عينان مطفأتان.. وقلب بصير
عينان مطفأتان.. وقلب بصير
رواية: عبد الله الطنطاوي
عبد الله الطنطاوي
-1-
الإصدار الأدبي والفني "إسهام" المحددات والأهداف
إذا تأكد أن خير ما يتقوم به الشيء هو هويته ووظيفته، فإن الأدب يتخذ، هنا، قيمة كبرى، ويحتل أعلى درجات الأهمية والجدوى، ذلك أنه، من حيث الهوية، يرتد إلى معنى الأخلاق والآداب، ومن عجيب الموافقات أن العلاقة بين الأدب والآداب ظلت وطيدة حتى في لحظات الضعف الحضاري والركون إلى قيم فاقدة لدورها في تهذيب القيم وتوجيه النفس الإنسانية في تفردها أو في علاقتها بمحيطها الاجتماعي والسلوكي، ومن يقرأ تاريخ الأدب العربي، قديمه وحديثه، يدرك هذه الصلة الحميمية بين الأدب والآداب والقيم، إلى درجة أنه يمكن الانتهاء إلى خلاصة جوهرية وهي أن الأدب لم يخرج، في يوم من الأيام، عن التبشير بقيمة أو التنفير من قيمة.
وهذا ينقلنا إلى المقوم الثاني من مقومات الأدب، ونقصد به وظيفته، فمنذ مقولة "هوراس": "الشعر ممتع ومفيد" وإلى أحدث الاتجاهات الأدبية، فإن الأدب له وظيفة، حتى ولو كانت وظيفته في أن يخرج عن وظائفه الأصيلة أو "التقليدية" بتعبير بعضهم، أو يتحداها، فالوظيفية قدر الأدب ومحدده الواقعي وضامن وجوده وبقائه واستمراريته.
والرسول عليه السلام عندما قال: "إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة" وعندما أعلن المبدأ النقدي العام: "إنما الشعر كلام مؤلف، فحسنه حسن وقبيحه قبيح" إنما كان، عليه الصلاة والسلام، يؤكد حقيقة أن الأدب له رسالة ووظيفة.
فمن وظائف الأدب، والفن بدرجة موازية، أنه يسهم في تشكيل رؤية الإنسان إلى الوجود والكون والحياة بمختلف مفرداتها وعلاقاتها، وقبل أن يقرأ الناس كتب الفلاسفة والمفكرين، فإنهم تلقوا القيم الوجودية المبثوثة في ثنايا القصائد والأعمال الروائية والمسرحية والإنتاجات الفنية.
كما أن الأدب والفنون عامة، لغوية وغير لغوية، تسهم في تهذيب النفس، والارتفاع بذوقها وإحساسها بالجمال، وهي مخزن الأخلاق الفاضلة وداعيتها الأصدق، وهي التي تتغنى بفضائل الأخلاق وتسجل مآثر القيم، وتصوغ من بيانها حكماً خالدة تحتفي بالصدق والوفاء والكرم وحزم الرأي والحب والخير والجمال، وتنفر من نقيضها.
وقد اعتور الأدب والفنون، في العصر الحديث، نوازل وأزمات، وخضعت، في بعض جوانبها، لتأثيرات المذاهب التي تدعو إلى التحرر من القيم والآداب، وجعل الأدب ميداناً لسيطرة النزوع نحو إفراغ الإبداع من محتواه القيمي، وتم استدعاء مقولات إلى ساحة النقد الأدبي، من مثل مقولة الإعلاء من الوظيفة الأسلوبية على حساب الوظيفة التهذيبية، وتم محاصرة الداعين إلى قيمية الأدب والفن في زاوية الدعوات الماضية التي لم تعد صالحة لـ "حداثة" اليوم، وكأن هناك تنافياً وتنابذاً قدريين بين "الحداثة" و"القيم" في حين أن الأدب والفنون، كما أشير إليه سابقاً، لا تتقوم إلا بهويتها ووظيفتها اللتين مضى معنا بيان أمرهما.
وإيماناً من قطاع الشؤون الثقافية بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت بأهمية الأدب والفنون ودورهما في نشر القيم الفاضلة والدعوة إلى الذوق الرفيع والجمال المنتج، فإنه جعل من آكد أدواره: الإسهام في تجديد النظر إلى هذا الميدان، ووضع إطار يجتمع فيه أصحاب الريادة الأدبية والمواهب البيانية والفنية، يقدمون للأمة خير ما تخطه أقلامهم في ميادين الشعر والقصة والرواية والمسرحية والدراسة الأدبية والفنون.
وقد تبلور ذلك الإيمان في إنجاز إصدار أدبي وفني دوري ضمن مشروع روافد، يحمل اسم "إسهام" وذلك لإثراء الساحة الأدبية والفنية، وجعله منتدى لتوظيف مختلف الآداب والفنون في إشعاع القيم البناءة وتنمية الذوق والوجدان بأسلوب أدبي وفق الرؤية الوسطية، ولتأكيد أن الدين الحنيف لم يعارض الكلمة الموحية المشعة والأشواق الجميلة المعبرة، ولم يقيد الإبداع الأدبي والفني الراقي، وإنما وضع الأسس والمعايير، وأفسح المجال للأدباء والفنانين للتعبير عن أشواقهم وطموحاتهم النفسية والاجتماعية، وذلك كله من أجل أن يكون الأدب والفن شعبة من شعب الإيمان، إذ لما كان الحياء شعبة من شعب الإيمان، ولما كان إماطة الأذى شعبة من شعب الإيمان، فكيف لا يكون الأدب شعبة من شعب الإيمان، وهما دعوة إلى قيم متساوقة مع قيم الحياء، وهما دعوة إلى إماطة أذى التصورات والمفاهيم والقيم السلبية من طريق الإنسان في رحلته إلى الله.
ويتوخى الإصدار الأدبي والفني "إسهام" العمل على تحقيق الأهداف التالية:
- إبراز دور الأدب (الشعر والقصة والرواية والمسرح والدراسة الأدبية) والفنون (خط، زخرفة، عمارة..) في التحصين الثقافي في زمن يتميز بالانفتاح والتحولات القيمية.
- إبراز دور الأدب والفنون في تنمية الذوق وتطوير مهارات الإدراك الجمالي لدى القراء والمهتمين.
- استثمار هذا الميدان الحساس لتمكين القيم الإسلامية من نفوس المهتمين والناشئة وعموم القراء والمتذوقين للأدب.
- الاستجابة لمنظور الإسلام الذي يغطي مختلف مناحي الحياة الإنسانية، ومنها جانب الذوق والوجدان والشعور، تلك الجوانب التي تعد، بحق، المحاضن الراعية للقيم والرؤى والأفكار.
- الاستجابة للتنوع الذوقي عند المتلقين، إذ يوجد من المتلقين من لا يتفاعل مع الأطروحات الفكرية المتطلبة لطاقة كبيرة من التركيز وإجالة النظر، ويجد نفسه مستجيباً للتفاعل مع الكتاب الأدبي، شعراً أو قصة أو مسرحية أو رواية، والعمل الفني.
- اكتشاف المواهب الأدبية والفنية في المجتمع الكويتي ابتداء، والمجتمع العربي الإسلامي انتهاء، ثم رعايتها وتأهيلها لاستيعاب القضايا الإسلامية الفاعلة في الساحة، ومعالجتها وفق منظور الوسطية والحوار الحضاري.
- الإسهام في تنشيط الخطاب الإسلامي حول الأدب والفنون.
- تشجيع الأدباء والفنانين على تجسيد مقتضيات مسؤوليتهم في التوجيه والتحصين والترشيد.
- توفير تراكم أدبي وفني يمثل دليلاً عملياً على قوة المرتكزات الفكرية والفنية للإسهام في ميدان الأدب والفنون.
إن السعي إلى نشر قيم الوسطية والتسامح والحوار الحضاري يعتمد أساليب ووسائل، ولاشك أن ميدان الأدب والفنون يعد أرحب الوسائل وأضمن الأساليب، لأنها، بطبيعتها، تخاطب وجدان المتلقي وتستثير فيه مكامن الاستجابة، وتستحث فيه قوة ذاتية للتأمل والنظر والمقارنة والاختيار، وتلك قيم يسهم الأدب والفنون في تنميتها إسهاماً فعالاً.
والأمل معقود على أدباء الأمة وفنانيها لأن يسهموا بإنتاجهم الأدبي والفني، وذلك من أجل إبراز دور الأدب والفنون في رعاية قيم الأمة ونقل طموحاتها ورؤيتها إلى العالم، تلك الرؤية القائمة على الفهم والتفاهم، والرغبة في التواصل وإشعاع قيم الحب والخير والجمال.
-2-
تقديم
تقدم الرواية "عينان مطفأتان وقلب بصير" تجربة شاب لم تمنعه إصابته بالعمى من أن يحقق أمنيته ويؤدي رسالته على الوجه الأمثل، نموذجاً يعكس تجربة أحد الذين انتصرت إرادتهم القوية على الإعاقة، فتحول إلى نموذج يقتدى به في المحافل والمجالس ويسعى الناس إلى استشارته والأخذ برأيه، من العامة والخاصة، ومن الأسرة والمحيط القريب والبعيد على حد سواء.
ويختار الكاتب والروائي عبد الله الطنطاوي لبطل روايته، الشاب أعمى العينين بصير القلب ثاقب النظر، حاد البصيرة، اسم "صالح" ويسعى، على طول الرواية، إلى أن يترجم معاني هذا الصلاح من خلال كثير من المحطات، سواء فيما تعلق بعلاقته بأمه وأبيه والمحيط القروي القريب منه أو بالمحيط العلمي الذي انتسب إليه، أو بالمحيط السياسي الذي حصل منه على الدعم النفسي والمادي لإتمام مسيرته العلمية والاجتماعية.
وتشير أحداث الرواية إلى أن الذكاء الذي تميز به البطل ورجاحة العقل وحسن البصيرة جعلته يتبوأ مكانة عالية بين أهله ومحيطه، أولم يقل الشافعي:
تعلم فليس المرء يولد عالماً=وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده=صغير إذا التفت عليه الجحافل
وإن صغير القوم إن كان عالماً=كبير إذا ردت إليه المحافل
هكذا كان حال البطل الشيخ صالح، الذي استطاع الروائي -من خلال الوقوف عند أحداث ومواقف- أن يقدم رؤيته لعدد من القضايا الاجتماعية كالإعاقة مثلاً التي لم تكن حائلاً دون الوصول إلى الهدف المنشود بفضل الإرادة القوية والعزيمة الصلبة اللتين تسلح بهما الشاب صالح لمواجهة الحياة بقوة، ولتحقيق الاندماج الإيجابي في المجتمع انطلاقاً من مراحل دراسته الأولى مزوداً بفلسفة رفض اليأس والفشل والتشاؤم، وانتهاءً بالزواج الذي جعله منطلقاً نحو آفاق أخرى جديدة وبنفس جديد نحو تحقيق الهدف وإثبات الذات، مروراً بمخالطة الناس والنصح لهم ومد العون لهم، والإحسان إلى الوالدين، وغير ذلك، من مظاهر شبكة العلاقات الاجتماعية.
هما رسالتان اثنتان يسعى رئيس رابطة أدباء الشام، الروائي عبد الله الطنطاوي إلى إبلاغهما إلى القراء من خلال روايته "عينان مطفأتان وقلب بصير" تتعلق الأولى بشرط توافر الإرادة عند كل من يرغب في التطوير والتقدم نحو الأفضل، وهذا ما يعكسه كلام الشيخ صالح حين قال: "أنا لست عاجزاً يا أبي، العمى ابتلاء من الله، ولن أكون عاجزاً بسببه" فهي جملة تعكس الإرادة القوية لهذا الشيخ الشاب، الذي آمن بالقدر وآمن بالفرار من قدر إلى قدر آخر، فقرر مواصلة درب التحصيل العلمي حتى أدرك ما أدرك، رافضاً أن يُنظر إليه نظرة استعطاف وشفقة، فهب يقوم بما عجز عن القيام به كثير من المبصرين من أقرانه وممن هم أكبر منه، وأما الرسالة الثانية فهي واجب الأمة ومسؤوليتها في الاعتناء بالطاقات والمواهب والسهر على توجيهها وإزاحة ما يعترضها من مشاكل تحد من عطائها، وهو الدور الذي تولاه الشيخ فاتح، أحد أصدقاء أبي صالح الأغنياء، الذي فتح الله على يديه للشاب صالح طريق دراسة العلم الشرعي، ليكمل الوزير هذا المشوار ويعتني بهذا الشيخ الضرير عناية جعلته محط أنظار أهل القرية والمجتمع.
وتقدم الرواية بطلها الشيخ صالح نموذجاً للشاب الفعال المخلص الغيور على وطنه وقريته، الذي يحب الخير للناس ويسعى لإسعادهم نموذجاً لصاحب رسالة حضارية تعليمية يؤديها نظير ما حصل من علم، وما قدمت له من مساعدات لتحقيق ذلك، نموذج من آمن بسلاح العلم والكلمة فطفق يعلم أهل قريته ساعياً إلى الانتقال بهم من عالم الجهل والأمية إلى نور العلم والمعرفة، نموذج من يسخر كل الإمكانيات المتاحة إليه في تحقيق هدف أسمى، فقد سخر هذا الشاب الرجل الغنيَّ الحاج فاتح من خلال خدماته، وإنفاقه المادي، وسخر الوزير، ذا النفس الطيبة الخيرة، كرمز للسلطة، وسخر والده صالح، كرمز للرجل الفقير المكافح الذي لا يحبّ أن تفوته مشاركة في عمل خيري، فهو لهذا، نموذج من يحسن فن التعامل مع المحيط ويسخره لتحقيق خير الأمة.
ومن الناحية الشكلية يمكن القول إن الرواية "عينان مطفأتان وقلب بصير" انبنت في أحداثها وفق خط تصاعدي في الزمن، فأحداث الرواية تبتدئ منذ أن كان البطل يافعاً إلى أن هاجر طلباً للعلم، إلى حين الزواج، إلى أن قارب على مناقشة الماجستير، وقد عمدت الرواية إلى نقل هذه الأحداث متوالية في الزمن، بعيداً عن تقنية الاسترجاع والتذكر إلا في ما ندر، كتقنية ترجع بالقارئ إلى أحداث من الماضي، أو تقنية التضمين، بمعنى تضمين مشهد من الرواية مضامين وأحداثاً أخرى، وهذا الخيار أتاح للقارئ فرصة أن ينشدَّ إلى الرواية في تسلسل أحداثها ومواقفها الإنسانية وحسن التصوير... كل ذلك يجعل القارئ لا يترك الرواية إلا بعد أن يتم قراءتها ويحصل له التعاطف المطلق مع البطل متمنياً تعميم هذه التجربة لتكون مثالاً يحتذى.
وقد ازدادت الرواية جمالية وإحكاماً بفضل الحبكة الفنية في التصوير والدقة في نقل التفاصيل والجزئيات، والبناء التسلسلي للأحداث، والبساطة في التراكيب والعبارات، هذا فضلاً عن حرص واضح على تعميق معنى كثير من الأخلاق السامية في نفوس القراء من قبيل البذل في سبيل العلم، وخدمة أهله، وبناء المدارس والتعاون مع الغير في المعروف، والإيثار، والتضحية.
وتتقدم الرواية بشكل عام بمشروع ذي شعبتين:
شعبة استثمار الإعاقة وجعلها عنصر تحفيز وفعالية نحو العطاء، وهو ما تم من خلال تقديم نموذج الشيخ صالح، أعمى العينين بصير القلب.
شعبة تفسير مفهوم الإعاقة، بمعنى أن الإعاقة ليست نتيجة مرض عضوي يصيب عضواً من أعضاء الجسد، وإنما الإعاقة في الركون إلى الكسل والخمول واليأس.
والقارئ الكريم مدعو إلى ولوج فضاء الرواية والاستمتاع بعالمها الفني والقيمي.