البصمات القرآنية (1)

(في ديوان العرب)

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

 من الحقائق التي حملها إلينا التاريخ ، وسرت مسرى الأمثال قولهم " العرب أمة شاعرة " ، وكذلك قولهم " الشعر ديوان العرب " . ولا مبالغة في ذلك : فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم ومسيرة حياتهم .

**********

 عزيزي القارئ : لقد أُخذ الكفار ببلاغة القرآن , وجمال بيانه , وقدرته على التأثير وجذب النفوس , حتى قال كبير من زعمائهم هو الوليد بن المغيرة " والله إن له لحلاوة , وإن عليه لطلاوة , وإن أعلاه لمُثمر , وإن أسفله لمُغْدِق , وإنه يعلُو , ولا يُعلى عليه " .

 فلا عجب إذن أن نجد الشعر العربي , قد تأثر بالبيان القرآني , فطعَّم كثير من الشعراء قصائدهم بكثير من المعاني والكلمات والصور القرآنية , مما ارتفع بالقيمة الفكرية والفنية لهذا الشعر .

 وفي هذه الحلقة من ديوان العرب نتتبع " البصمات القرآنية " من كلمات وعبارات وصور في الشعر العربي القديم .

 إن الشاعر المخضرم " عبد الله بن الزِّبَعْرِى " كان في الجاهلية شاعرا هجاء شِريرا , ولكن الإسلام سما بطاقته الشعرية , فصار لسان صدق وحق في الدفاع عن الإسلام , وحث المسلمين على الجهاد , ورثاء من استشهد منهم , وفي الأبيات التالية التي يتحدث فيها إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ترى مدى تأثره بالقيم والمعاني القرآنية إذ يقول :

يـا رسـول الـمليك إن iiلساني
إذ أُجاري الشيطان في سَنَنِ الغيّ
آمـن  الـلـحمُ والعظامُ بما iiقل
إن  مـا جـئـتنا به حقُّ iiصدقٍ
جـئـتـنا باليقين والبر iiوالصد
أذْهَـبَ الله ضَـلَّـةَ الجهل iiعنَّا





راتـقٌ مـا فَـتَـقْتُ إذ أنا iiبُورُ
ومـن مـال مـيـلَـه iiمـثبور
ت , فـنفسي الشهيدُ أنت iiالقدير
سـاطـع نوره مضيء .. iiمنير
ق . وفي الصدق واليقين iiسرور
وأتـانـا  الـرخـاء iiوالميسور

**********

 وفي نفس الفلك تدور أبيات الصحابي المجاهد الشهيد : عبد الله بن رواحة : إذ يقول :

وفـيـنـا رسـول الله يتلو iiكتابه
أرانـا  الهُدى بعدَ العمى , iiفقلوبنا
يـبـيت  يُجافي جَنبه عن iiفراشه


إذا انشقَّ معروف من الفجر ساطعُ
بـه مـوقـنـات أنّ ما قال واقع
إذا اسـتثقلت بالكافرين iiالمضاجع

 وواضح أن الشاعر متأثر في البيت الأخير بقوله تعالى في وصف المؤمنين "تتجافى جنوبهم عن المضاجع , يدعون ربهم خوفا وطمعا ". (السجدة 16)

**********

 ومن أكثر الشعراء تأثرا بالقرآن الكريم , واقتباسا من بيانه الشاعر العباسي أبو تمام . ويقال إن " عبد الله بن طاهر " حجبه هو ومجموعة من الشعراء أياما, فكتب إليه أبو تمام الأبيات التالية :

أيـهـا  الـعزيز قد مسنا الضُّر
ولـنـا فـي الرحال شيخ iiكبير
قـلَّ طُـلابها , فأضحت iiخسارا
فاحتسب أجرنا , وأوفِ لنا الكيلَ



جـمـيـعـا  , وأهـلنا أشْتات
ولـديـنـا بـضـاعـة iiمزجاة
فـتـجـاراتُـنَا  بها .. iiتُرَّهات
,  وصَـدّق فـإنـنـا iiأمـوات

 وواضح انه متأثر إلى أبعد حد بقوله تعالى في سورة يوسف :

" فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر , وجئنا ببضاعة مزجاة , فأوف لنا الكيل , وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين ". (يوسف 88)

**********

 ونرى النابغة الجعديّ يُضمن بعض أبياته أسماء الله الحسنى التي جاءت في القرآن الكريم فيقول :

المولج  الليل  في  النهار  وفي  الليل  نهارا  يُفَرّج الظلما

الخافض الرافع السماء على الأرض , ولم يبن تحتها دَعَما

الخالق الباري , المصور في الأرحام جاء حتى يصير  دما

من  نطفة  قدَّها  مُقدّرها            نَمَت لَحْما  كساه فالتأما

**********

 وقصة أبي تمام في سينيته معروفة , فيقال إنه مدح بها أحد الأمراء إلى أن قال:

إقدامُ عمرو , في سماحة حاتم        في حلم أحنف , في ذكاء إياسِ

 فهو يشبه الأمير في الشجاعة بعمرو بن معدي كَرب , وفي الكرم بحاتم الطائي, وفي الحلم بالأحنف بن قيس , وفي الذكاء بإياس بن معاوية .

 وهنا نهض بعض حاسديه , وقال : " ما زدت على أن شبهت الأمير ببعض صعاليك العرب " , فقال على البديهة :

لا تُنكروا ضربي له من دونه        مثلا شَرودا في النَّدى والباسِ

فالله  قد  ضرب  الأقلَّ لنوره        مثلا من المشكاة .. والنِّبراس

 وهو بذلك يشير إلى قوله تعالى " .. مثل نوره كمشكاة فيها مصباح , المصباح في زجاجة , الزجاجة كأنها كوكب درّي .. ". (النور35)

*********

 ويكثر في الشعر القديم الإشارات إلى الشخصيات والوقائع التي ورد ذكرها في القرآن الكريم , كما نرى في قول سُكَينة بنت الحسين – رضي الله عنها – وقد رأت أهل الكوفة يبكون زوجها " مصعب بن الزبير " وهم الذين تقاعسوا عن نصرته , ومنهم من غدر به , وأسهم في قتله .

يبكون من قتلت سيوفُهُم        ظلما بكاء موجِِع القلب

كبكاء إخوة يوسف وهُمُ        حسدا له ألقَوْه في الجب

**********

 وكلمة " العرش " من الكلمات القرآنية , وقد ذكرت في القرآن الكريم أكثر من عشرين مرة , وتصف الآيات الكريمة الله سبحانه وتعالى بأنه " ذو العرش " وأنه " رب العرش " . ويقول الشاعر الشهيد عبد الله بن رواحة :

شهدتُ  بأن  وعد  الله حق        وأن  النار  مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء حق        وفوق العرش رب العالمينا

 وهو هنا متأثر بقوله تعالى في سورة هود " وكان عرشه على الماء.... " . (هود 7)

 وقال عمر بن أبي ربيعة :

آمينُ يا ذا العرش فاسمع , واستجب        لما نقولُ , ولا تخيِّب من دُعانا

**********

 ويعيش الشاعر " الطِّرِمَّاح بن حكيم " مشاهد القيامة والحساب في القرآن الكريم : فكل نفس ذائقة الموت في ميعاد معلوم , ويوم القيامة لا ينفع مال ولا بنون , ويوم الحساب تَشهدُ على الإنسان أعضاؤه : يقول الطرماح :

عجبا ما عجبت للجامع المالَ , يُبَاهي به ويرتفِدُه

ويضيع الذي يُصيِّره الله إليه , فليس يعتقده

يوم لا ينفع المُخوَّل ذا الثروة خلَّانُه , ولا ولده

يوم يؤتى به وخِصماه وسْط الجن والإنس رجله ويده

خاشع الصوت ليس ينفعُهُ ثَمَّ أمانيُّهُ , ولا لَدَدُهُ

**********

 عزيزي القارئ : كانت هذه بعض البصمات القرآنية في الشعر العربي القديم.. في الألفاظ والتراكيب , والصور والمعاني والأفكار . ولم يتوقف هذا التأثير الحميد عند الشعر القديم , بل امتد إلى الشعر الحديث كما سنرى فيما يأتي :

(2)

 لقد صدق الشاعر أحمد الصافي النجفي إذ يقول :

يـظـن ضعافُ الرأي أن iiحصونَنَا
ومـا  عـلـمـوا قرآننا , iiوتراثنا
وإن  لـنـا نورا يَشِعُّ على iiالورى


تهاوت , وأضحت عن حقيقتها إِسْما
حصونا  تهُدُّ الخصم , لا تقبل الثَّلما
ينافس نور الشمس بل يعتلي iiالنَّجما

**********

 ويقول أحمد شوقي :

تلك آيُ القرآن أرسلها الله ضياء يَهدي بها من يشاء

نـسخت سنة النبيين والرُّس
وحـمـاهـا غر كرام iiأشدّا
أمـة  يـنـتهي البيان iiإليها


ل  كما ينسخ الضياءَ الضياءُ
ء على الخصم , فيهم رحماءُ
وتـؤُولُ الـعـلوم iiوالعلماء

**********

 ويقتبس محمد عبد الغني حسن بعض المفردات من قوله تعالى في سورة الحشر " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله .... ". (الحشر21) . يقول محمد عبد الغني حسن :

هـذا الكتاب تعالى الله iiمنزله
لو أُنزِلَت منه آيات على جبل
لأن " المغيرة " من آياته iiوهنا


فـي ظل سرْحته للنفس iiأفياء
تصدعت  منه أركان iiوأحشاء
بالمعجبين به ميل .. iiوإصغاء

**********

 ويقتبس الشاعر " عبد المنعم حسين " من قوله تعالى " يوفون بالنذر , ويخافون يوما كان شره مستطيرا ". (الإنسان 7) . فيقول عبد المنعم حسين :

أمـناء يوفون بالنذر iiبرّا
يطعمون الطعام حبا يتيما
ويخافون في القيامة iiيوما


وهُـمُ للعهود أهل iiالوفاء
وأسيرا  , وسائر iiالفقراء
مـستطيرا بشرِّه iiوالبلاء

**********

 ويقول تعالى في سورة الأحزاب " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها , وأشفقن منها وحملها الإنسان , إنه كان ظلوما جهولا". ( الأحزاب 72 ) . وفي براعة ووعي يقتبس الشاعر عبد المنعم حسين هذه الآية في الأبيات التالية :

قـال فـي ذكرك المبارك إنا
فـأبت حملها السموات iiخوفا
غـير  أن الإنسان كُلِّف iiفيها
فـغدا  ظالما كفورا بما iiجَهْلا



قـد عرضنا أمانة الأمناء ii..
من وقوع التقصير عند الأداء
وهى  كانت من أثقل iiالأعباء
ظـالـما أهلها بنصْبِ العداء

**********

 ونرى البصمات القرآنية واضحة في عدد من قصائد الشاعرة "نازك الملائكة ". فهي تقتبس قوله تعالى في سورة الأنفال " .... ويمكرون , ويمكر الله , والله خير الماكرين " (الأنفال 30) . وذلك في قصيدة تفعيلية , تقول فيها :

سيهبط النصر على مرتّلي القرآن

على الفدائيين في أودية النيران

غدا هُنا ينفجر البركان

ويعلن الصلاة والجهاد والثورة

فيسقط الطغيان

ويزهق الباطل والبهتان

ويمكرون مكرهم , ويمكر الرحمن .

**********

 ويعيش شاعر الإحساء " يوسف عبد اللطيف أبو سعد " في ظلال البيان القرآني إيحاء وألفاظا وتصويرا , وخصوصا قوله تعالى " واعتصموا بحبل الله جميعا ..... ".(آل عمران 103) .

وقوله تعالى " فاستجبنا له , فكشفنا ما به من ضر..... ". (الأنبياء 84) .

وقوله تعالى "... والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر.... ". (فصلت 44) .

وقوله تعالى " .... إنه يعلم الجهر وما يخفى "(الأعلى 7) .

وقوله تعالى ".... ورحمتي وسعت كل شيء .... ". (الأعراف 156)

وقوله تعالى " ونجيناه وأهله من الكرب العظيم " .( الصافات 76)

 ولنستمع إلى الشاعر إذ يقول :

تـعـلَّـق بـحـبل الله إن دهَم iiالأمر
ولا تـنـفـع الـمكلوم شكواه iiللورى
تـعـلـقـت  يا ربي بحبلك .. iiواثقا
أيـا  كـاشـف الأدواء رحماك iiقوِّني
فـمـا لـي لكشف الكرب يارب iiملجأ
وأنـت لـمـن يـدعوك يارب iiسامع
وسـعـت  جميع الخلق عفوا iiورحمة
ومـن يـكشف الأدواء إلاك إن iiطَغَت
فـأنـت مـلاذي مـن مخالب iiكربتي








فـمـا  يكشف الأدواء زيد ولا iiعمرو
ومن  ذا الذي يصغي وفي سمعه iiوقر؟
بـأن  دعـائـي سـوف يعقبه iiنصر
عـلى حمل عبء الدار إن نفد iiالصبر
سـواك  , ومـنك النفع يارب والضر
ولـيـس  بـخاف عنك جهر ولا iiسر
وأنـت لـهـم عـون إذا كشر iiالدهر
براكينها الغضْبَى , وضاق بها الصدر؟
وأنـت  رجائي في الدُّنَى , ولَكَ iiالأمر

**********

 وكان حافظ إبراهيم من أكثر الشعراء تأثرا بالأسلوب القرآني , وكان قديرا على اختزان الصور والعبارات القرآنية واجترارها عند الحاجة ووضعها في مكانها اللائق من السياق الشعري , فهو ينظر إلى قوله تعالى في سورة يونس "... .. حتى إذا أخذت الأرض زخزفها وازينت , وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس .... " . (يونس 24) .

 ويقتبس حافظ من هذه الآية , وهو يصف – في قصيدة طويلة  الزلزال التي أتى على مدينة "مَسِّينا " بجنوب إيطاليا , فيقول :

خُسِفَت , ثم أُغرِقت , ثم بادت        قُضِى الأمر كله في ثواني

وأتى أمرها فأضحت كأن لم ..        تك  بالأمس  زينة البلدان

**********

 ومن الأبيات التي يظهر فيها الاقتباسات القرآنية في شعر حافظ إبراهيم قوله :

قتل الإنسان ما أكفره        طاوَلَ الخالق في الكون وسامَى

 وقوله :

أصبتُم تراثا , وألهاكم التكاثر عنا فَسُرَّ العِدا

 وقوله :

وإن شئتِ عنا يا سماء فأقلعي        ويا ماءَهَا فاكفُف , ويا أرض فابلعي

**********

 عزيزي القارئ : إن بلاغة القرآن لا تُجَارى , وما فعله الشعراء إنما هو استقاء من هذا المنهل العذب الطيب الذي لا يبلى ولا ينفد , حتى يرتفعوا بشعرهم, ويدخلوا به التاريخ . وقد آن لنا – يا عزيزي القارئ– أن نودعك على أمل اللقاء في الحلقة القادمة من ديوان العرب . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .