التصوير البياني
الفصل الثاني
التصوير البياني
أ.د/
جابر قميحةيطلق مصطلح البيان على معنيين:
الأول معنى أدبي واسع يشمل الإفصاح عن كل ما يختلج في النفس من المعاني والأفكار والأحاسيس والمشاعر بأساليب لها حظها الممتاز من الدقة والإصابة ، والوضوح والجمال. وهو بهذا التعتيم يجمع فنون البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع.
والثاني: معنى علمي محدود، وهو التعبير عن المعنى الواحد بطريق الحقيقة، أو المجاز، أو الكناية([1]).
* * *
ويعتبر التشبيه من أهم الألوان البيانية وأبلغها وبلاغته تأتي من قدرته على تحري نفس السامع أو القارئ، وزيادة الفكرة وضوحا في ذهنه، وجعله قادرا على فهمها وتقبلها عن طريق نقله من الخفي الغامض إلى الجلي الواضح، ومن غير المألوف إلى المألوف، ومن المعروف قليلا إلى المعروف كثيرًا، ومن الذي يدرك بالعقل إلى الذين يدرك بالحس.. كما أن التشبيه يعطى المعنى الواحد بأشكال مختلفة عن طريق تشبيه بهذا مرة، وبذاك مرة أخرى([2]).
* * *
وكان التشبيه بكل أنواعه- وخصوصا التمثيلي والضمني- من أكثر الألوان البيانية ورودا في أدبيات الإمام الشهيد، وتشبيهاته لا تجنح للتحليق الشارد البعيد، بل تكاد تقترب من الأسلوب الحقيقي، لأنه لا يهدف بها إلى التجميل الفني بقدر حرصه على إقناع المتلقين، والوصول إلى نفوسهم لتحقيق أهداف روحية، وأخلاقية، واجتماعية نبيلة، لذلك كانت تشبيهاته تستمد وجودها من الواقع المعيش، يعرضها –رحمه الله- في تبسيط ووضوح. ونكتفي بمثالين تؤيد ما ذهبنا إليه في هذا السياق.
-يقول الإمام الشهيد:
"أما بعد، فيا عباد الله، نشاهد فيما بيننا أن أحدنا لو جاءه إعلان من محكمة جزئية بجلسة مدنية في قضية عادية، فإنه يهتم كل الاهتمام بنفسه، ويفكر في شأنه،ويعد لذلك العدة، ويستشير أهل الخبرة، ولا يقر له حال، ولا يهدأ له بال حتى يطمئن على نتيجة تلك القضية التي غاية أمرها، وقصارى شأنها غرم يسير في زمن قصير، ذلك شأننا في هذه القضايا الصغرى، فما بالنا أيها الإخوان نسينا القضية الكبرى، والجلسة العظمى بين يدي الملك الأعلى؟
فاعلموا إخواني –أرشدكم الله- أن الله –تبارك وتعالى- أرسل لكم نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يحمل إليكم إعلان هذه القضية، وينذركم، ويذكر بهذه الجلسة الإلهية، فذلك قوله تعالى ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾[غافر:15-16]، وليس ذلك الإعلان إلا القرآن المجيد، قال تعالى ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾[ق:45]
ويمضى الإمام معرفا بأجزاء القضية:
-فموعدها هو يوم الفصل...
-ودار المحكمة هي أرض المحشر...
-والشهود هى أعضاء الإنسان
-ومستنداتها مدونة ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ﴾[عبس:13: 16].
-والجزاء نعيم الأبد للمحسنين، وشقاء الأبد للمسيئين..."([3])
* * *
ومن أبلغ تشبيهات الإمام –رحمه الله- ما نقرؤه في قوله "إن المسلمين في التخلف، واختلافهم على تحديد المسئولية عن الفساد، كمثل قوم أقبلوا على دراهم، فوجدوا النار مشتعلة فيها، فأخذوا يتساءلون عن السبب في إشعال النار، فقال أحدهم: إن السبب أنت؛ لأن زوجتك كانت تخبز في فرنها، فطارت شرارة من الفرن، وتسببت في هذا الحريق. والثاني يقول: لا يا أخي ليست زوجتي، بل هو ولدك الذي كان يلعب بقطعة من الورق اشتعلت فيها النار. والثالث يقول: لست أنا، بل هو الذي كان يشرب السجاير، ووقع السيجار في قطعة من القماش فحرقها، وانتشر الحريق منها، وأخذوا يقتتلون فيما بينهم، وكانت النتيجة أن انشغلوا بهدف المناقشات والاختلاف حتى أتت النار البيوت كلها، ثم لم تلبث أن أتت عليهم، فأكلتهم فيها، فلم تبق بيوتا ولا سكانا([4]).
ويقول عبد الحكيم عابدين –رحمه الله- "هكذا يصور لنا الأستاذ البنا المعنى الرفيع، والمغزى العظيم الجليل، فالذي يجب على من يرى النار مشتعلة ألا يفكر فيمن أشعلها، ولا فيمن يكون السبب في إيقادها، وإنما يسرع إلى إناء الماء، ومن لم يستطع فليحمل صفيحة، ومن لم يستطع فليحمل كوزا من الماء، ومن لم يستطع فليلق بشيء من التراب على النار. المهم أول ما يعنى الجميع، وأول ما يحركه الإيمان والعقل في نفوس الجميع هو أن يسارع في إطفاء النار، فإذا سلمت البيوت وسلمت النفوس، علينا أن نتحاسب فيما بعد، وحبذا لو قلنا "فمن عفا وأصلح فأجره على الله"، وجعلنا شكرنا لله على نعمة إطفاء الحريق أن نتعانق، ونتسامح، ونستأنف حياة جديدة كلها حب، وكلها صفاء، وكلها أخوة على طراز الدعوة المثلى التى تسمى دعوة الإخوان المسلمين..."([5])
والتجسيد أو التجسيم ملمح فني يعني إبراز المعنوي (الذي لا يدرك بحاسة من الحواس الخمس) في صورة حسية. كقولنا "تحطم اليأس على صخرة الأمل".
أما التشخيص فيعني أن ينسب للحسي الجماد والطبيعة ملامح بشرية، كقولنا: "مصر هبة النيل"، أو "إن الأهرامات تروى تاريخ قدماء المصريين.
وقد يجتمع التجسيد والتشخيص في مثال واحد، كقولنا "إن إيمان الرعيل الأول ينطق بالصدق واليقين"، فالإيمان ظهر هنا في صورة حسية مشخصة
وهناك من النقاد من يسوي بين التجسيد والتشخيص فهما يمثلان صورة بلاغية تنزل فيها الأفكار والمعاني منزلة الأشخاص، كما تنسب إلى الجماد والطبيعة صفات بشرية. والمصطلح الإنجليزي هنا مشتق من أصل يوناني، ولا يختلف في معناه عن كلمة Personification مثل قوله تعالى ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ﴾[الرحمن:6]، وقول الشاعر:
والموت نفاذ على كفه جواهر يختار منها الجياد([6])
ويقول شهيد الإسلام سيد قطب:
"التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسّة المتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني، والطبيعة البشرية، ثم يرتقي بالصورة التى يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية.."([7])
وقد يكون تقسيم هذه الظاهرة إلى ثلاثة أنواع أدخل في باب الدقة، كما مثلنا آنفا:
أ- فالتجسيد أو التجسيم هو إبراز المعنوي في صورة حسية غير عاقلة.
ب- التشخيص هو إبراز الحسي- غير العاقل- في صورة بشرية.
جـ- والجمع بينهما يعني إبراز المعنوي في صورة حسية بشرية
وهذه الظاهرة الفنية في كل أشكالها تنقل "المعروض" من حالته التقريرية أو المغيبة إلى حالة تُرى وتعاش بالبصر والبصيرة بما اكتسبته من نبض وحركة وحياة.
***
وقد وظف الإمام الشهيد هذه الظاهرة كثيرا في أدبياته وخصوصا خطبه، كما نرى في قوله:
"أيها الإخوان المسلمون، أيها الناس أجمعون: في
هذا الصخب الداوي من صدى الحوادث الكثيرة المريرة
التى تلدها الليالي الحبالى في هذا الزمان، وفى هذا
التيار المتدفق الفياض من الدعوات التي تهتف بها
أرجاء الكون، وتسري بها أمواج الأثير في أنحاء
المعمورة، مجهزة بكل ما يغرى ويخدع من الآمال
والوعود والمظاهر:
نتقدم بدعوتنا نحن الإخوان المسلمين..
هادئة،ولكنها أقوى من الزوابع العاصفة..
متواضعة،ولكنها أعز من الشم الرواسي..
محدودة، ولكنها أوسع من حدود هذه
الأقطار الأرضية جميعا.
خالية من المظاهر الزائفة والبهرج الكاذب،
ولكنها محفوفة بجلال الحق، وروعة الوحي، ورعاية الله..."([8]).
وتبرز ظاهرة التجسيم في أرق وأجمل صورها في النص الآتي:
"هبط الإيمان على قلوب المسلمين الأولين من صحابة
النبي صلى الله عليه وسلم كما تهبط قطرات الندى في الصباح
الباكر على أكمام الزهرات فتهتز لها، وتتفتح وتستمد
منها الجمال والقوة والحياة، وكذلك استمدت
قلوب هؤلاء الكرام من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم الحياة
والقوة والجمال،وحلا فيها الإيمان، وتغلغل حتى
حل منها في الصميم، وملك منها الحبة والشغاف؛
فبهذه الدعوة يهتفون، ولها يعملون، وفي سبيلها
يجاهدون، فإن واجههم العذاب في هذا السبيل
فهو العذاب الفرات، وإن أريدوا على تركها
ثبتوا حتى الممات، وإن فتنوا فيها رأيت ما شاء الإيمان من صبر وثبات"([9]).
([1] ) بدوي طبانة: معجم البلاغة العربية 99.
([2] ) استروبلال: الشامل288-289: معجم في علوم اللغة العربية ومصطلحاتها. (دار العودة- بيروت1985)
([3] ) مجلة الإخوان المسلمين السنة الأولى، العدد 2، 28 صفر 1352- 22/6/1933م.
([4] ) مذكرات عبد الحكيم عابدين (مخطوط)
([5] ) السابق نفس الصفحة هذا، وكان الإمام يلح على هذا المعنى وذاك التصوير.راجع مثلا مقالا له بعنوان علينا أن نتعاون على إصلاح ما تلف، ثم نفتش عن المسئول بعد ذلك"- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية العدد6- السنة الخامسة- 16 من ربيع الأخر 1356ﻫ.
([6] ) د. مجدي وهبة: معجم مصطلحات الأدب389، 447 (مكتبة لبنان- بيروت1974)
([7] ) سيد قطب: مشاهد القيامة في القرآن5 (دار المعارف- القاهرة1947)
([8] ) من الخطاب الجامع الذي ألقاه الإمام البنا في الاجتماع الحاشد يوم الثلاثاء 14 من صفر 1358ﻫ- 4 من إبريل 1939م. بدار الإخوان المسلمين بالقاهرة.نشر بعنوان "الإخوان المسلمون تحت راية القرآن" في مجموعة رسائل الإمام (107-122)
([9] ) مجلة الإخوان المسلمين- السنة الثانية، العدد(2) –26 من المحرم1353ﻫ- 11 من مايو 1934م.