لماذا نهتم بدراسة المعنى؟
الحلقة الخامسة
أ. د: عبد السلام حامد
أستاذ مشارك بجامعتي القاهرة وقطر
تبينت لنا أهمية دراسة المعنى في ضوء خصائص اللغة بوصفها كياناً كاملاً متماسكاً يشمل البنية اللفظية والمعاني، وهذا يعني ضمناً ـ فيما يعنيه ـ أننا فسرنا هذه المسألة في ضوء جزء من خصائص المعنى، لأن المعنى جزء من اللغة. أما الآن فسنحاول أن نبين أهمية تحليل المعنى ودراسته من جهة خصائص المعنى مفرداً، أي من جهة كون المعنى عنصراً أساسياً مقابلاً للعنصر الأساسي الآخر في اللغة وهو الجانب الصوتي اللفظي.
وخصائص المعنى مقارنة بالجانب الصوتي اللفظي ـ كما أرى ـ هي:
1- الجانب الصوتي اللفظي ظاهر والمعنى غير ظاهر:
وذلك لأن الأصوات والألفاظ جانب مادي يدرك بالحس سمعاً أو قراءة، أما المعاني فهي مستورة غير ظاهرة سواء أكانت في صورتها المجردة في الذهن أم قائمة في الألفاظ والتراكيب، يقول الجاحظ على لسان بعضهم عن المعاني المجردة في الذهن: " المعاني القائمة في صدور الناس المتصورة في أذهانهم، والمتخلِّجة في نفوسهم والمتصلة بخواطرهم، والحادثة عن فِكَرهم، مستورة خفية، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومة، لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه ولا حاجة أخيه وخليطه، ولا معنى شريكه والمعاون لـه على أموره، وعلى مالا يبلغه من حاجات نفسه إلا بغيره. وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها وإخبارهم عنها واستعمالهم إياها. وهذه الخصال هي التي تقربها من الفهم وتجلّيها للعقل، وتجعل الخفي منها ظاهراً والغائب شاهداً، والبعيد قريباً "([1]).
أما معاني الألفاظ والتراكيب المستعملة فهي غير ظاهرة أيضاً؛ لأنها أمور عقلية تدرك بالذهن بدرجات تتفاوت قرباً وبعداً ويسراً وصعوبةً، ولذا ربما تخفى على الإدراك وتكون ملبسة أحياناً محتلمة لأكثر من وجه لأسباب مختلفة، ومن ثم تحتاج إلى الشرح والتفسير والإيضاح ومعاودة النظر إليها والقرائن المختلفة.
ومما يتصل بذلك في مجال النحو أن من هذه الأسباب التي قد تؤدي إلى اللبس ما يحدث عند تعدد احتمالات العلاقة النحوية، أو تعدد احتمالات الذكر والحذف، أو تعدد احتمالات تمام الجملة وافتقارها إلى ما بعدها. ومن الأمثلة على هذا في تعدد احتمالات العلاقة النحوية ما نجده في قوله تعالى: " وربُّك الغفورُ ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذابَ " [الكهف: 58]، إذ يأذن التركيب أن يكون خبر المبتدأ إما " الغفور " وإما " ذو الرحمة " وإما جملة " لو يؤاخذهم "، وتأتي القرينة السياقية من الإضراب عن تعجيل العذاب إلى ضرب موعد مقبل لهم، والدليل قوله تعالى: " بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه موئلا " فدل ذلك على أن الخبر قوله تعالى: " لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب " وقد جاءت القرينة السياقية الدالة على ذلك من علاقة الإضراب المعبر عنها بحرف الإضراب " بل "([2]).
2- الألفاظ تقبل الحصر والمعاني ليست كذلك:
فألفاظ اللغة تبدو لنا أنها يمكن أن تحد وأن تحصر، ودليل ذلك الإحصاءات التي قدمت في عدد الكلمات العربية المستعملة والمهملة([3])، هذا مع التسليم بالصعوبات التي تواجه مهمة حساب الكلمات([4])، والتسليم بأن عدد الألفاظ الذي يجمع بين دفتي معجم ويمكن تقديره بالآلاف أو أكثر ـ لا يمكن أن يكون للمتكلم العادي في لغة ما قدرة على أن يعيه ويستخدمه، وهو عدد في زيادة وتكاثر مستمرين بنمو اللغة عن طريق القياس والاشتقاق والنحت والاقتراض والارتجال.
والذي أقولـه يعني أن ألفاظ اللغة من حيث كمها تتسم بالمحدودية النسبية، أي الكثرة التي يمكن حصرها عملياً في عدة آلاف([5])، ولعل هذا هو ما دفع الجاحظ إلى أن يقول: " اعلم ـ حفظك الله ـ أن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ، لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية وممتدة إلى غير نهاية، وأسماء المعاني ( أي الألفاظ ) مقصورة معدودة ومحصلة محدودة " ([6]).
وبناء على ذلك نجد أن الألفاظ ـ وهي تتسم بهذه المحدودية النسبية ـ تظل تنتج كما هائلاً لا نهاية له من المعاني، عند تركيبها وصوغها في صورة عبارات وتراكيب وجمل تختلف باختلاف السياق والمقام. وهذا يعني أيضاً ـ كما أشار الجاحظ ـ أن المعاني تختلف في هذا عن الألفاظ؛ لأنها ( أي المعاني ) لا يقبل الحصر منها إلا المعاني الكلية، أما المعاني الجزئية فهي غير قابلة للحصر كما ذكر ابن الأثير حيث قال: " اعلم أن المعاني الخطابية قد حصرت أصولها، وأول من تكلم في ذلك حكماء اليونان، غير أن ذلك الحصر كلي لا جزئي. ومحال أن تحصر جزئيات المعاني وما يتفرع عليها من التفريعات التي لا نهاية لها "([7]).
ومن أمثلة المعاني الكلية على وجه العموم ـ كما أرى ـ ما يأتي:
أ- تقسيم الكلمة في النحو إلى ثلاثة أقسام ( اسم وفعل وحرف ) أو أكثر، فهذه الأقسام معان كلية نحوية. وفي ضوء هذا ينبغي أن يفهم قول الوراق (ت:381هـ) مثلاً: " إن قال قائل: من أين علمتم أن الكلام ينقسم ثلاثة أقسام؟ قيل: لأن المعاني التي يحتاج إليها الكلام ثلاثة. وذلك أن من الكلام ما يكون خبراً ويخبر عنه، فسمى النحويون هذا النوع اسماً، ومن الكلام ما يكون خبراً ولا يخبر عنه فسمى النحويون هذا النوع فعلاً، ومن الكلام مالا يكون خبراً ولا يخبر عنه فسمى النحويون هذا النوع حرفاً، وليس ههنا معنى يتوهم سوى هذه الأقسام الثلاثة، فلهذا لا نشك فيما عدا هذه الأقسام، إذ لا معنى يتوهم سواها. ووجه آخر: أن المعاني قد أحطنا بعلم جميعها والألفاظ يحتاج إليها من أجل المعاني، فإذا كان كل معنى لا يمكن أن يعبر عنه إلا بأحد هذه الأقسام الثلاثة دل ذلك على أن جميع الأقسام ثلاثة "([8]). فقول الوراق " المعاني قد أحطنا بعلم جميعها " يقصد به المعاني الكلية في هذه الجهة النحوية.
ب- حصــر المفاهيــم الأساسية في اللغة على أساس تقسيمها إلى حقول دلالية رئيسة وفرعية كما يوجد في المعجـــم اليوناني لكلمـات العهــد الجديد (Greek new Testament) حيث حصرت المفاهيم الأساسية في اللغة في أقسام أربعة هي: الموجودات (entities) والأحداث (events) والمجردات (abstracts) ، والعلاقات (relations) وقد قسمت هذه الأربعة إلى أقسام أصغر، ثم فرعت هذه الأقسام الصغرى إلى أخرى فرعية وهكذا([9]).
ج- المقولات العشر في المنطق وهي: الجوهر والكم والكيف والزمان والمكان والإضافة والوضع والملك والفاعلية والقابلية([10]).
د- الأغراض العامة التقليدية في الشعر العربي وأهمها: المدح والنسيب والرثاء والفخر والوصف والهجاء والحكمة([11]).
وإذا أردنا أن نربط سمة قابلية الألفاظ للحصر وعدم قابلية المعاني للحصر هذه بالنحو بصورة أخرى واضحة وأن نطبقها عليه؛ فيمكننا أن نقول إن هذه السمة تتجسد في أن المباني والأنماط التركيبية في اللغة ( أي طرق بناء الجملة ) محددة ومحصورة، أما معانيهما فهي عند المقارنة بين الطرفين غير محددة . ومن أمثلة الاستدلال لهذا:
- تعدد معنى الأداة الواحدة كما في قوله تعالى: " وما أدراك ماهيه " [القارعة: 10] حيث " ما " للاستفهام أو للتعجب.
- تعدد معنى الصيغة كما في قوله تعالى: " أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك" [النمل:39]؛ إذ يصلح لفظ " آتيك " أن يكون فعلاً مضارعاً، وأن يكون اسم فاعل.
- إمكان أداء النمط التركيبي الواحد لمعان مختلفة، وذلك كالنمط الخبري المثبت، فهو يمكن أن يؤدي معاني الشرط والأمر والدعاء والعرض والالتزام والتعجب([12]).
3- الجانب المادي الشكلي من اللغة كل جزء من أجزائه يخضع لنظام منضبط من السهل إدراكه وتبينه وتعلمه، أما الجانب الدلالي فالظاهر أنه في الغالب ليس كذلك:
ويدل على هذا أننا نجد أكثر من رأي في هذه المسألة. فثمة رأي يرى أنه لا يوجد في اللغة إلا ثلاثة أنظمة هي: النظام الصوتي والنظام الصرفي والنظام النحوي، وأما ما سوى ذلك مما يقع في المستوى الدلالي فلا يشكل نظاماً وإن أمكن تحليله ووضع أصول وضوابط له. ويسري ذلك على المعجم الذي يخرج من دائرة النظام إلى مجرد كونه قائمة من المفردات. وينبني هذا الرأي على أن مفهوم النظام في اللغة لا يتحقق في أي مستوى إلا إذا وجدت فيه ثلاثة شروط هي: العلاقات العضوية والقيم الخلافية بين المكونات، والصلاحية للجدولة، وعدم إمكان الاستعارة بين لغة ولغة([13]).
وفي مقابل ذلك نجد من يعرض المستوى الدلالي في اللغة على أنه النظام الرابع المكمل للمستويات الثلاثة السابقة عليه. وتقوم هذه الفكرة على أساس أن تلاميذ تشومسكي وأصدقاءه خاصة في العقدين السابع والثامن من القرن الماضي، هم الذين بدءوا يطورون دراسة الدلالة ويحررونها من الانطباعات التي كانت سائدة، متجنبين في ذلك الاعتماد على السياق لأن مراعاته تعوق التحليل المنظم للدلالة. ومن أبرز ما قدم في هذه السبيل إسهامان، أما الأول فنظرية فيلمور (Filmore) التي أطلق عليها اسم " نظرية الحالة" (Case Grammar)وهي نظرية تعني بتحليل الجملة على أساس المفاهيم والعلاقات الدلالية التي تنطوي عليها، ويرى فيلمور أن هذه العلاقات تكون نظاماً يمكن تطبيقه على جميع اللغات([14]). وأما الإسهام الثاني فهو أبرز ما قدمه علم الدلالة التوليدية الذي تمخض عن الاهتمام بنظرية فيلمور، ويُقصد بذلك تحليل العناصر الدلالية المكونة للكلمة ثم الجملة، وقد اعتُمد في ذلك على " السيميم " (Sememe) الذي هو أصغر وحدة دلالية من مجموعها تتكون دلالة الكلمة. ومثال ذلك كلمة " رجل " فهي تتكون من الوحدات أو العناصر: + اسم + محسوس + معدود + حي + بشري + ذكر + بالغ.. إلخ. إن هذه الوحدات هي المسئولة عن إيجاد التوافق الدلالي بين الكلمات، وهذا يجعل جملة ـ على المعنى الحقيقي لا المجازي ـ مقبولة وأخرى غير مقبولة مثل: اشتعلت النار واشتعل الثلج([15]).
إنني أرى أن التسليم بأن المستوى الدلالي في اللغة يمثل نظاماً أمر ليس باليسير؛ لأن تحليل المعاني إن بدا إمكان جعله نظاماً دقيقاً من زاوية معينة، فهذا ربما لا يستقيم على كل حال من زاوية أخرى، ولهذا نجد القائلين بوجود النظام الدلالي جوبهوا بعقبات مختلفة بعضها يرجع إلى صعوبة ضبط السياق، وبعضها يرجع إلى أن كثيراً من الكلمات كالحروف والأدوات من العسير إخضاعها للتحليل المنظم للعناصر المكونة([16])، ويمكن أن يضاف إلى هذه العقبات الاستعمالات المجازية وغيرها. وغاية ما يمكن قوله في هذا الأمر أن الجانب الدلالي في اللغة على المستوى الصوتي والصرفي والنحوي جزء من نظام كل مستوى من هذه المستويات، ومن ثم فهو نظام بهذا الاعتبار. مثال ذلك على المستوى الصوتي كون كل
حرف من حروف الكلمة يحمل جرثومة من المعنى من جهة كونه مقابلاً استبدالياً لعدد من الحروف الأخرى([17])، ومثال ذلك على المستوى الصرفي معاني العدد والنوع والتصغير والنسب، والمثال على ذلك من المستوى النحوي معاني الفاعلية والمفعولية والإضافة إلخ. فهذه المعاني وما يتصل بها في هذه المستويات نظام منضبط وجزء من نسيج نظام اللغة. أما ما سوى ذلك من المعاني والدلالات مما يقع خارج نطاق هذه الأنظمة الثلاثة فكثير منه ـ بلا شك ـ قابل للتحليل والتنظيم والتنظير سواء أتُّفق على كونه نظاماً أم لم يُتفق، وهذه الدلالات من هذا المنطلق تصبح أشد حاجة من غيرها إلى التحليل والدرس المنهجيين، ولعل الاختلاف في الحكم على المستوى الدلالي بهذا الشكل يؤكد شدة هذه الحاجة الدراسية لتنظيم ما يبدو أنه يند عن النظام ولربطه بما انتظم.
4- الألفاظ والتراكيب والجمل وسيلة مثلها في ذلك مثل وسائل الدلالة والرموز الأخرى، كالخط والإشارات الجسمية باليد أو بالعين أو غيرهما، والعقد وعلامات الطريق، أما المعنى والدلالة فهما الغاية من استخدام هذه الوسائل لغوية كانت أو غير لغوية:
وتبدو لنا الدلالة من هذه الزاوية بمثابة الثابت الذي هو عكس المتحول وبمثابة قيمة العملة النقدية في مجال التداول مع افتراض ثباتها في فترة زمنية. مثال ذلك أننا من الممكن أن نعبر عن معنى الموافقة بقول أحدنا: " موافق "، كما يمكن أن نكتفي بدلاً من ذلك بهز الرأس بطريقة معينة، ويمكننا أيضاً عند نقطة مرور توقفنا عندها أن نستأنف السير عند سماع قول " سِرْ " أو " مُرّ " أو عند سماع " الصَّفّارة " أو رؤية الإشارة الضوئية الخضراء. وقريب من هذا ـ مع اختلاف الطبيعة والهدف بصورة واضحة ـ أننا نستطيع أن نستبدل بورقة نقدية من عملة معينة ما يقابل قيمتها من عملة أخرى وأن نستخدمها فيما نشاء. إن الدلالة أو القيمة في ذلك كله من الناحية الرمزية العامة تمثل جانب " الثابت "، والألفاظ والتراكيب والجمل والعلامات الأخرى تمثل جانب " المتحول ". وصفة الثبات هذه في المعنى هي التي تسمح بإمكان الترجمة من لغة إلى أخرى حتى لو كان المعنى هرائياً كما في هاتين الجملتين:
- colorless green ideas sleep furiously.
( الأفكار الخضراء عديمة اللون تنام بعنف ).
- They perform their leisure with diligence. ([18])
( هم يؤدون فراغهم باجتهاد ).
وإذا كانت الدلالة والمعنى هما الغاية من استعمال الألفاظ والجمل، فهذا خاص بغير لغة الشعر وما يعد ذا أسلوب فني متميز؛ لأن هذه اللغة من أهم سماتها أن هيئة الألفاظ والتراكيب والجمل تكون فيها غاية تتعادل أهميتها ـ إن لم تزد ـ مع أهمية المعاني والدلالات، لذلك وصفت لغة الشعر لدى كثيرين بأنها ليست وسيلة لسواها بل اعتبرت هي غاية الشاعر التي يروم نقلها في الكلمات والجمل([19])، ومن ثم كانت متجددة ومتغيرة باستمرار وذات خصائص شكلية نحوية عبر عنها كثيراً بمصطلح " الضرورة الشعرية "([20]). وهذه المسألة أي كون الألفاظ في الشعر غاية ترتبط في الحقيقة بأمرين هما: مهمة الشعر ورسالته، وقضية الشكل والمضمون في الشعر والأدب عموماً. وقد تحدثت من قبل عن وظيفة اللغة في الشعر وقلت إنها هي الوظيفة الشعرية التي تعني وجود أهمية للدال لا تقل عن أهمية المدلول، أما مهمة الشعر ورسالته فهذه زاوية أخرى تكشف جانباً آخر لوظيفة اللغة في الشعر. ([21])
وأما من حيث اتصال فكرة كون الألفاظ في الشعر غاية بقضية الشكل والمضمون، فليس من قبيل الاستطراد أن أشير أولاً بشيء من التفصيل إلى أبرز ما نجده في التراث العربي تعبيراً عن هذه الفكرة، وهو قضية اللفظ والمعنى في نقد الشعر التي بلغت مداها في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وقد كتبت الغلبة فيها لتفضيل اللفظ على المعنى أي الشكل على المضمون([22])، يدل على ذلك تصريح الجاحظ الشهير: " والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي القروي والمدني. وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صياغة وضرب من النسج وجنس من التصوير "([23]). فنحن نرى الجاحظ هنا يعبر بوضوح عن وجهة النظر الذاهبة إلى أن البلاغة في الشـعر لا تكون في المعاني، وإنما تكون فيما سواها مما يتجسد كثيراً في اللفظ ويعرف به، وذلك لأنه ذكر إلى جانب اللفظ أشياء أخرى تتحدد في السبك والصياغة والوزن والتصوير، وبناء على هذا يدخل في حيز اللفظ هنا التركيب اللغوي بكل علاقاته النحوية المتفرعة المؤثرة في الدلالة، هذا إلى جانب تلاؤم الإيقاع الموسيقي وانسجامه، ثم القدرة الإبداعية في الأسـاليب المجازية التي هي بلا شك ضرب من الدلالة([24]).
ومعنى هذا الفهم المتأني لكلام الجاحظ وما يماثله ملحوظة مهمة مؤداها أن من المحقق " أن القائلين بأن البلاغة في الألفاظ ـ الجاحظ والآمدي والجرجاني مثلاً ـ لم يعنوا بالألفاظ أصواتاً مجردة عن معانيها وإنما عنوا بها العبارة عن المعنى، وعبدالقاهر نفسه ينبه على ذلك، وليس لنا أن ننتظر من مثل الجاحظ ـ وهو الذي كتب " البيان والتبيين " ونظر إلى البلاغة كلها على أنها ضرب من " الإبانة " ـ ليس لنا أن ننتظر من مثل الجاحظ
أن يجعل البلاغة في حروف الألفاظ "([25]). ولذلك نجد ابن جني قبل عبدالقاهر في فصل خاص من كتابه " الخصائص " كأنه يحاول أن ينفي عن وجهة نظر تقديم اللفظ على المعنى قلة شأن المعني وعدم أهميته. والأساس الذي اعتمد عليه في ذلك هو أن العناية بالألفاظ تكون في الحقيقة من أجل الاعتناء بالمعاني وخدمتها والتنويه بها، يقول في باب في الرد على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ وإغفالها المعاني: " فإذا رأيت العرب قد أصلحوا من ألفاظها وحسنوها وحموا حواشيها وهذبوها وصقلوا غروبها وأرهفوها، فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ، بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني وتنويه بها وتشريف منها. ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه وتزكيته وتقديسه، وإنما المبغى بذلك منه الاحتياط للموعى عليه، وجِواره بما يعطّر بَشَره ولا يَعرّ جوهره، كما قد نجد من المعاني الفاخرة السامية ما يهجنّه ويغض منه كُدرة لفظه وسوء العبارة عنه "([26]).
ويستشهد ابن جني على ذلك ببيتين يبدوان من الناحية اللفظية في درجة عالية من الزخرفة والتأنق والجمال، وقد يُظن أنهما يقفان عند هذا الحد من الحسن الشكلي اللفظي لأنه لا يوجد تحت ذلك معنى شريف، ولكنه يثبت من خلال تحليله للبيتين كيف ينطوي التحسين اللفظي فيهما على دقة في التعبير عن المعنى والاستعمال الموجه لخدمته والدلالة عليه. وهذان البيتان هما([27]):
ولما قضينا من منى كلَّ حاجةٍ |
|
ومسّحَ بالأركان من هو ماسحُ |
أخذنا بأطراف الأحاديث بيينا |
|
وسالت بأعناق المطيّ الأباطح |
وإشارة ابن جني هنا إلى أن الألفاظ خدم للمعاني لفتة مهمة منه تحاول أن تزن بالقسطاس المستقيم في هذه القضية. وهو كما نظر إليها من الناحية البلاغية والنقدية تناولها أيضاً من الناحية الصرفية والنحوية، ومن الأمثلة التي ذكرها على هذا تقديم بعض حروف المعاني في أول الكلمات كحروف المضارعة لتكون أمارة على تمكن المعنى، وكذلك توسيط بعض الحروف الأخرى لتحصينها والتأمين عليها من الأطراف المعرضة للحذف والإجحاف كألف التكسير وياء التصغير([28]).
فإذا انتقلنا إلى عبدالقاهر لنوضح رأيه في هذه القضية أي قضية اللفظ والمعنى، رأيناه يجعلها بصفة عامة محور كتابيه " أسرار البلاغة " و " دلائل الإعجاز "، كما نراه أيضاً يؤكد على وجه العموم كلام الجاحظ وابن جني معاً في هذه المسألة. ولكن لكي يفهم كلامه ورأيه على وجه الدقة ـ وهذا أمر ليس بهين ـ ينبغي أن يعرض ذلك في ضوء هاتين النقطتين:
أ) عندما يكون حديث عبدالقاهر عن المعنى بوصفه " أصل المعنى " أو غرضاً كالحكمة والأدب والمعنى النادر والتشبيه الغريب، نجده يفضل اللفظ على المعنى لأن أصل المعنى أو الغرض لا يميزان كلاماً عن غيره، يقول: " اعلم أن الداء الدويّ والذي أعيا أمره في هذا الباب غلط من قدم الشعر بمعناه وأقل الاحتفال باللفظ، وجعل لا يعطيه من المزية إن هو أعطى إلا ما فضل عن المعنى … فأنت تراه لا يقدم شعراً حتى يكون قد أودع حكمة أو أدباً واشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر "([29]). وهو يفسر سر هذا الغلط بأن التفاضل في هذه الحال ينبغي أن يكون بالتصوير والصياغة ـ كما قال الجاحظ ـ لا المعنى؛ وذلك لأن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وسبيل المعنى " الذي يُعبّر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار: فكما أن محالاً إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته، أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه ذلك العمل وتلك الصنعة ـ كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام أن تنظر في مجرد معناه، وكما أنا لو فضلنا خاتماً على خاتم بأن تكون فضة هذا أجود أو فضة هذا أنفس، لم يكن ذلك تفضيلاً لـه من حيث هو خاتم ـ كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتاً على بيت من أجل معناه، ألا يكون تفضيلاً له من حيث هو شعر وكلام "([30]).
فعبدالقاهر هنا يجعل المعنى كالمادة التي يصنع منها الشيء، حيث قد تكون شريفة في نفسها وربما لا تكون كذلك، وذلك كالذهب والفضة، ويجعل اللفظ كالصورة التي تتشكل فيها هذه المادة، فكما أن الذي يفضل خاتماً على خاتم ـ من الناحية الفنية ـ هو شكله وصنعته وصورة زخرفه، فكذلك صياغة اللفظ وصورة المعنى هما اللذان يميزان الكلام لا المعنى نفسه الذي هو كالمادة، فضلها أو حقارتها يرجعان إليها في نفسها ولا يرجعان إلى الفن.
ب) وعندما يكون حديث عبدالقاهر عن المعاني بوصفها الغاية من الكلام والفائدة المنوطة به، نراه هذه المرة يظهر للمعنى ما لـه من أهمية ويبين لـه ما يستحقه من الفضل والمزية، مثال ذلك قوله عن " البلاغة " و " الفصاحة " وما يشبههما إنه لا معنى لمثل هذه العبارات التي تصف الألفاظ إلا وصف الكلام بحسن الدلالة وتمامها، وإتيان المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته وذلك باختيار اللفظ " الذي هو أخص به وأكشف عنه وأتم له وأحرى بأن يكسبه نبلاً ويظهر فيه مزية "([31]). ومن هذا أيضاً حديثه عن الجناس وقوله إنه أمر لفظي لا يحسن ولا تكون له فضيلة إلا إذا كان مفيداً للمعنى وناصراً له؛ وذلك أن " المعاني لا تدين في كل موضع لما يجذبها التجنيس إليه، إذ الألفاظ خدم المعاني والمصرفة في حكمها، وكانت المعاني هي المالكة سياستها، المستحقة طاعتها. فمن نصر اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشيء عن جهته وأحاله عن طبيعته "([32]).
إننا يمكننا أن نقول إن عبدالقاهر بقوله مرة برأي الجاحظ في تفضيل اللفظ، وذهابه مرة أخرى إلى أن الألفاظ خدم للمعاني ـ استطاع أن يستلهم الحقيقة ويؤلف بين المذهبين وأن يصوغ نظرية واضحة المعالم خاصة به تجمع بين الأمرين([33]).
وما ذكرته هذا تفصيل لابد منه قصدت به أن أبين خلاصة الرؤية العربية القديمة لخصيصة الوسيلة والغاية في الألفاظ والمعاني، وما يتصل بذلك من تميز لغة الشعر بكون الألفاظ والتراكيب فيها تعد غاية كالمعاني وليست مجرد وسيلة. ونحن إذا طوينا الزمن وانتقلنا إلى مطالع العصر الحديث نجد في هذا الصدد كلاماً شديد الأهمية لسارتر تحدث فيه عن علاقة الشاعر بالكلمات، ومما بينه في هذا التفريق بين عمل الشاعر وعمل الناثر من منطلق أن الشعر كالرسم والنحت والموسيقا غير ملتزم، وأنه لا يمثل استخداماً نفعياً للغة، في حين أن النثر ميدانه الإعراب عن المعاني([34]).
وقد أفاض سارتر في بيان كون الكلمات غاية للشاعر وأنها ليست أدوات ولا علامات على معان عادية، يقول: " وفي الحق أن الشاعر أبعد ما يكون من استخدام اللغة أداة، وقد اختار طريقه اختياراً لا رجعة فيه. وهو طريق فرضه عليه مسلكه الشعري في اعتبار الكلمات أشياء في ذاتها وليست بعلامات لمعان … فالناثر دائماً وراء كلماته متجاوز لها ليقرب دائماً من غايته في حديثه. ولكن الشاعر دون هذه الكلمات لأنها غايته. والكلمات للمتحدث خادمة طيعة، وللشاعر عصية أبية المراس لم تستأنس بعد، فهي على حالتها الوحشية. والكلمات للمتحدث اصطلاحات ذات جدوى وأدوات تبلى قليلاً قليلاً باستخدامها، ويطرح بها حين لا تعود صالحةً للاستعمال، وهي للشاعر أشياء طبيعية، تنمو طبيعية في مهدها كالعشب والأشجار "([35])، وليس معنى هذا فقدان الكلمات للمعنى " فالمعنى في الواقع هو الذي يربط وحده بين الكلمات ويجعل منها وحدة في تركيب العبارات، وبغيره تصبح الكلمات مجرد أصوات أو خطوط حبر على ورق، ولكن هذا المعنى يصبح في عينيه طبيعياً هو أيضاً "([36]) لأن الكلمات عندئذ تمثل المعنى أكثر مما تدل عليه.
إن هذا يفضي بنا أخيراً لا محالة إلى إشارة عاجلة من النقد الأدبي؛ حيث إن هذه المسألة تمثل فيه قضية شائكة هي قضية الشكل والمحتوى أو المضمون، وقد أثارت جدلاً واسعاً، وحاول هارولد أزبورن أن يصوغها صياغة مقنعة حديثة في قوله: " لا يظل شيء من شكل القصيدة ولا بنيتها العروضية ولا علاقاتها الإيقاعية، ولا أسلوبها الخاص بها عندما تفصل عما تحتويه من معنى. فاللغة ليست لغة بل أصوات، إلا إذا عبرت عن معنى. كذلك يعتبر المحتوى بدون الشكل استخلاصاً لشيء لـه وجود ملموس، لأننا لو عبرنا عنه بلغة مختلفة لأصبح شيئاً مختلفاً. ولا بد أن تُدرك القصيدة ككل حتى تتم عملية الإدراك. ولا تناقض بين الشكل والمحتوى … لأنه لا وجود لأي منهما بدون الآخر، واستخلاص الواحد من الآخر قتل للاثنين "([37]).
وخلاصة ما سبق كله أن الدلالة في الأدب على وجه العموم ـ كما قال إدوارد سابير ـ تتسم بأنها غير عادية([38])، وأصدق تعبير عن خصيصة المعنى في الشعر هو ما ذكرناه من قبل من أن الدال فيه تكون له أهمية معادلة لأهمية المدلول إن لم تزد.
([1]) الجاحظ: البيان والتبين، تحقيق وشرح عبدالسلام هارون ( مكتبة الخانجي بالقاهرة ـ ط7- 1988 ) 1/75.
([2]) د.تمام حسان: البيان في روائع القرآن (عالم الكتب بالقاهرة ـ 1993م ) ص213.
([3]) ذكر الخليل في معجم العين أن عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل على مراتبها الأربع من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي من غير تكرار هو (12.305.412). وذكر الزبيدي أن عدة مستعمل الكلام كله ومهمله هو (6.659.400). انظر: السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، تحقيق على البجاوي وآخرين ( دار الجيل ـ بيروت ـ د.ت ) 1/74، 75. وانظر مثالاً لبعض الإحصاءات الحديثة لدى ريمون طحان في: فنون التقعيد وعلوم الألسنية ( دار الكتاب اللبناني ـ بيروت ط1 ) ص189-191.
([4]) انظر فلوريان كولماس، اللغة والاقتصاد، ترجمة د.أحمد عوض ( سلسلة عالم المعرفة بالكويت ـ 2001 ) ص299.
([5]) انظر: د. محمود فهمي حجازي، مدخل إلى علم اللغة ص 17، 18.
([6]) الجاحظ: البيان والتبيين 1/76.
([7]) ضياء الدين بن الأثير: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد ( المكتبة العصرية ـ بيروت ـ 1990 ).
([8]) أبو الحسن محمد بن عبدالله المعروف بالوراق: العلل في النحو، تحقيق مها مازن المبارك ( دار الفكر بدمشق وبيروت –2000) ص 23، 24.
([9]) انظر: د. أحمد مختار عمر، علم الدلالة ص87-95.
([10]) انظر: المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية بالقاهرة ( 1979) ص190.
([11]) انظر: ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده ( دار الجليل ـ بيروت ـ 1981 ) 1/120، 121.
([12]) انظر: د. تمام حسان، البيان في روائع القرآن ص 59-63، 211.
([13]) انظر: د. تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها ( عالم الكتب بالقاهرة ـ 1998) 312، 339، 352.
([14]) انظر: د. حلمي خليل، مقدمة لدراسة اللغة ص 318 - 321.
([15]) انظر: السابق ص 321 - 326.
([16]) انظر: السابق ص 319، 326.
([17]) انظر: د. تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها ص77.
([18]) نعوم تشومسكي: جوانب من نظرية النحو، ترجمة مرتضى جواد باقر (جامعة البصر – 1985) ص 186.
([19]) انظر: د. لطفي عبدالبديع، التركيب اللغوي للأدب ص62.
([20]) انظر: د. محمد حماسة عبداللطيف، لغة الشعر دراسة في الضرورة الشعرية ( دار الشروق ـ 1996 ) ص 371-380.
([21]) اختلفت الآراء في تحديد مهمة الشعر: فهناك من يرى أنه يفيد لأنه يعلم ويهذب ويصلح، وثمة من يقول إنه يحقق المتعة فقط، وثمة من يرى أنه يحقق هذين الأمرين معاً: الفائدة والمتعدة ومن ثم فالشعر حلو مفيد. انظر: روبين جورج كولنجود، مبادئ الفن، ترجمة د. أحمد محمود ( الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ مهرجان القراءة للجميع ) ص 43 وما بعدها، ود. إحسان عباس: فن الشعر ( دار الشروق ـ الأردن ـ 1992 ) ص 135، 136.
([22]) انظر: د. إحسان عباس : فن الشعر ص 144، وعبدالسلام حامد: الشكل والدلالة ص12.
([23]) الجاحظ : الحيوان، تحقيق الأستاذ عبدالسلام هارون ( بيروت ـ 1969) 3/131، 132.
([24]) انظر: د. فايز الداية، علم الدلالة العربي ( دار الفكر بدمشق ـ 1996 ) ص 34.
([25]) الدكتور شكري عياد: ترجمته ودراسته لكتاب أرسطو طاليس في الشعر ( الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ 1993) ص248.
([26]) ابن جني: الخصائص 1/218.
([27]) انظر: السابق نفسه، وعبدالقاهر الجرجاني، أسرار البلاغة ص 21-23 ودلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه محمود شاكر ( مكتبة الخانجي بالقاهرة ـ 1989 ) 294-296.
([28]) انظر: ابن جني، الخصائص 1/222 وما بعدها.
([29]) عبدالقاهر: دلائل الإعجاز ص 251، 252.
([30]) السابق: ص254، 255.
([31]) السابق: ص43.
([32]) أسرار البلاغة ص8.
([33]) انظر: د. شكري عياد، كتاب أرسطوطاليس في الشعر ص 253.
([34]) انظر: جان بول سارتر، ما الأدب؟، ترجمة وتقديم د. محمد غنيمي هلال ( الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ 2000) ص22.
([35]) السابق ص24.
([36]) السابق ص 25.
([37]) رينيه ويليك: مفاهيم نقدية، ترجمة د. محمد عصفور ( عالم المعرفة بالكويت العدد 110 ) ص 50، 51.
([38]) انظر: إدوارد سابير، اللغة مقدمة في دراسة الكلام، ترجمة المنصف عاشور ( الدار العربية للكتاب ـ تونس ـ 1997 )2/145، 155.