتسام، إن الشاعر خليل مطران يعرض علينا موقفًا مشابهًا فيقول:
... لـي ابن عم بالغ طـلق المحيا، شعره مذهب يـسـير كالجندي مستكبرا قـالـت لـه أمه يوما وقد هـيـا نزر جدتك الآن يا فراح مثل الظبي يعدو إلى وكان في إحدى الكوى طائرٌ رآه فـيـه صـامتا موحشًا فـفـتـح الباب له مسرعا أراك مـشـتـاقًا إلى جدةٍ | أربعامـن عمره أو دونها وثـغره كنز حوى جوهرا وما أحب الطفل مستكبرا!! أحسن سيرا "حق أن تؤجرا بـني فالبس ثوبك الأفخرا" غـرفـته جذلان مستبشرا قـد أودعـوه قفصًا مقفرا كـما يكون الحر مستأسرا وقـال أحسنت فخيرًا ترى تزورها فاذهب وعد مبْكِرا" | أشهرا
**********
وطبعًا انطلق الطائر الثمين لا إلى جدته، ولكن إلى الفضاء الرحيب، وطبعًا لم يعد إلى قفصه، لا مبكرًا، ولا متأخرًا، وتكاد الأم تتميز من الغيظ لما فعله صغيرها بعفوية وحسن نية، ولكن سرعان ما تعلو شفتيها ابتسامة حانية. فنحن الآباء والأمهات لا نملك إلا هذا أمام "شقاوة" الصغار في تصرفاتهم البريئة.
**********
عزيزي القارئ: نأمل أن تكون قد سعدت بهذه الحلقة كما سعدنا وإلى اللقاء مع حلقة جديدة من ديوان العرب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.