ما خالف فيه ابن الطرواة سيبويه والجمهور

ما خالف فيه ابن الطرواة

سيبويه والجمهور

مقدمة

الحمد لله على ما أعطى، والشكر له على ما أجزى وأوفى. أما بعد فهذا البحث أردت من خلاله أن أسلط الضوء على عالم جليل، ونحوي كبير، لطالما صادفتنا أقواله في أمهات الكتب النحوية، ولطالما أوقفتنا آراؤه التي خرج فيها على جمهور البصريين ، أو على سيبويه، ووافق فيها الكوفيين، أو خالفهم أيضا .

إن تتبع آراء ابن الطراوة ليس بالأمر السهل، ولا بالعمل الهين، ذلك أنها مبعثرة في كتب شتى، وأسفار مختلفة، سأكتفي منها بذكر الكتب الآتية:

-    نتائج الفكر للسهيلي.

-    همع الهوامع للسيوطي.

-    أوضح المسالك لابن هشام.

-    ارتشاف الضرب لأبي حيان الأندلسي.

-    شرح الأشموني.

-    شرح التسهيل لابن مالك.

-    شفاء العليل في إيضاح التسهيل للسلسيلي.

-    المساعد على تسهيل الفوائد.

-    البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي.

-    الدر اللقيط لابن مكتوم.

-    الدر المصون للسمين الحلبي.

إن موقف ابن الطراوة من المذهب البصري هو موقف الناقد البصير ، فهو لم يعتبر كلام سيبويه قرآنا منزلا ، لا ينبغي أن يحيد عنه قيد أنملة ، وإلا خرج من زمرة النحاة، بل كان نحويا بعيد الغور، عميق التفكير، واسع الاطلاع، قوي الحجة، رائع التمييز، حسن التحليل، جيد التخريج، يضع أصبعه بدقة على المسألة فيفحصها، ويعمل فكره فيها فيعرف أوجهها، ويقارب بينها ليخرج بالوجه الأنسب لها، فإذا وصل إلى وجه إعرابي أو تصريفي، دعمه بالحجة والبرهان ، وصدع به، ودافع عنه بكل قوة وإيمان، غير آبه بما قيل فيه، أيا من كان القائل، ولذا نجده في كثير من المسائل -التي سنعرضها- لا يكتفي بالخروج على فطاحل النحو كسيبويه، بل يخالف جمهور البصريين.

إن مخالفة ابن الطراوة لغيره لا تعني بالضرورة أنه على صواب دائما، فجلَّ من لا يخطئ، ولكل جواد كبوة ، ولكل عالم هفوة، فسيبويه، وهو إمام النحاة، قد زل وأخطأ، ورد عليه البصريون فضلا عن الكوفيين.

إن ابن الطراوة كان واثقا من نفسه، وكان يلمس منها المكنة والقدرة على المناقشة والنظر، وكان يأبى على نفسه التقليد، وكان يحرص على حرية التفكير، ومن نصوصه المأثورة في ذلك قوله: "ولا تثريب علينا فيما نلم به من الخلاف على سيبويه – رحمه الله- في اليسير من نظره، لا في شيء من نقله؛ لأن تقليد الصادق في نقله واجب، والاعتراض عليه في نظره جائز، فمن تمت له التفرقة بين الحالتين عوفي من إنزال الظنة بنا، وأراح الحفيظين مما نخوض فيه من أمرنا"[1]

وإنما تعكس هذه المخالفة ما يأتي:

- غنى الساحة الفكرية عموما، والنحوية خصوصا بالعلماء الأفذاذ الذين أفنوا أعمارهم في إغناء النحو العربي، وضبط قواعده، وتخريج مسائله.

- الحرية الفكرية التي كانت تتمتع بها هذه الساحة، بحيث يتسنى لكل عالم ضليع في اختصاصه أن يدلي بدلوه، ويلقي برأيه، المهم أن يكون مدعما بالحجج الكافية، والبراهين الوافية. فالساحة الفكرية لم تكن حكرا على أحد، فالكبار لم يولدوا كبارا، وإنما ولدوا صغارا، وكبروا بآرائهم النيرة التي خرجوا بها، وتفردوا بها ففاقوا غيرهم. ولذلك لا ضير أن تجد بعض رواد هذه الساحة ليسوا عربا، ولكنهم أحبوا هذه العربية، فأحبتهم وأعطتهم القيمة الفكرية، والمكانة الأدبية الخالدة.

- إن الاحترام المتبادل بين العلماء الأصدقاء، وبين الطلبة وشيوخهم لم يمنعهم من الخلاف العلمي السامي، ومن أن يعارض بعضهم بعضا، فكم من عالم خرج على عالم آخر صديقه، ورفيق دربه، وكم من تلميذ خرج على شيخه. وما كان الشيوخ لينزعجوا ، بل كان ذلك يزيدهم حبورا، لأن الفائدة في النهاية ستعود إلى ساحة العلم، وباحة الفكر، وسيجني ثمرتها طلبته.

- حرص بعض الخلفاء والحكام خلال تلك الحقب المتعاقبة على تفريغ العلماء لما خلقوا له ، وجبلوا عليه، وكفاية حاجاتهم، وإجزال العطاء لهم، ورفع مقامهم بين الناس، وبذل الأموال الطائلة في تدوين كتبهم. كل ذلك ساهم في تنشيط الحركة العلمية والفكرية، ودفــع

بالعلماء إلى بذل المزيد، والخروج بتلك الكتب الرائعة، والدرر النادرة التي ننعم بها اليوم، ونتفيأ ظلالها، ونتباهى بها أمام الحضارات الأخرى.

فالعلماء كانت ساحة جهادهم العلم، وكان فتحهم الكبير هو الوصول إلى آفاق جديدة في العلوم التي برعوا فيها. ولذلك حين تقرأ عن نشأة هذا العلم أو ذاك يتبادر إلى ذهنك أنك في مدينة أفلاطون، وأن الدنيا كانت آمنة، خالية من الحروب والفتن والنزاعات، في حين أن كثيرا من الآراء العبقرية، تفتقت بها الأذهان، وجادت بها القرائح، ولهجت بها الألسن، وانكفأت لها الدواة، وسال لها الحبر، وجرى بها القلم، ودارت بين الناس، وانتشرت في الأصقاع في فترات عصيبة، ومراحل عاصفة.

***

ترجمة ابن الطراوة[2]:

هو أبو الحسين، سليمان بن محمد بن عبد الله السبئي النحوي، من أهل مالقة بالأندلس، ولد عام 438 هـ، وهو إمام عالم، وأديب ماهر، أخذ عن الأعلم كتاب سيبويه، وابن سراج، وأبي الوليد الباجي، وروى عنه القاضي عياض، وكان من أبرز تلاميذه أبو القاسم السهيلي، له مصنفات في النحو، منها:

1 ـ الإفصاح ببعض ما جاء من الخطأ في كتاب الإيضاح[3].

2 ـ المقدمات إلى كتاب سيبويه[4].

3 ـ شرح المشكلات على توالي الأبواب.

4 ـ ترشيح المقتدي[5].

5 ـ مقالة في الاسم والمسمى[6].

إن هذه الكتب كلها اندثرت، ولم يبق منها سوى الإفصاح. وقد قام الدكتور محمد إبراهيم البنا بتحقيقه. توفي بمالقة سنة: 528 هـ عن نيف وتسعين سنة.

المسائل التي خالف فيها ابن الطراوة سيبويه والجمهور

لا شـك أن المسـائـل التـي خـالـف فيهــا ابــن الطــراوة البصرييــن[7]

وسيبويه[8] كثيرة جدا، وهي مبثوثة في كتب شتى، منها ما وصلنا، ومنها مل لم يصلنا، ولو وصلتنا لوجدنا فيها خيرا كثيرا، وعلما غزيرا، ولعل الأيام القادمة تظهر لنا بعضها، فالجهود متواصلة هنا وهناك في مراكز البحث المختلفة، وفي الجامعات للتنقيب عن المخطوطات وتحقيقها ، وإخراجها إلى الوجود، لتحيى، ويحيى أصحابها، ويحيى بها الناس.

وكتاب صاحبنا ويسمى "المقدمات إلى علم الكتاب" واحد من هذه المؤلفات التي لم ننعم برؤيتها، ولا ندري إن كان من الأحياء أم من الأموات، وفي أية زاوية هو مركون، أم في أي دهليز هو مخبوء، وما المقدار الذي نالت منه الأرضة، أم هو في حمى من الله سبحانه منها، ونأمل من الله سبحانه أن يجود الزمان بهذا الكتاب.

وما سأعرضه هو مسائل عثرت عليها مبعثرة هنا وهناك، في كتب مختلفة، أشرت إليها في ثنايا البحث، وهذه المسائل هي:

***

1- النسب إلى فعولة:

مذهب سيبويه[9] في النسب إلى فعولة حذف الواو والتاء، وفتح العين سواء كانت اللام صحيحة كحمولة حَمَلي، وركوبة رَكَبي، أو معتلة كعدوَّة عَدَوي.

أما ابن الطراوة[10] فمذهبه حذف الواو، وترك ما قبلها على الضم ، فحمولة حَمُلي، وركوبة رَكُبي.

***

2- الدلالة الزمانية للمضارع:

رأي الجمهور وسيبويه[11] أن الفعل المضارع صالح للحال والاستقبال؛ لأن إطلاقه على كل منهما لا يحتاج إلى مسوغ، فهو مشترك كـ"عين".

أما ابن الطراوة[12] فيرى أن الفعل المضارع صالح للحال فقط، ذلك أن المستقبل غير محقق الوجود، فإذا قلت: زيد يقوم غدا، فهذا يعني أنه أن يقوم غدا، ففي شرح التسهيل للمرادي[13]: "وذهب ابن الطراوة إلى أنه أي: الفعل المضارع لا يكون إلا للحال، وإذا قلت: "زيد يقوم غدا" فمعناه: ينوي أن يقوم غدا"، وفي الإفصاح[14] : "قعد: دليل على قعود انقضى بعد وجود، وسيقعد: دليل على قعود يأتي، وهو الآن في العدم، ويقعد": دليل على قعود في حال حديثك"، وفي نتائج الفكر[15] : "فعل الحال لا يكون مستقبلا، وإن حسن فيه "غد"، كما لا يكون الفعل المستقبل حالا أبدا، ولا الحال ماضيا. هذا هو اختيار شيخنا[16] رحمه الله تعالى".

***

3- النكرة والمعرفة أيهما الأصل، وأيهما الفرع ؟

مذهب سيبويه[17] والجمهور أن النكرة أصل ، والمعرفة فرع.  وأما ابن الطراوة[18] والكوفيون فقالوا: من الأسماء ما لزم التعريف كالمضمرات، ومنها ما فيه التعريف قبل التنكير كـ:مررت بزيدٍ وزيدٍ آخر.

***

4 ـ مسألة في تقديم الخبر:

ذهب الجمهور إلى جواز[19] تقديم الخبر في مثل: قائم زيد، وحجتهم السماع كقولهم[20]: "تميمي أنا". وذهب ابن الطراوة[21] إلى جواز : زيد أخوك؛ لأنه مركب من واجب واحد، ومنع[22] الكوفيون وابن الطراوة[23] ، والكسائي[24]، والفراء نحو: قائم زيد؛ لأنه مركب من واجبين، ولأنه يؤدي إلى تقديم الاسم على ظاهره، ألا ترى أنك إذا قلت: "قائم زيد"، كان في "قائم" ضمير "زيد" بدليل أنه يظهر في التثنية والجمع، فتقول: "قائمان الزيدان"، و"قائمون الزيدون"، ولو كان خاليا من الضمير لكان واحدا في كل الأحوال. لقد تقدم الاسم على ظاهره، والأصل أن يكون ضمير الاسم بعد ظاهره.

***

5- رفع الاسمين بعد "كان":

أجاز الجمهور[25] رفع الاسمين بعد "كان"، على أن اسم "كان"[26] هو ضمير الشأن المستكن فيها، واستدلوا على ذلك بقول العجير السلولي:

إذا مت كان الناسُ صنفان: شامتٌ        وآخرُ مُثْنٍ بالذي كنتُ أصنعُ[27]

و

هي الشفاءُ لدائي لو ظفرتُ بها        ليس منها شفاءُ الداء مبذولُ[28]

اسم "كان" في الشاهد الأول هو ضمير الشأن المحذوف. و"الناس صنفان" مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب خبر "كان".

وأنكر الفراء[29] سماعه، ومنع وقوعه في باب "كان". أما ابن الطراوة[30] فقد تبع الكسائي[31] في القول بأن "كان" ملغاة ، ولا عمل لها في مثل هذا التركيب.

***

يتبع

              

 الهوامش :

[1]  انظر أبو الحسين بن الطراوة وأثره في النحو. دراسة محمد إبراهيم البنا. دار الاعتصام. القاهرة. ط1. 1400 هـ 1980م. نقلا عن الإفصاح، ورقة2-3 .

[2]  انظر ترجمته في: البلغة في تاريخ أئمة اللغة للفيروزابادي ، تحقيق محمد المصري: 91، دمشق. 1392 هـ ـ 1972م. وبغية الوعاة: 1/62، ومعجم المؤلفين: 4/274، والأعلام: 3/196.

[3]  انظر مكتبة الأسكوريال، مخطوط رقم 1830.

[4]  انظر كشف الظنون لحاجي خليفة: 1/399. طبعة إسطانبول.

[5]  انظر كشف الظنون: 507 ، والفهرست لابن خير: 319، منشورات المكتب التجاري ببيروت.

[6]  انظر بغية الوعاة للسيوطي: 1/602. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. طبعة عيسى البابي الحلبي. 

[7]  " وعلى الإيضاح اعتراضات لابن الطراوة النحوي، والرد عليه لابن الضائع علي بن محمد الكتامي" . انظر كشف الظنون: 213.

[8]  "قال ابن الضائع : أملى علي إيضاح الفارسي، ورد اعتراضات ابن الطراوة  على الفارسي واعتراضاته على سيبويه". انظر بغية الوعاة: 2/204.

[9]  انظر الكتاب:3/339. وانظر المسائل العضديات: 3، والمخصص: 13/241، والارتشاف: 2/614، والهمع: 3/361. وتبع ابن مالك سيبويه في الصحيح العين فقط كما في أوضح المسالك: 4/334، وشرح الأشموني: 4/323.

[10]  انظر الارتشاف: 2/614، والهمع: 3/361.

[11]  انظر الكتاب: 1/16. وانظر رأي سيبويه أيضا في : والهمع: 1/31. ورجحه ابن مالك كما في المساعد: 2/12، والارتشاف: 4/2029.

[12]  انظر رأي ابن الطراوة في الارتشاف: 2/614، والهمع: 3/361.

[13]  انظر شرح التسهيل للمرادي:1ورقة 5.

[14]  انظر الإفصاح لابن الطراوة: ورقة 4.

[15]  انظر نتائج الفكر للسهيلي: 120.

[16]  هو ابن الطراوة.

[17]  انظر الكتاب: 3/241،  والارتشاف: 2/907، والهمع: 1/186.

[18]  انظر الارتشاف: 2/907، والهمع: 1/186.

[19]  انظر هذه المسألة في شرح المفصل: 1/92، والهمع: 1/103، والارتشاف: 1/1109.

[20]  انظر الهمع: 1/103.

[21]  انظر رأي ابن الطراوة في: الارتشاف: 2/1109، والهمع: 1/103.

[22]  قال السيوطي: "وذهب سيبويه إلى جواز: زيد أخوك، دون: قائم، بناء على مذهب له غريب خارج عن قانون العربية". انظر الهمع: 1/103.

[23]  انظر رأي ابن الطراوة في: الارتشاف: 3/1109،  والهمع: 1/103.

[24]  انظر رأي الكسائي في:  الهمع: 1/103، والارتشاف: 3/1108.

[25]  انظر رأي الجمهور في: والهمع: 1/353. ورجحه ابن مالك كما في شرح الأشموني: 1/333.

[26]  "ويستكن في بابي كان وكاد" قاله ابن عقيل في شرحه للتسهيل كما في المساعد: 1/117، وقاله السيوطي في الهمع: 1/226، وأيضا أبو حيان في الارتشاف: 2/951.

[27]  البيت من الطويل، وهو في الأزهية للهروي: 190، وتخليص الشواهد: 246، وخزانة الأدب: 9/72، 73،  والدرر: 1/223، 2/41، وشرح أبيات سيبويه: 1/144، والكتاب: 1/71، والمقاصد النحوية: 2/85، ونوادر أبي زيد: 156، وبلا نسبة في أسرار العربية: 136، واللمع  في العربية، 122، والهمع: 1/353، وشرح الأشموني: 1/333. ويروى: كان الناس صنفين" فعلى هذه الرواية لا شاهد في البيت، فالناس: اسم كان، وصنفين: خبرها.

[28]  البيت من البسيط، وهو لهشام بن عقبة في الأزهية: 191، والأشباه والنظائر: 5/85، 6/78، وتذكرة النحاة: 141، 166، والدرر: 2/42، ولذي الرمة في شرح أبيات سيبويه: 1/421، ولهشام أخي ذي الرمة في شرح شواهد المغني: 2/704، والكتاب: 1/71، 147، وبلا نسبة في: أمالي ابن الحاجب: 2/868، ورصف المباني: 302، وشرح المفصل: 3/116، والمغني: 2/295، والمقتضب: 4/101، والهمع: 1/354.

[29]  انظر رأي الفراء في: الهمع: 1/226، والارتشاف: 2/951.

[30]  انظر رأي ابن الطراوة في: 2/937، 951، و3/1195، والهمع: 1/353.

[31]  انظر رأي الكسائي في: الهمع: 1/353، والارتشاف:3/1195.