رثاء الزوجات 1
رثاء الزوجات
(في ديوان الشعر العربي)
(1)
أ.د/
جابر قميحةمن الحقائق التى حملها إلينا التاريخ، وسرت مسرى الأمثال: قولهم العرب أمة شاعرة. وكذلك قولهم "الشعر ديوان العرب". ولا مبالغة فى ذلك: فالشعر هو الذى حفظ تاريخهم ، وأيامهم، ومسيرة حياتهم.
عزيزي القارئ: ليس هناك نعمة أوفى وأعظم من بيت ترفرف فيه روح المحبة والود والرحمة والتعاون والسلام. والزوجة الصالحة هي سر عمار مثل هذا البيت، ودرته الوضيئة التى لا تبلى ، ولا يخمد لها سنا وبريق، وقد حفل ديوان الشعر العربي بالتغزل فى الزوجات وتمجيدهن والثناء عليهن في حياتهن. حتى إذا ما حل الفراق الأبدي فاضت عيون الشعراء بدموع الأسى والحزن العميق على زوجاتهن المفارقات . فلنعش هذه الحلقة من ديوان العرب مع رثاء الشعراء للزوجات.
**********
ها هو ذا الشاعر مسلم بن الوليد يستبد به الحزن الشديد لموت زوجته ، ويعزف عن كثير من متع الحياة ولذائذها، فأقسم عليه بعض إخوانه أن يشرب الخمر حتى ينسى مأساته، فرفض وأصر على الرفض، وقال:
بـكـاء وكـأس كـيـف يتفقان دعـانـي وإفـراطَ البكاء فإنني غدت والثرى أولى بها من وليها فلا حزن حتى تذرف العين ماءها | سـبـيـلاهما فى القلب أرى الـيـوم فيه غير ما تريان إلـى مـنـزل نـاء لعينك دان وتـحـتـرق الأحـشاء للخفقان | مختلفان
***********
ويرى ابن الرومى بعد وفاة زوجته أن البكاء ينفس عن الحزن، ويخفف من لوعته، وهو يدعو عينيه أن تبخلا بالدمع حتى يعيش حزنه العميق الدائم لوفاة زوجته . يقول ابن الرومي:
عـينى شِحا ولا تـركـكما الداء مستكنا إن الأسـى والبكاءَ قِدْما ومـا ابتغاء الدواء إلا | تسُحاجل مصابي عن أصدق عن صحة الوفاء أمـران كالداء والدواء بُـغْيا سبيل الى البقاء | البكاء
**********
وتموت زوجة الوزير محمد بن عبد الملك الزيات مخلفة له طفلا فى الثامنة من عمره، ويهز الشاعر بحزنه أوتار قلوبنا من خلال مأساة هذا الطفل الصغير ، يقول الشاعر:
ألا مـن رأى الـطفل المفارق رأى كـل أم وابـنـها .. غير أمه وبـات وحـيـدا في الفراش تَجُنُّه فـلا تـلحياني إن بكيت ، فإنما .. وهـبني عزمت الصبر عنها لأنني ضعيف القوى لا يعرف الأجرَ حِسبة | أمَّهُبُـعَـيـد الـكـرى عـيناه يـبـيـتـان تـحت الليل ينتحبان بـلابـل قـلـب دائـم الـخـفقان أداري بـهـذا الـدمـع مـا تريان جـلـيـد، فـمن بالصبر لابن ثمان ولا يـأتـسـي بـالناس في الحَدَثان | تبتدران
***********
عزيزي القارئ : هل سمعت بمأساة الشاعر العباسي: عبد السلام بن رغبان المشهور فى تاريخ الأدب ب (ديك الجن)؟ لقد تزوج جارية له تسمى (ورد) ، وكان مدنفا بحبها لجمالها الخارق. فتركها وسافر عنها مدة من الزمن، فوشى بها أحد أقربائه، وأبلغ ديك الجن أنها خانته فى غيبته ، فقتلها ، وبعدها ظهرت براءتها، فعاش يبكيها أحر البكاء وأمرَّه، ومما قاله فيها:
رويت من دمها الثرى، ولطالما روَّى الهوى شفتيَّ من شفتيها
قد بات سيفى فى مجال وشاحها ومدامعي تجرى على خديها
ويخاطب زوجته الثاوية تحت أطباق الثرى قائلا:
أسـاكـنَ حفرةٍ وقرارَ أجبني إن قدرتَ على جوابي وايـن حللت بعد حلول قلبي | لحدمـفـارق خُلََّة من بعد بحق الود كيف ظللتَ بعدي؟ وأحشائى وأضلاعي وكِبْدي | عهد
ومن معانيه الطريفة فى هذا الرثاء قوله:
ويعذلني السفيه على بكائي يـقول قتلتها سفها وجهلا كصياد الطيور له انتحابٌ | كأني مبتلى بالحزن وتـبكيها بكاء ليس يجدي عـليها، وهْو يذبحها بحد | وحدي
***********
فلنترك ديك الجن ومأساته الباكية التى صنعها بطيشه وتسرعه وسوء ظنه، ولنصل فى ديوان العرب الى القرن السابع الهجري لنطالع أهم القصائد وأصدقها فى رثاء الزوجة وهى قصيدة الشاعر النجرانى القاسم بن على بن هتيمل الضمدي .
ويسجل الشاعر في قصيدته يوم وفاة زوجته وحملها الى مثواها الأخير، ويتمنى لو كفنت بجلده، ودفنت فى ضلوعه يقول الشاعر المفجوع:
بنفسي عصر يوم السبت نعش تُـسل إلى الحفيرة منه شمس تـكـفن بالثياب فليت جلدي | تـهـاداه الـمـناكب تـبـلـج مـن جوانبها شهاب لـها كفن، وليت دمي خضاب | والرقاب
ويعز على الشاعر أن يوسد هذا الجمال التراب، وأن يهال على وجه زوجته الحبيبة وخدها الأسيل وعينيها الساجيتين، وهي التي عاشت رقيقة غضة تتدفق بالصبا الغض والشباب الطري، ومن هذه المفارقة الفادحة بين غضاضة هذا الجمال ورقته وبين بشاعة القبر وقسوة التراب يهز الشاعر فينا مشاعر الحزن والأسى، يقول الضمدى:
أوسـدك التراب وكنتُ وأسـمـح للبلى بجمال وجه فـمـا فعل الثرى ويد الليالي وما فعل الصبا الغض الموافي وما فعلت محاجرك السواجي | أحْفَىبـخـدك أن يباشره يـؤثـر فـى محاسنه النقابُ بـجـسـم كان تؤلمه الثيابُ بـزهرته ، وما فعل الشبابُ ومـا فـعلت ثناياك العذابُ؟ | الترابُ
**********
ولجرير الشاعر الأموي قصيدة فى رثاء زوجته أم حرزة يحيي فيها جمالها وخلقها الرفيع، ويدعو لها بالرحمة ، ومن أبيات هذه القصيدة قوله:
ولـهْتِ قلبي إذ علتني ولقد أراك كسيتِ أجمل منظر صلى الملائكة الذين تخيروا | كَبرَةوذوو التمائم من بنيك صغارُ ومـع الـجمال سكينة ووقارُ والـصالحون عليك والأبرارُ |
وفى هذه القصيدة يظهر ملمحان موضوعيان: الأول شعور الشاعر بالحرج لرثائه أنثى معللاً ذلك بالحياء ، فيقول فى البيت السابق مباشرة.
لولا الحياء لهاجني استعبار ولزرت قبرك، والحبيب يزار
أما الملمح الموضوعي الثانى فهو أنه اتخذ من هذه القصيدة فى رثاء زوجته منطلقا لهجاء الفرزدق الذى يقال أنه عاب أم حرزة وأظهر الشماته فى جرير لموتها. يقول جرير:
أفأم حرزة يا فرزدق عبتمُو غَضَبَ المليكُ عليكم القهارُ
**********
عزيزي القارئ إن كل ما عرضناه من أشعار فى رثاء الزوجات كان من دائرة الشعر القديم، ومن حقك أن تسأل: وهل فى العصر الحديث شىء من هذا اللون؟ فنجيب : نعم هناك الكثير والكثير ، كمانرى في الصفحات الآتية :
(2)
إن الشاعر محمد بن عبد الله بن بُليهد ابن قرية غِسلة بغرب الرياض تموت أحب زوجاته إليه فى فبراير سنة 1933 فيحزن عليها حزنا شديدا ، ويبكي عليها بكاء مرا، ويرثيها بقصيدة منها الأبيات التالية:
أبنت الأكرمين أبوك هود فما منهم على البيداء باق ولكن ليس ينسينيك شىء | وجـدك خالد وأبوه ولا فى بطنها منهم عظام ولو نسيتْ مصائبَها الأنامُ | سامُ
ويدعو لها الشاعر فى عالمها الآخر، وتغلب عليه روح الحكمة وهو يصور أحزانه وزهده فى شارع الحياة فيقول:
رعـاك الله بعدي من ولـكـن الـمنونَ لها سهام بـأمـر الله ما هبت رياح وفـى حل مدى الأيام مني بنفس ما يطيب لها شرابٌ فـما لى بعد رحلتكم مرادٌ | فقيدعـزيـز لا يباع ولا أصـابتها مع الغدر السهام وما غنت على الفَنَن الحمام فـمـا للجرح بعدكمُ التئام على شحْط المزار ولا طعام بـتلك الدار يذكر أو مرام | يسامُ
***********
وفى عام واحد وتسعين وتسعمائة وألف (1991) تموت زوجة الشاعر أحمد محمد الشامي ، ولكنه على شاعريته القادرة يعجز عن رثائها لأن الحزن أخرس قلمه ، وترك البيان للدموع والآهات الحرى، وبعد عامين يفيض وجدانه بقصيدة ملتاعة يقول فيها:
أنا الذى ظَلْتُ أبكي الصحب منتحبا بَـعْد الحبيبة مات القول وانتحرت خـرسـتُ عامين لا أسْطيع أندبها واليوم ها أنا من قبر الوجوم ، وفي أهـب أبـكي بشعري من لها زمنا | بالشعر لم تنحبس فى موقف أوزان شـعرى كأني صرتُ ذا بَكم إلا بـدمـع عـلى الخدين منسجم ذكـرى الحبيبة رغم السُقْم والهرم أخلصتُ حبي وكانت فيه مُعتَصمي | كلمي
ويعدد الشاعر أحمد محمد الشامى فى مرثيته لزوجته بعض فرائدها ومآثرها وما قدمته فى حياتها لإسعاده والتخفيف عنه، وفى ذلك يقول:
كانت نديمي ورَوْحي ، والمعينَ على ظـلـت رفـيقي فى حل ومرتحل والـيـوم عامان قد مرا وما برحتْ إذ هـجـعـت أتـتنى فى غلائلها وإن جـفاني الكرى باتت تسامرني وكـنـت كـالطفل ترعاني أمومتُها | نـوائبِ الدهر، والمصباحَ فى تـرعـى حـقوقىٍ بلا منٍّ ولا سَأم نـجوَى خيالي وتفكيري ولحن فمي تـخـتـال كالريم بين البان والعلم بـالـذكـريات ، وأن هومتُ لم تَنَم لـلـحق والعدل والإحسان والرحم | الظَّلَمِ
ثم يختم الشاعر قصيدته بقوله:
كانت وكنت رفِيقَيْ رحلة كـنا وكنا، وماذا بعد؟ ها أنذا.. بلا نديم ، ولا رجْوَى ولا وطن | حفلتبالطيب الفذ من عيش ومن قيم كأنني صارم فى كف ... منهزم إلا الثمالةَ من حبي ومن ندمي |
***********
عزيزي القارئ: هل سمعت ب " أنات حائرة " ؟ إنه الديوان الذى نظمه عزيز أباظة وصدر سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة وألف (1943) ، وكل قصائده في رثاء زوجته التى توفاها الله قبل ذلك بعام ، والديوان يكاد يكون ترجمة نفسية للزوجة الحبيبة ، وهو تصوير أمين صادق لأثر هذا الغياب الأبدي فى نفس الشاعر ونفوس الأهل والأحباب .
ومن أروع المشاهد التى صورها الشاعر وأشدها تأثيرا في النفس مشهد احتضار الزوجة وكلماتها الأخيرة قبل أن تلقى ربها بساعة أو بعض ساعة ... يقول عزيز أباظة:
دفـعـتْ صـدرها إلي ثـم قـالـت فى أنَّة .. تتهاوى لا تـرَعْ واحـمل الفجيعة جَلْداً وأشـارت لـطـفلة تشهد الهوْ قالت : " أرع الأولاد، وابق كما ومـضـت تنزع الحياةَ وتُلقي فـي سـنـا لامح وعَرف زكيٍّ لـو تراها تقول قد مسها البهـ ووقـفـنا مروعين نجيل الطر ثـم عدنا للحق عانين صرعَى | وألقترأسـهـا عند راعد ذى " أزفـتْ ساعة الفراق السحيق لـستَ للضعف عندها بخليق " ل بـقـلـب دام وجفن غريق كنت مثال الأب المحب الرفيق " فـي زفـيـر آصارَها وشَهيق وابـتـسـام عذب ووجه طليق ر، فـمـالـت إلى سبات رقيق ف، بـيـن التكذيب والتصديق مـن مـفيق يَهْذي وغير مفيق | خُفوقِ
ويصور الشاعر فى قصيدة أخرى حبها للخير والإحسان وصلاحها وتقواها ، وفيها يقول:
وأقـسـم كـانـت لليتامى تـضـم جـنـاحيها عليهم حفية وكـانـت تـقـوم الليل إلا اقله مـدامـعها من روعة الذكر ذُرَّفٌ تَـهَـجَّـدَ أواب ، وتسبيحَ قانت | دريئةتذود الأسى عنهم، وتأسو وتنصف وتـحـنو حنو الوالدات وتعطف وسـمارها فيه مصلى ومصحف وأوصـالـها من خشية الله رُجَّف فـلـلـه ذاك الـقانت المتخوف |
***********
أما الديوان الثانى الذى اختص برثاء الزوجة فهو ديوان " من وحي المرأة " للشاعر عبد الرحمن صدقى الذى كانت وفاة زوجته الشابة المثقفة صدمة عاتية له، وفيه يصور بعد فراقها عذابه ووحدته فى بيته، ويجتر ذكرياته الطيبة معها. وفى إحدى القصائد يتحدث الشاعر عن المشكلات التى خلفها فقد زوجته ، وهى كما سنرى – غير ما عهده الناس وتعارفوا عليه، يقول الشاعر عبد الرحمن صدقى :
مـماتك فى الريعان أصمى وكنت الغنى من مشكل بعد مشكل مـشاكل شتى حاجة النفس للهوى جـمعت لي الدنيا، فأغنيتِ مُعْدَمي | مقاتليوفـقدِيكِ من عيشي مثير وعـقـدات نـفس تستديم قلاقلي وحـاجـة ذي حس وحاجة عاقل وأمتعتِ محرومي ، وزينت عاطلي | مشاكلي
ويستلم الشاعر لليأس ، ويفقد الشعور بمتع الحياة، ويرى أن الحياة بكل ما جمعت من غنى ومال وأمجاد لم يعد لها فى نظره قيمة، بعد أن فقد الحافز الكبير الجليل وهو زوجته، وفى هذا المعنى يقول:
طُـبِعُت على زهد، ومن أجل فـمـن أجـل زوجي كان هذا التلبب وقـد مُـتِّ يـا زوجي فماتت دوافعي فمن أجل من أسمو على المجد والعلا ؟ فما المجد ؟ لا صوتُ الجماهير مطربٌ لـقـد ان مـجدي فى عيونك وحدها | زوجتىطـلـبـتُ الغنى والمجدَ فيمن ومـن أجلها فى زحمة العيش أضرب وغـاضـت يـنابيعي ، وحق التسلبُ ومـن أجـل من يحلو الغنى والتكسب ولا الـخُـلد فى بطن التواريخ يجذب كـفـانِـيَ إعـجـاب بها .. وتعجب | تطلبوا
**********
وأخيراً نقول للزوجات والأزواج : متعكم الله جميعا بالصحة والعافية والسعادة وطول العمر. وإلى اللقاء فى حلقة جديدة من ديوان العرب .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته