الرِّثَاء

(في ديوان الشعر العربي)

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

من الحقائق التي حملها إلينا التاريخ، وسرتْ مسرى الأمثال قولهم "العرب أمة شاعرة" وكذلك قولهم: "الشعر ديوان العرب". ولا مبالغة في ذلك: فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم، ومسيرة حياتهم.

 والشعر العربي  كما هو معروف  فيه المدح، والرثاء، والغزل، والهجاء، والفخر، والوصف. وقد عرَّف بعضهم الرثاء بأنه الشعر الذي يصف محاسن الميت "أي أنه" مدح الأموات" في مقابل غرض آخر، وهو المدح الذي خصص لذكر محاسن الأحياء.

 والتعريف السابق يبرز أهم صفة من صفات الرثاء  ونقصد الرثاء الصادق طبعًا  وهي حرارةُ العاطفة، وتوهجُ الوجدان. فالرثاء الصادق الذي لم تشبه المجاملةُ والإسرافُ أدلُّ على الصدقِ الفني، وعمق الإحساس من الأغراض الأخرى، وخصوصًا المدح الذي غالبًا ما كان بقصدِ الكسب، وتحقيق المصلحة الشخصية.

**********

إن شعر الرثاء  في ديوان الشعر العربي أكثر من أن يُحصى، ونقدم منه بعض القطوف،فيما يأتي :

كان متممُ بن نويرة يحب أخاه مالكًا حبًا قويًّا صادقًا، فلما قتل أخوه مالك ظل حزينًا عليه إلى أن مات. وبلغ من حزنه أنه كان إذا رأى قبرًا. أي قبر بكى بكاءً مرًّا، فلما لامه بعضهم على هذا الإسراف قال على البديهة:

لقد لامني عند القبور على البكا
وقـالَـ:  أتبكي كل قبر iiرأيتهُ
فقلتُ له إن الشجا يبعث iiالشجا


رفيقي  لتذراف الدموعِ iiالسوافكِ
لـقبر  ثوى بينَ اللِّوى فالدَّكادِكِ
فـذرنـي  فـهَذا كلُّه قبرُ iiمالك

**********

 وفي شعر الرثاء، يحرص الشعراء على إبراز البطولة القتالية للمرثي في ميدان الوغي كما نرى في رثاء الفرزدق لوكيع بن حسان اليربوعي :

لـقـد رزئتْ حزمًا وَبأسا ونائلاً
وما  كان وقَّافا إذا الخيلُ أمطرَتْ
إذا التفَّت الأبطالُ أبصرتَ وجههُ
فصبرًا  تميمُ إنما الموت.. iiمنهلٌ




تـمـيـمُ بنُ مرٍّ يومَ ماتَ iiوكيعُ
سـحـائـبَ موتٍ وبْلُهُنَّ iiنجيعُ
مُـضيئًا، وأعناق الكُماةِ iiخضوعُ
يـصـيـرُ إليه صابرٌ وجزوعُ

**********

وقد يأتي الرثاء مشفوعًا ببعض الهجاءِ أو التعريض  لا بأعداء المرثي  ولكن بقومه الذين فروا أو تخلوا عنه عند استعار المعركة واشتدادها وتلهبها، كما نرى في رثاء الطرماح ليزيد بن المهلب، وفيه يقول:

لـحا  اللهُ قومًا أسلمُوا يومَ iiبابلٍ
فتى كان عند الموتِ أصبر منهمُ
وأغْيَرَ عند المحصناتِ إذا iiبَدَتْ
فـلا  حـمـلت أسدية بعد iiفقده




أبا  خالدٍ تحت السيوفِ iiالبوارقِ
حفاظًا،  وأعْطَى للجيادِ iiالسوابقِ
بُـرَاهُنَّ واستعْجَلْنَ شدَّ iiالمناطقِ
جـنينا، ولا أمَّلْنَ شَيْبَ iiالغُرَانِق

**********

وكان الكرم من أنبل الصفات التي احتفى بها، وأبرزها شعر الرثاء كما نرى في قول الشاعر:

مَضَى ابنُ سعيدٍ بعدما شاعَ ذكره                  وشرَّق في أقصى البلادِ وغَرَّبا

وما كان إلا  كالسحابة  أقشقتْ                  وقد تركت للناسِ مَرْعى ومشْربا

**********

ومن الطريف في شعر الرثاء أن يصورَ الشاعر الراثي موقفه من المرثي وعلاقته به، وكيف استجاب له يوم اشتداد المعركة، وتمنيه لو يديه بأهله ونفسه، وما ملكت يداه. وهذا بعض ما قاله عبيد الله بن الحر الجعفي في رثاء عمرو بن جندب:

إن تـكُ خـيلي يومَ تكرَيت iiأحجمت
دعاني الفتى الأسدي عمرو بن جندب
وأقـسـم  لـو فُـوديـتـه iiلافْتديته
يـعز  على ابن الحر أن راح iiراجعًا
لـعـمـري  لقد طاعنتُ دونك بالقنا





وقـتَّـل  فـرسـاني فما كنتُ iiوانيا
فـقـلـتُ  لـهـ: لـبيك لما دعانِيَا
بـأهـلـي  وما جمعت كهلا iiوناشِيا
وخـلـفـت في القتلى بتكريتَ ثاويا
وجـالـدتـهـم  لو أن للحتف iiواقيا

**********

و من أقسى الأوقات وأشدها على نفوس أهل الميت وأحبابه ساعة عودتهم بعيد دفنه، وقد صور أبو تمامٍ هذه الساعة فقال:

عادتْ وفودُ الناسِ من قبرهِ                  فارغة الأيدي وملأى القلوبْ

قد راعها ما رزئت، إنما                  يعرف فقد الشمس عند المغيب

**********

ومن لطائف طرفة بن العبد أنه  في معلقته يطلب من صاحبته أن تظهر حزنها الشديد عليه فتشق جيبها  كفعل الجاهلية  وتنعيه أي ترثيه بما هو أهل له، فيقول:

فإن مت فانعيني بما أن أهله                  وشقي عليَّ الجيب يا ابنة معبدِ

ولا تجعلنِّي كامرئ ليس همه                  كهمي، ولا يغني غنائي ومشهدي

**********

وإذا ذكر الرثاء ذكرت الخنساء التي رثت أخاها صخرًا بأحر الكلمات وأشحنها بالحزن، ومن منا لا يذكر قولها:

وإن صخرًا لمولانا وسيدنا                  وإن صخرًا إذا نشتو لنحارُ

وإن صخرًا لتأتم الهداة به                      كأنه  علم في  رأسه نارُ

لقد رثت الخنساء أخاها صخرًا في الجاهلية بأحر الرثاء، ثم أسلمت، واستشهد أبناؤها الأربعة في القادسية، ونقل عنها أنها قالت: "الحمد لله الذي شرفني أو أكرمني باستشهادهم جميعًا" . ولم نقرأ لها رثاء في أبنائها يقترب في مستواه الفني من رثائها أخاها صخرًا، ويرجع ذلك إلى أن الإسلام علمها كيف تصبر، وتستسلم لقضاء الله، وتتجنب الهلع والجزع، فجف في نفسها معين الحزن الحاد الذي ينهل منه شعر الرثاء.

**********

 ولم يخلُ تاريخنا الأدبي من شواعرَ مطبوعات مثل منية بنت ضرار الضبية، التي رثت أخاها قبيصة بن ضرار بالأبيات التالية:

مـا  بـات من ليلةٍ مذ شج iiمئزره
الطاعنُ الطعنة النجلاءَ عن عرض
لا  يـعرفُ الكلماتِ العور iiمجلسه
الـرد  مـمـتـنع، والإذن iiمتسع




قـبـيصة  بن ضرار وهو موتور
كـأنـهـا  قبس في الليل iiمسعور
ولا يـذوق طـعـامًا وهو iiمستور
والـمـال منتقص، والحمدُ iiموفور

**********

ومن الشواعر الراثيات كذلك ليلى بنت طريف، فبعد أن قتل يزيد بن مزيد الشيباني أخاها الوليد بن طريف رثته بالأبيات الآتية:

أيـا شـجـر الخابور مالك iiمورقا
فـتى  لا يحب الزاد إلا من iiالتقى
فـقـدنـاه فـقـدان الربيع iiوليتنا
حليف الندى، إن عاش حالفه الندى
وما  زال حتى أزهق الموت iiنفسه
فـإن يـك أردان يـزيد بن iiمزيد






كـأنك  لم تحزن على ابن iiطريف
ولا الـمـال إلا مـن قنا iiوسيوف
فـديـنـاه مـن دهـمائنا iiبألوفِ
وإن مـات لم يرضَ الندى iiبحليف
شـجـا  لـعـدو أو لجا iiلضعيف
فـرب زحـوف لـفـها iiبزحوف

**********

عزيزي القارئ: لقد قدمنا قطوفا من شعر الرثاء ، وهو ذلك الغرض الشعري الذي يتسم بحرارةُ العاطفة، وتوهجُ الوجدان. فالرثاء الصادق الذي لم تشبه المجاملةُ والإسرافُ أدلُّ على الصدقِ الفني، وعمق الإحساس من الأغراض الأخرى، وخصوصًا المدح الذي غالبًا ما يكون بقصدِ الكسب، وتحقيق المصلحة الشخصية.

 وإلى اللقاء  يا عزيزي القارئ  في حلقة قادمة من (ديوان العرب) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.