أثر الحالة النفسية في منهج طه حسين

أثر الحالة النفسية في منهج طه حسين

الباحث / محمد عبد الكريم النعيمي - المدينة المنورة

 من المسلَّم به أن الإعاقة التي قد تلحق بإنسان تسبب له عقدة نفسية ربما فاقت خُطورتُها الإعاقةَ الجسدية ذاتَها ، لاسيما إذا كان المعاق بريئاً من الإعاقة فترة من حياته ، ولاسيما إذا كانت الإعاقة من أبلغ الإعاقات التي قد تصيب بشراً ، كحالة طه حسين الذي كان نصيبه منها العَمَى ، بعد أربعة أعوام من عمره قضاها مبصراً معافى ، ولاسيما أيضاً إذا كان علاج الداء الذي ذهب بحبيبتيه ممكناً لولا جهل أهل قريته المنسية في أقصى الصعيد .

 كلُّ هذه النكبات مجتمعةً ، إذا أضفنا إليها لذعة الشعور بالإشفاق ممن حوله ، ساهمت بشكل كبير في التكوين الشعوري والعقلي لطه حسين ، فخلقت لديه ثورة عارمة ضد الجهل ، وشعوراً محبِطاً بالضآلة وقلة الشأن ، وشغلته بالتفكير والتفكير العميق بعد الفراغ الكبير الذي خلَّفه العَمَى .

 ويَصِفُ لنا طه حسين حاله تلك التي عاشها ، فيقول : " كان سابعَ ثلاثة عشر من أبناء أبيه ، وخامسَ أحد عشر من أَشِقَّتِه ، وكان يشعر بأن له بين هذا العدد الضخم من الشباب والأطفال مكاناً خاصاً يمتاز من مكان إخوته وأخواته ، أكان هذا المكان يُرضيه ؟ أكان يؤذيه ؟ الحق أنه لا يستطيع الآن أن يحكم في ذلك حكماً صادقاً ، كان يحس من أمه رحمة ورأفة ، وكان يجد من أبيه ليناً ورفقاً ، وكان يشعر من إخوته بشيء من الاحتياط في تحدثهم إليه ومعاملتهم له ، ولكنه كان يجد إلى جانب هذه الرحمة والرأفة من جانب أمه شيئاً من الإهمال أحياناً ، ومن الغلظة أحياناً أخرى ، وكان يجد إلى جانب هذا اللين والرفق من أبيه شيئاً من الإهمال أيضاً ، والازْوِرار من وقت إلى وقت ، وكان احتياط إخوته وأخواته يؤذيه ، لأنه كان يجد فيه شيئاً من الإشفاق مشوباً بشيء من الازدراء .

 على أنه لم يلبث أن تبيَّنَ سببَ هذا كلِّه ، فقد أحسَّ أن لغيره من الناش فضلاً ، وأن إخوته وأخواته يستطيعون ما لا يستطيع ، وينهضون من الأمر لما لا ينهض له ، وأحس أن أمه تأذن لإخوته وأخواته في أشياء تحظرها عليه ، وكان ذلك يُحفِظُه ، ولكن لم تلبث هذه الحفيظة أن استحالت إلى حزن صامت عميق ، ذلك أنه سَمِعَ إخوته يَصِفُون ما لا علم له به ، فَعَلِمَ أنهم يرون ما لا يرى " (1) .

 ويبدو أن هذا الشعور بالضآلة لدى طه حسين دفعه إلى طلب التألق وغرس فيه حُبَّ الظهور ، والرغبةَ في إثبات الحضور ولفتِ الأنظار بأي سبيل ومنذ نعومة أظفاره ، وقد كان للحفاوة التي استَقبَلَت بها القريةُ أخاه الأزهريَّ القادمَ من القاهرة أثرها في هذا الاتجاه ، فطمحت أحلامه الصغيرة إلى بلوغ ما بلغ أخوه من المقام ، وغدا يمني نفسه بالدراسة في الأزهر إذا بلغ السِّنَّ القانونية ، بل وبدأ جدياًّ بالاستعداد لذلك فحفظ بعض المتون العلمية ، حتى إذا بلغ الثالثة عشر من عمره والتحق بالأزهر وقضى سنةً بعيداً عن قريته وأهله وذويه ، عاد من ثمَّ مع ابن خالته إلى القرية متوقِّعاً احتفالاً بقدومه لا يقل عن الاحتفال بقدوم أخيه ، فإذا به يصاب بخيبة أمل عمَّقت فيه هذا الشعور ، ولكنه ما لَبِثَ أن انتقم لذاته ، وأثبت حضوره ، وكشف عن خطره ، ولندعه يحكي ذلك بأسلوبه المشوِّق ، يقول : " وكانت العِشاءُ قد صُلِّيَت حين نزل الصَّبِيَّان من القطار ، فلم يجدا في المحطة أحداً ، فأنكرا ذلك شيئاً ، ولكنهما وصلا إلى الدار فإذا كل شيء كان يجري فيها كما كانت تجري الأمور في كل يوم ... فلما دخل الصَّبيان وَجَمَت الأسرة لدخولهما ، ولم تكن قد أُنبِئَت بعودتهما ، فلم تعد لهما عشاءً خاصاً ، ولم تنتظرهما بالعشاء المألوف ، ولم ترسل أحداً لتلقيهما عند نزولهما من القطار .

 وكذلك أُضيعَ على الصبي ما كان يُديرُ في نفسه من الأمانيّ ، وما كان يُقَدِّرُ من أنه سَيُستقبَلُ كما كان يُستقبَلُ أخوه الشيخ في ابتهاج وحفاوة واستعداد عظيم ، على أن أمه نهضت فقبَّلته ، ونهضت إليه أخواته فضَممنه إليهن ، وقُدِّمَ إليه وإلى صاحبه عشاءٌ كعشائهما في القاهرة ، وأَوَت الأسرةُ كلُّها إلى مضاجعها ، ونام الصبي في مضجعه القديم ، وهو يكتم في صدره كثيراً من الغيظ وكثيراً من خيبة الأمل أيضاً "(2) .

 ويُلاحِظ طه حسين أن رحلته إلى القاهرة وإلى الأزهر لم ترفَع له ذِكراً ولم تحفظ له مكاناً لا في محيط أسرته ولا بين زملائه في الكُتَّاب فضلاً عن مجالس الكبار وجمهور أهل القرية ، وكان يزيده غيظاً وألماً سؤالُ الناس له عن أحوال أخيه الشيخ ، وقد آذى هذا كله غرورَه الشديدَ ، وزاده إمعاناً في الصمت وعكوفاً على نفسه وانصرافاً إليها ، " ولكنه لم يكد يقضي أياماً بين أسرته وأهل قريته حتى غيَّر رأيَ الناس فيه ولفتهم إليه ، لا لَفْتَ عطفٍ ومودَّة ، ولكن لفت إنكار وإعراض وازورار ، فقد احتمل من أهل القرية ما كان يحتمل قديماً يوماً ويوماً وأياماً ، ولكنه لم يطق على ذلك صبراً ، وإذا هو ينبو على ما كان يألف ، وينكر ما كان يعرف ، ويتمرد على من كان يُظهِرُ لهم الإذعانَ والخضوع ، كان صادقاً في ذلك أول الأمر ، فلما أَحَسَّ الإنكار والازورار والمقاومة ، تكلَّف وعاند وغلا في الشذوذ ، سمع (سيدنا) يتحدث إلى أمه ببعض أحاديثه في العلم والدين ، فأنكر عليه حديثَهُ وردَّ عليه قوله ، ولم يتحرَّج من أن يقول : هذا كلام فارغ . فغضب (سيدنا) وشتمه ، وزعم أنه لم يتعلم في القاهرة إلا سوء الخلق ، وأنه أضاع في القاهرة تربيته الصالحة .

 غضبت أمه وزجرته ، واعتذرت إلى (سيدنا) وقصَّت الأمر على الشيخ - أي على أبي طه حسين - حين عاد ، فصلَّى المغرب وجلس للعَشاء ، فهزَّ رأسه وضحك ضحكة سريعة في ازدراء للقصة كلها وشماتة (بسيدنا) ، فلم يكن يحب (سيدنا) ولا يعطف عليه .

 ولو وقف الأمر عند هذا الحد لاستقامت الأمور ، ولكنَّ صاحِبَنا - يتحدث عن نفسه - سمع أباه يقرأ (دلائل الخيرات) كما كان يفعل دائماً إذا فرغ من صلاة الصبح أو من صلاة العصر ، فرفع كتفيه وهز رأسه ثم ضحِك ، ثم قال لإخوته : إن قراءة الدلائل عبث لا غناء فيه .

 فأما الصغار من إخوته وأخواته فلم يفهموا عنه ولم يلتفتوا إليه ، ولكن أخته الكبرى زجرته زجراً عنيفاً ورفعت بهذا الزجر صوتها ، فسمعها الشيخ ولم يقطع قراءته ، ولكنه مضى فيها حتى أتمها ، ثم أقبل على الصبي هادئاً باسماً يسأله ماذا كان يقول ؟ فأعاد الصبي قوله . فلما سمعه الشيخ هَزَّ رأسه وضحك ضحكة قصيرة وقال لابنه في ازدراء : "ما أنت وذاك ! هذا ما تعلَّمتَهُ في الأزهر !" ، فغضب الصبيُّ وقال لأبيه : "نعم ، وتعلمتُ في الأزهر أن كثيراً مما تقرؤه في هذا الكتاب حرامٌ يَضُرُّ ولا ينفع ، فما ينبغي أن يتوسَّل إنسانٌ بالأنبياء ولا بالأولياء ، وما ينبغي أن يكون بين الله وبين الناس واسطةٌ ، وإنما هذا لون من الوثنية" .

 هنالك غضب الشيخ غضباً شديداً ، ولكنه كظم غضبه واحتفظ بابتسامته وقال فأضحك الأسرةَ كلها : "اخرسْ قطع الله لسانك ، لا تَعُدْ إلى هذا الكلام ، وإني أُقسِمُ لئن فَعَلتَ لأمسكنَّك في القرية ، ولأقطعنك عن الأزهر ، ولأجعلنك فقيهاً تقرأ القرآن في المآتم والبيوت" . ثم انصرف ، وتضاحكت الأسرة من حول الصبي ، ولكن هذه القصة على قسوتها الساخرة لم تزد صاحبنا إلا عناداً وإصراراً.

 وقد نسيها الشيخ بعد ساعات ، وأقبل على عشائه ومِن حوله أبناؤه وبناته كعادته ، وجعل يسأل الصبيَّ عن الشيخ الفتى - أي عن أخيه الأزهري - ماذا يصنع في القاهرة ؟ وماذا يقرأ من الكتب ؟ وعلى من يختلف من الأساتذة ؟ .

 وكان الصبي يشعر بلذة أبيه لهذه الأحاديث ورضاه عنها ، فيتزيد ويكثر ويخترع منها ما لم يكن ، ويحفظ ذلك في نفسه ليقصه على أخيه إذا عاد إلى القاهرة .

 وكان الشيخ بهذا كله سعيداً وله مغتبطاً وعلى تجديده حريصاً ، فلما جلست الأسرة للعشاء في تلك الليلة وجدد الشيخ أسئلته عن ابنه الفتى : ماذا يصنع في القاهرة ؟ وماذا يقرأ من الكتب ؟ . قال الصبي في دهاء وخبث وكيد : إنه يزور قبور الأولياء ، وينفق نهاره في قراءة دلائل الخيرات ! .

 ولم يكد الصبي ينطق بهذا الجواب حتى أغرقت الأسرة كلها في ضحك شديد شرق له الصغار بما كان في أفواههم من طعام وشراب ، وكان الشيخ نفسُهُ أسرعهم إلى الضحك وأشدهم إغراقاً فيه .

 وكذلك استحال نقد الصبي لأبيه في قراءته للدلائل والأوراد موضوعاً للهو الأسرة وعبثها أعواماً وأعواماً . والظريف من هذا الأمر أن هذا النقد كان يُحفِظُ الشيخ حقاً ، ويُؤذيه في نفسه وفيما ورث من عادة واعتقاد ، ولكن الشيخ على ذلك كان يدعو ابنه إلى هذا النقد ويغريه به ، ويجد في هذا الألم لذة ومتاعاً .

 ومهما يكن من شيء فإن شذوذ الصبي لم يلبث أن تجاوز الدار إلى مجلس الشيخ قريباً منها ... بل وصل شذوذ الصبي إلى المحكمة الشرعية ، فسمعه القاضي وسمعه خاصة ذلك الشيخ الذي كان يكتب للقاضي ...

 تسامع هؤلاء الناسُ جميعاً بمقالات هذا الصبي وإنكاره لكثير مما يعرفون ، واستهزائه بكرامات الأولياء ، وتحريمه التوسلَ بهم وبالأنبياء ، وقال بعضهم لبعض : إن هذا الصبي ضالٌّ مضل ، قد ذهب إلى القاهرة فسمع مقالاتِ الشيخ محمد عبده الضارةَ وآراءه الفاسدةَ المفسدة ، ثم عاد بها إلى المدينة ليضلل الناسَ .

 وربما سعى بعضهم إلى مجلس الشيخ وأصحابه قريباً من الدار ، وطلبوا إلى الشيخ أن يريهم ابنه ذلك الشاذ الغريب ، فيقبل الشيخُ هادئاً باسماً حتى يدخلَ الدارَ ، فيرَى ابنه آخذاً في اللعبِ أو الحديث مع أخواته ، فيأخذه بيده في رفق ويقوده إلى مجلسه ، فإذا سلَّم على القادمين أجلسَهُ ثم أخذ بعضُ القادمين في التحدُّث إليه رفيقاً أولَ الأمر ، فإذا اتصل الحديثُ ذَهَبَ الرِّفقُ وقام مقامه الحوار العنيف ، وكثيراً ما كان مُحاوِرُ الصبي ينصرِفُ غاضباً متحرِّجاً يستغفر الله من الذنب العظيم ، ويستعيذ به من الشيطان الرجيم .

 وكان الشيخ وأصحابُه من الذين لم يدرسوا في الأزهر ولم يتفقهوا في الدين يَرضَون عن هذه الخصومات ويعجبون بها ، ويبتهجون لهذا الصراع الذي كانوا يشهدونه بين هذا الصبي الناشئ وهؤلاء الشيوخ الشيب .

 وكان أبو الصبي أشدَّهم غبطة وسروراً ، ومع أنه لم يُصَدِّق قط أن التوسل بالأولياء والأنبياء حرام ، ولم يطمئن قط إلى عجز الأولياء عن إحداث الكرامات ، ولم يُساير قط ابنه فيما كان يقول من تلك المقالات ، فقد كان يحب أن يرى ابنه محاوراً مخاصماً ظاهراً على محاوريه ومخاصميه ، وكان يتعصَّبُ لابنه تعصباً شديداً ، وكان يَسمع ويحفظ ما كان الناسُ يتحدثون به ويخترعونه أحياناً من أمر هذا الصبي الغريب ، ثم يعود مع الظهر أو مع المساء فيعيد ذلك كلَّه على زوجته راضياً حيناً وساخطاً حيناً آخر .

 وعلى كل حال فقد انتقم الصبي لنفسه ، وخرج من عزلته وشغل الناسَ في القرية والمدينة بالحديث عنه والتفكير فيه ، وتَغيَّرَ مكانُهُ في الأسرة ، مكانه المعنوي إن صحَّ هذا التعبير ، فلم يُهمله أبوه ، ولم تُعرِض عنه أمه وإخوته ، ولم تقم الصلة بينهم وبينه على الرحمة والإشفاق ، بل على شيء أكثر وآثر عند الصبي من الرحمة والإشفاق"(3) .

 وهكذا انتقم طه حسين لشعوره وأرضى غروره ، وبغض النظر عن صحة ما اعترض عليه من موروثات قريته الاعتقادية ، فإن طه حسين - على ما يبدو - لم يعنه أمرُ سلامة العقيدة بقدر ما عناه طلبُ الشُّهرة بالشذوذ والاعتراض على ما ورثه أبناء قريته من الاعتقاد ، ويبدو أن هذه الحادثة أثَّرت فيما بعد بمنهجه في الكتابة والنقد إلى حد كبير ، مما جعل بعض الباحثين يذهبون إلى رأي مفاده أن طه حسين كان من اللاهثين خلف الشهرة الرخيصة بافتعال فرقعات فكرية وأدبية تَشُدُّ الانتباه إليه ، لافتقاده أسبابَ الشهرة الطبيعية كالتميز والأصالة ووفرة الإنتاج(4) ، فاستخدم الآراءَ الغريبة التي سلَّطت الأضواءَ عليه فعلاً ، والتي تَنُمُّ - حسب هؤلاء الباحثين - عن جهل وقلة اطلاع ، فغدا شأنه كما يقول المثل الإنجليزي (العربة الفارغة أكثر جلبةً وضوضاءً) ، وكما قال كُثيِّرُ عزة :

ضِعَافُ الأُسْدِ أَكْثَرُها زَئِيْراً                وَأَصْرَمُها اللَّوَاتِي لا تَزِيرُ 

 وقد لاحظ هذا في بحوث طه حسين الدكتور شوقي ضيف ، فقال في معرض حديثه عن هذا النوع من البحوث التي تمثلها بحوث طه حسين : "وكثيراً ما يَعمد بعضُ الباحثين إلى أوضاع غيرِ مألوفة حتى يُحدِثَ ببحثه أو بُحوثه رَجَّاتٍ عنيفةً في نفوس القُرَّاء ، وخير مَن يُصَوِّرُ ذلك ببحوثه طه حسين ، إذ يُعنَى غالباً بأن يَسوقَ بُحوثَه في أوضاع لا يألفها القراءُ حتى يَجذِبَهم إليها ، ويتضح هذا الجانبُ عنده في دراسته للأدب الجاهلي ، فقد كان الناسُ يُقبِلُون على دراسة هذا الأدب في اطمئنان دون أن يَشُكُّوا في نصوصه وإِضافَتها لقائليها ، ورأي بعض الباحثين من المستشرقين يتهمون تلك النصوصَ اتهاماً واسعاً ، فاختار لدراسته أن يكون محورها الانتحال ، وأن يديرها من حوله حتى يُحدِثَ بهذا الوضعِ غيرِ المألوف للشعر الجاهلي كُلَّ ما يُريدُ من دَوِيٍّ لدراسته ، وهو دَوِيٌّ ما زال يَخرِقُ الأسماع حتى اليوم ، ودراسة ثانية عنده تصور هذا التجاه هي دراسته في كتابه (من حديث الشعر والنثر) لابن المقفع ، وقد وَجَدَ القُدماءَ يُنَوِّهُونَ بأدبه تنويهاً عظيماً حتى لَيجعلونه أَحدَ البُلغاءِ العشرة المقدَّمين في العصر العباسي ، إذ يرجع إليه الفضل الأول في تطوير اللغة العربية وأساليبها ومَدِّ طاقاتها لكي تحتوي آدابَ الفرس وأفكارَهم ومنطِقَ اليونانِ وأقيسَتَهُ الدقيقة ، ومعروف أنه كان أولَ مترجم بارِعٍ ترجمَ عن لغته أروعَ ما رآهُ فيها من أعمال أدبية خاصة بأهلها أو بالهند على نحو ما هو ذائعٌ عن ترجمته لكليلة ودمنة ، وترجم أيضاً عنها المنطقَ اليوناني ومقولاته ، وله بعد ذلك رسائلُ تمتاز بنصاعة العبارة وروعتها ، وكأنما أراد طه حسين أن يسوقَ وضعاً في دراسة هذا الكتاب الذي اشتهر ببلاغته ، يُخالِفُ به المألوفَ الذي يشيع عنه على جميع الألسنة منذ عصره إلى اليوم ، فقال : إن ابنَ المقفع عندما يتناول المعاني الضيقةَ التي تحتاج إلى الدقة في التعبير يَضعُفُ فيكلِّفُ نَفسَه مَشَقَّةً ويُكَلِّفُ اللغةَ مَشَقَّةً ، إذ تضطربُ وتستَعصي عليه . ولم يلبث - طه حسين - أن اختار له الوضع الجديد الذي يلفت به الأنظارَ ، فإذا ابنُ المقفع البليغُ المشهورُ مُستشرِقٌ كغيره من المستشرقين ، يُحسِنُ اللغةَ العربيةَ فَهْماً ، وربما أعياهُ الأداءُ فيها . ودراسة ثالثةٌ عند طه حسين تصوِّرُ أيضاً هذا الاتجاه ... حين عُنِيَ بدراسة المتنبي ، شاعرِ العربية غير منازَع ولا مدافع ، رأى أن يَختارَ له وضعاً يُحدِثُ أَعظَمَ دَوِيٍّ ممكن ، فاختار له الشَّكَّ في نَسَبِهِ العربي . وفي رأينا أن عنايته بإيجاد وضع غير مألوف لدراسة المتنبي هي التي قادته إلى هذا الرأي الجديد ، كما قادته إلى أن ابن المقفع مستشرق كثيراً ما يضعف عنده الأداء العربي مثل نظرائه من المستشرقين"(5) .

 ورغم ذلك فإن هذا لا يُقَلّلُ من القيمة الأدبية لطه حسين ، فهو من البلاغة وجزالة الأسلوب في مكان لا يخطئه الذوق ، ومن وفرة الإنتاج وقيمته في مكان لا تخطئه العين .