عينان مطفأتان وقلب بصير رواية بتقنية غير مسبوقة

عينان مطفأتان وقلب بصير

رواية بتقنية غير مسبوقة

د. عبد الله الطنطاوي

[email protected]

محمد السيد

[email protected]

1 _ كلمة أولية :

ليس المهم أن تكتب .. بل المهم أن تكون في كتابتك إضافة طيبة إلى المرصوف في رفوف المكتبات . فكم من كتابة و كتاب لم يأتيا بجديد ، و لم يضيفا إلى معارف القارئين فكرة ما أو تقنية كتابية لا تبليان على كثرة الرد ، ولا تُستهلكان من كثرة التداول بين الناس ؛ إذ إن كثيراً من الكُتّاب يعمدون إلى ما هو مجموع و مطروق من الأفكار و الحقائق في كتب المبادرين الأولين أو الآخِِرين فينضدونه جاهزاً في كتبهم ، و لا يزيد فعلهم في الكتاب الجديد على أكثر من الوصل و التنسيق بين تلك الأفكار و الحقائق بكلمة أو حرف أو جملة أو فقرة ، ثم يميلون إلى غلاف الكتاب ليسطروا فوقه بالحرف الكبير ( تأليف فلان ) ،  وكان الأحرى و الأدق و الأكثر أمانة أن يُكتب على الغلاف : من إعداد فلان .

احتجت لهذه المقدمة كي ألج إلى الكلام عن مادة رواية حميمية دافئة ، فأساوم الفن فيها فألفت بذلك نظر القارئ الكريم إلى مكمن الإضافة الفذة في هذه الرواية ، التي كتبها الأديب الأريب المبدع الأستاذ عبد الله الطنطاوي ، الذي أهدى المكتبة العربية و الإسلامية نيفاً و سبعين كتاباً ، و ذلك منذ أن بدأ الكتابة يافعاً في حلب الشهباء مسقط رأسه و حتى اللحظة و على امتداد سبعين عاماً من عمره ، الذي نرجو له أن يمتد و يمتد بالخير و العلم والهدايا النافعة للأمة على طريق نهضتهاو المجد الذي نرجوه . إنها رواية : ( عينان مطفأتان و قلب بصير ) .

و منذ البداية أقول : إنني لن أدخل في مماحكات الترجمات الرديئة للنقاد الحداثيين عندنا ، الذين يعتاشون على موائد يستدرجهم إليها الغموض و _ الطِّلسمات _ المترجمة لمصطلحات نقدية ولدت و ترعرعت في تربة مغايرة لتربتنا ،  وانتشت بيراع أدمن فكراً و ثقافةً و حياةً لا تَمُتُ جميعها بأي سبب لفكرنا و لثقافتنا ولحياتنا ، بل إنني سوف أعبئ كلماتي بدفء و بساطة ديباجات الرواية الجديدة للحبيب عبد الله الطنطاوي ، دون محاباة ولا مراعاة لما بيننا من علاقة عضوية حميمة ، تتغيا انتقال مجتمعاتنا من حياة ضيقت موجوداتها المادية منافذ النجاة على ناسها، إلى وسع الحياة في ظل مبادئ دينهم ، و هو الوسع الذي يمتد على مساحتي الأولى و الآخرة، فلا يكون العيش في الدنيا هو آخر المطاف ، كما هو وارد في ذهن القاطنين فوق الأرض في عصرنا المأزوم بشتى أنواع الأفكار و مختلف أشكال الحياة الضنك : (( و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً و نحشره يوم القيامة أعمى )) .

إنها الرواية التي تنقلك للعيش في مجتمع تتمنى على الله أن تكون عضواً فيه ، تتمتع بدفء أحضانه ، و روعة علاقاته ، و سمو تعاملاته ، دون الحاجة إلى الخوض في الصراعات المقيتة ، التي بنى عليها السرد الغربي ، والسرد المقلد له في ديارنا أساساته و تقنياته ، بعيداً عن كون الحياة مليئة بالسرد المشوق ذي الفن العالي ، وهو في الوقت نفسه لا يثير غرائز الحيوان بين الناس ، بل هو يصوغ الواقع بالمعاني السامية ، التي جعلت من الإنسان إنساناً ، عن طريق السرد الهادف النابذ للتفرد التسلية و التهريج ، المبتعد عن صياغة واقع يتناول في الأغلب الأعم قاع المجتمعات و أقبيتها ، و يبرزها على أنها هي سيرة الإنسان .   

2 _ هذه الرواية :

أيها القارئ الكريم .. اسمح لي الآن أن أقول كلمتي في هذه الرواية ، ذات الإضافة الجديدة في تقنيتها ، و هي كلمة تحمل رأياً نقدياً ، أرجو له أن يكون لافتاً منبهاً إلى قضية تقول : إنه من الممكن بناء سرد ناجح قائم فوق قيم الخير وما تصوغه من علاقات في المجتمعات و حسب . كما أن الدراما يمكن لها أن تخلو من ( أيدلوجيا الصراع ) ، التي نسجت كل مقومات الحياة الغربية ، لدرجة أن محاولة الإنسان الاستفادة من المسخرات المادية التي خلقها الله له في الكون سموها صراعاً مع الطبيعة ، و امتد الأمر ليقولوا : مات فلان بعد صراع مرير مع المرض ، إلى آخر المصطلحات التي عبأوها بالصراع و الصرعات .

و ها أنذا تحتلني متابعة الرواية حتى الثمالة ، لم أستطع مغادرتها حتى نفضت الغِلافَين ، فلم أُبق على حرف فيها إلا و قد تأملته بعينين فاحصتين ، و قلب واعٍ ، و عقل حاضر ، فتبرجت الرواية لي بتقنية لم أعهدها قبل في أية رواية قرأتها ، و ما أكثر ما قرأت ، و كان عجبي الكبير يقول : كيف استطاع الكاتب أن يصرف في روياته هذه تذكرة سفر لها دون دفع أتاوات تقنية الصراع ، التي تهيمن على كل السرد الراوائي الحاضر ، و مع ذلك فقد ظل الكاتب الموهوب صامداً في لجة لم يخضها أحد قبله ، و ذلك من خلال الجملة البسيطة و اللغة السهلة، و الحوار الموظف ، و التشويق المستوفي تقنياته ، و الغاية السامية التي رافقت القص ، من أول حرف حتى آخر نقطة خضراء ختمت العمل المتقن بإشارة تعجب و إعجاب و الفخر بالإمكانية الطيبة ، التي وفقت للحصول على تجربة ، هي إضافة تحاول الخروج من زمن الهزيمة أمام مواضعات تقنية كرمها غيرنا ، و سرنا خلفها دون محاولة من تأمل و نظر يفضيان إلى تقديم جديد . إنني لا أريد أن أتكلم عن صاحب الرواية ( عبد الله الطنطاوي ) الأديب الناقد القاص الروائي المبدع ، فهو أشهر من تقديمي له في كلماتي هذه .

و لا أريد أن أتكلم عن أسلوبها و بساطة لغتها و عظيم مراميها ، فهذه كلها مبذولة في كل أنحاء الرواية ، فما عليك أيها القارئ الكريم إلا أن تطالع الرواية ، لتجد مصداق ما أقوله لك ، فهي تمتعك بالأسلوب السهل الممتنع ، الذي يتجلى بأروع و أغدق مما تتصور ، واقرأ معي إذا شئت هذا المقطع من الرواية و تأمل ما قلته لك : ( مرت الأيام و السنون و الشيخ صالح يحقق نجاحاً تلو نجاح ... كان دائماً الأول على صفه، كان جسمه ينمو نمواً عجيباً ، حتى صار فارع الطول ، مديد القامة ، و كان نظيف اللباس ، أنيق الهندام، يصفف شعره بيده ، و يلمع حذاءه ، و يكوي ملابسه ، و يتعطر ، و لا يخرج من المهجع إلا في كامل أناقته ، و كان يخدم نفسه و أساتذته و زملاءه ، تدفعه مروءته و ذوقه الرفيع إلى تقديم العون إلى من يعرف و من لا يعرف ، حتى غدا علماً في المعهد الشرعي ) من الرواية ص 53  

انظر إلى هذه الكلمات من هذا المقطع : ( يلمع ، يكوي ، يتعطر ... ) و تأمل بساطتها و قربها من جميع الناس، مهما كانت ثقافتهم ، لكنها كلمات بسيطة تدخل في سياق من المعاني السامية : ( الأناقة ، النظافة ، النجاح الدائم ، التفاؤل الجميل ) ، و كذلك فإنها تشارك في بناء خلق عظيم هو التواضع ، الذي يجعل هذا العملاق (الكفيف ) الفتى صالح المشهور بالشيخ صالح ، يخدم الجميع ، و يحب الجميع ، رغم جسمه العملاق ، ونجاحه الكبير ، و أناقته الفذة ، و إنها لمفارقة لا تستوعبها سوى نفس عالية ، خلت من دواعي الصراع على عروض هذه الدنيا الفانية ..!!     

و مع أن شخوص الرواية بدأوا خيرين و ظلوا خيرين حتى النهاية ، و ذلك تجاوزاً لتقنية غربية في تطوير الشخوص ، أقول : رغم ذلك فقد وجدنا الأشخاص يطورون وسائلهم في الخير الذي تبنوه ولم يحيدوا عنه ، بما يشعرك أنهم يتطورون و بتشويق جميل دون أن يشعرك ذلك بأن هناك جموداً في حركة السرد ، و هذه بدعة رائعة أخرى في فن السرد تضاف إلى البدعة الإضافة الحسنة التي ابتدعها الكاتب المبدع في هذه الرواية ، و هي التخلي عن عُقَد الصراع التي تلف حياة الغربي في كل مناحيها ، ذلك الصراع الذي أوجد لديه التطلع الدائم إلى ما بين أيدي الآخرين من أملاك وثقافات وخصوصيات و حياة ، ليستلبها و يستأثر بها .

إننا أمام قصٍّ بتقنية جديدة لأدب إسلامي خالٍ من عقدة الصراع ، لديه وعي بواقعية حياتية تمد اليد بالخير للجميع ، و تنسج من مروءاتها خيوط وصل مع الإنسان ، لمجرد أنه إنسان ، تستحق حياته و خصوصياته وممتلكاته الاحترام و التعاون و التعاضد ، لا العدوان و الانقضاض و الهيمنة و الغطرسة التي صنعتها جميعاً خصوصية الصراع .

إن الله الذي خلق الإنسان العليم بما يصلحه قد بين لنا خطيئة منهج الصراع ، عندما حاول أحد المخلوقين الاعتداء على أخيه و سلبه ممتلكاته و حياته ، فجعله يندم ، ويتعرف على مدى ما اقترفته يداه نتيجة انطلاقه من فكرة الصراع ( فأصبح من النادمين ) . إن الحياة في الإسلام فكرة خيرة ، يقابلها الظلم ، و فيه يكون التغلب على النزعة غير الخيرة بالحوار و الإقناع و تقديم الحياة القدوة و حسب . أما امتشاق الأدوات الأخرى فلا تكون إلا للدفاع عن النفس تجاه من لم تنفعه حروف الحوار ، فراح يضرب يمنة و يسرة غير موظف لخطوط الخير التي خلقها الله فيه .

و في خضم هذه العطاءات الفذة في صفحات هذه الأمثولة السردية الخيرة ، لم ينس الكاتب الذي يكتب ليفيد و ينفع ، أقول : لم ينس الإشارات اللماحة الرائعة التي زخرت بها نصوص الإسلام ، و ذلك دون أن يشعرك بافتعال الموقف السردي أو الخروج عن سلاسة المرور بين السطور ، ومن أمثلة ذلك ما جاء في الصفحة ( 44) من الرواية ، حين وجه الروائي ذهن القارئ إلى عادة منتشرة بين الناس هذه الأيام ، عندما يجلسون في المساجد و في المحافل يستمعون لقارئ القرآن ، فيهتفون عند نهاية كل وصلة تلاوة من القارئ ، الله ... اللـ .. ه ...

في ضجيج غير لائق بالمناسبة ، و اقرأ معي كيف كانت رشاقة التوجيه إلى هذه القضية ، و كيف جاءت ضمن السياق ، دون أن تشعر بافتعال أو خروج عن النص و المناسبة .

(( أخذ الأستاذ مصحفاً و فتحه على سورة المائدة ، و على الآية الثانية و التسعين ، و أمر الشيخ صالحاً بالقراءة ، فتلا الشيخ صالح صفحة كاملة بصوته العذب ، و ترتيله الجميل ، و كان كلما توقف عن القراءة ، هتف الطلاب : الله . فنبه الشيخ تلاميذه إلى أن هذا الذي يفعلونه غير وارد ، و الأولى بهم أن يستمعوا وينصتوا و يتأملوا و يتفكروا و يخشعوا ، فلزم الطلاب الصمت ... )) .

و في الصفحة نفسها من الرواية تقع إشارة مهمة ، هي ثقافية و تتعلق بالأخلاق والسيرة الذاتية الملتزمة ، و قد تطرق إليها الكاتب باقتدار المتمكن من أدواته أولاً و من لغته ثانياً ، إذ كانت الإشارة محببة متقنة داخلة ضمن السرد بلا صناعة أو افتئات على سياقه في هذه الجزئية من الرواية ، و لنقرأها معاً :

(( استوقف الأستاذ تلميذه صالحاً عن التلاوة ، ثم قال له : سيكون لك شأن يا شيخ صالح فاتق الله و لا تبطر. قال صالح في ثقة : لن تبطرني نعمة يا أستاذ ، فأنا أعرف نفسي ، أنا ولد أعمى ، رزقه الله هذا المعهد العظيم ، و هيأ له شيوخاً فضلاء ، و زملاء نجباء ، أنا لن أبطر .  

قال غسان : حتى لو صرت وزيراً كطه حسين ؟ أجاب صالح : حتى لو صرت وزيراً يا أخي ، فسوف أبقى أذكر نشأتي الأولى في قريتي الفقيرة و أسرتي المستورة الحال )) ، و هنا يحق لي أن أقول : ألا تلاحظ أخي القارئ هذا التخلص الرائع في هذه المداخلة ، بأن أخرجها الكاتب المقتدر من سياق السرد إلى سياق الحوار ، وذلك كي لا تأتي مفتعلة ، و كأنها داخلة على النص بقصد الإشارة إلى قضية ثقافية أخلاقية ، هي تغير طه حسين عن نهجه الأزهري ، بعد إذ بهرته زائفات غربية فرنسية و غير فرنسية ، و كأنه لم يكن ذلك الدارس في معاهد العلم و معاهد الأزهر ، مفارقاً لأماني والده بأن يكون نبوغ ابنه الكفيف في بناء متجدد فوق الأساسات الحضارية الإسلامية النصية و العملية ..!!

و هكذا جاءت هذه المداخلة سهلة سلسلة مقبولة ، بل معطية للسرد أبعاداً ثقافية و أخلاقية محترمة . إنها إذن القدرة على استعمال التقنية المناسبة ، و الاستحواذ الرائع على اللغة . إنها رواية ناجحة بجدارة بالإضافات الماثلة في إدارة دفة مئتي صفحة من السرد دون استخدام تقنية الصراع ، متجاوزاً صاحبها فيها كل عوامل الوهن التي كان من الممكن أن تستحوذ عليها بسبب نبذ آلية الصراع ( الغربية ) ، بل جعل الرواية كلها قائمة على تقنية التسابق في الخير ، فهي خير و خير أشد ، مقترباً الكاتب القدير فيها من كل عناصر النجاح لرواية رائعة مشوقة هادفة ذات توظيف إنساني عالٍ ، توازن بين الحراك الخارجي و الحراك الداخلي لأحداث الرواية ، ففيها الصبر ثم الصبر و التسليم ، و فيها حراك الخارج بشكل ( دراماتيكي ) ، من أجل إخراج الداخلي للشيخ ( صالح ) مما كان يحيطه من عناصر مثبطة ، و هنا كان صبر الشيخ المتحرك لتغيير أوضاعه ، مساعداً عظيماً على حراك الخارج ( من الذين يحيطون به ) ، لإخراجه للناس بالصورة الرائعة التي رسمها كاتب الرواية، التي طرحت قضية الخير و الحراك به في كل اتجاه ، و كأنها هي المحرك الماثل للبناء والنجاح و النهوض ، بعيداً عن كل الترهات التي تطرح الآن في مجتمعاتنا مبنية على الصراع و التضاد وإقصاء الآخر ، وجعل النتيجة في إنتاج التقدم ( صفرية ) لأنها تراوح بين الفعل ورد الفعل .

أخي القارئ : إني أدعوك إلى التقدم باتجاه مطالعة الرواية بنفسك ؛ لترى بعقلك و ذاكرتك صدق ما أوردته في هذا الاستعراض لهذه الرواية التي يحق لي أن أطلق عليها : ( رواية الواقعية الإسلامية ) و هي مدرسة تستلهم الصور المجتمعية الراقية التي صنعها الإسلام و كرسها على مدى الزمان ، صيغة تصنع المجتمعات الآمنة الخيرة .