العلاقة بين الاهتمام بالمعنى وخصائص اللغة 4

د. عبد السلام حامد

العلاقة بين الاهتمام بالمعنى وخصائص اللغة

(4)

د. عبد السلام حامد

أستاذ مشارك بجامعتي القاهرة وقطر

للغة الإنسانية مجموعة من الخصائص والسمات، بعضها تنفرد بها وبعضها تشترك فيه مع غيرها من وسائل الاتصال. وتدلنا هذه الخصائص في مجملها على كثير من المبادئ والأسس الدلالية اللغوية التي تحفز إلى ضرورة دراسة المعنى والاحتفاء به. وأهم هذه الخصائص ما يأتي([1]):

1-  أنها وسيلة للتوصيل الهادف للمعلومات وتبليغها. وهذه سمة عامة يمكن أن يشاركها فيها بنسبة معينة غيرها من الإشارات المعلومية غير المقصودة، ومثال ذلك ملاحظة شخص إذا عطست أنك مصاب بالبرد، أو أنك من بلد آخر لنبرك الغريب.

2-  أنها أصوات ذات معنى. وهذا يعني أنها تتكون من جانبين عضوي ونفسي، وسر العملية الكلامية كلها يكمن في الصلة القائمة في عقول اثنين بين الرمز ومدلوله، ولذلك نجد أن "الأصوات اللغوية تمثل كل حقيقة إنسانية في هذا العالم الفيزيائي"([2]). ويترتب على هذه الصفة وجود طبيعة تجريدية للغة، تتمثل في عالم الذهن الذي يقوم باختزان المدركات وتصور مالا يمكن حصره من صور الشيء الواحد وإدراكها في الوقت المناسب([3]).

3-  الخطية (Linearity) وقد أرسى مفهوم هذه الصفة ـ كما أرسى غيرها ـ دي سوسير، وقد وضحها بقوله: " لما كان الدال شيئاً مسموعاً ( يعتمد على السمع ) فهو يظهر إلى الوجود في حيز زمني فقط ويستمد منه هاتين الصفتين:

أ‌-        أنه يمثل فترة زمنية.

ب‌-    تقاس هذه الفترة ببعد واحد فقط، فهو على هيئة خط.

إن المبدأ الثاني هذا واضح كل الوضوح وقد أهمله علماء اللغة لاشك ؛ لأنهم وجدوه بسيطاً جداً، ومع ذلك فهو أساس له نتائج لا تحصى ... إذ إن علم اللغة بأكمله يعتمد عليه ... ويختلف الدال السمعي عن الدال البصري في أن الدال البصري ـ كإشارات الملاحة مثلاً ـ يوفر إمكانية قيام مجموعات على عدة أبعاد في آن واحد، في حين أن الدال السمعي له بعد واحد فقط، وهو البعد الزمني. وعناصر الدال السمعي تظهر على التعاقب؛ فهي تؤلف سلسلة. وتتضح هذه الخاصية عندما نعبر عن الدال كتابة، فيحل الخط المكاني لعلامات الكتابة محل التعاقب الزمني "([4]).

ويترتب على هذه الصفة أن العناصر اللغوية تتوالى وتتعاقب زمنياً مرتبة على نحو ممتد شبيه بالخط لتكون وحدات أكبر، ولتشكل السلسلة الكلامية التي لا يمكن لعناصرها الظهور معاً في وقت واحد، ولهذا نجد أن الأصوات تتوالى فتتكون الكلمة والكلمات تتوالى فتتكون الجملة، والجمل تتابع فيتكون الخطاب، وبهذا التتابع تصبح الأصوات المركبة ذات معنى، كما أن هذا التتابع نفسه هو الذي يجعل الكلام قابلاً للتحليل([5]).

4-  صفة التمايز (Discreteness) ويقصد بها : " تمايز العناصر اللغوية تمايزاً واضحاً رغم تتابعها في الاستعمال، فأصوات اللغة تتابع في الكلام ولكن أبناء اللغة يميزون كلاً منها سمعياً ونطقياً، وكلمات اللغة تتابع وتختلط حدودها ولكن أبناء اللغة يدركون تلك الحدود، ولذلك يمكن وصف اللغة بأنها نظام متمايز "([6]). ومن  أهم فوائد هذه الصفة الأساسية الخاصة باللغة الإنسانية أنها تعتبر الشرط الأساسي لتقطيع السلسلة الكلامية إلى وحدات من مراتب مختلفة بناء على صفة الخطية التي أشرت إليها سابقا.

5-  الإنتاجية (Productivity)  ،  وهذه صفة تتعلق بحقيقة مؤداها أن العدد الحقيقي للعبارات في أية لغة عدد لا نهائي. ويأتي هذا من منطلق أن الإنتاجية تعني قدرة المتكلم على إنتاج عدد غير متناه نظرياً من الجمل وفهمه، ولهذا تتسم اللغة بأنها خلاقة مبدعة على لسان المبدعين من الشعراء والأدباء والبلغاء الذين يتمكنون من خلق عوالم جديدة من خلال اللغة. ومن أجل ذلك أيضاً تسمى هذه الصفة: الإبداعية (creativety) أو اللانهائية المطلقة (open endedness)([7]).

6-  الثنائية (Duality) وتعني هذه الصفة أن اللغة تشتمل على مستويين في آن واحد، الأول: مستوى رئيس هو مستوى الوحدات ذات المعنى كالمورفيمات والكلمات والجمل، والثاني: مستوى ثانوي وهو خاص بالوحدات غير ذات المعنى ـ كالأصوات والمقاطع ـ وهي التي تتألف منها وحدات المسـتوى الرئيس. مثال ذلك أصوات مثل:

7-  أ ، م ، ل ؛ فهي مفردة لا تعني شيئاً ولكنها بالتركيب والضم يمكن أن تكوّن كثيراً من الكلمات مثل: أمل، ألم، ملأ. ومعنى هذا أن لدينا أصواتاً محددة على مستوى، وعلى مستوى آخر لدينا المعاني المحددة " وفي الحق فإن هذه الثنائية … مظهر من أهم المظاهر الاقتصادية في لغة الإنسان، وذلك لأنه بمجموعة محددة من أصوات بعينها يمكننا إنتاج عدد هائل من المركبات ( الكلمات ) التي يتحدد لكل معناها "([8]).

8-  الإزاحـة (Displacement) وهي تعني أن اللغة تتيح لمستعمليها التعبير عن الأشياء والأحداث غير الموجودة في البيئة والسياق الحاليين([9]).

9-  الاعتباطيـة (Arbitrariness) وهي من أهــم سـمات اللغــة الإنسانية، ويقصد بها عدم وجود علاقة سببية أو مناسبة طبيعية بين العلامة اللغوية ومعناها([10]). ودي سوسير يفرق في هذا الصدد بين ما هو اعتباطي مطلق كشجرة، وما هو اعتباطي نسبي كشجرة تفاح، بناءً على أن الاعتباطي المطلق هو غير المعلل، أما النسبي فهو ما يمكن تعليله. وفائدة هذه الصفة أنها تضفي على اللسان البشري طابع المرونة والتكيف([11]).

10-         كون اللغة نظاماً وأنها نظام الأنظمة. ويقصد بكونها نظاماً " أن هناك عدداً محدوداً من الوحدات اللغوية التي يمكن أن تجتمع فقط في عدد من الطرق المحددة لتنتج هذا الكل المسمى لغة "([12])، ومثال ذلك أننا في العربية نصوغ مثلاً كلمة ( طالب ) بطريقة معينة ونقبلها، ويمكن بطريقة أخرى أن نضيف إليها التاء فنأتي بصيغة أخرى مقبولة أيضاً وهي: طالبة، وكذلك يمكننا بإضافة ثالثة أن نقول: طلابهم، لكننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نضيف جزءاً نحوياً آخر إلى هذه الكلمة الأخيرة لأننا عندئذ سنأتي بما هو خارج عن نطاق اللسان العربي.

وأما كون اللغة نظام الأنظمة فالمقصود به أن للغة نظاماً صوتياً متناسقاً ونظاماً نحوياً منظماً، وأن كل واحد من هذين النظامين لـه وحداته المناسبة وقواعده وعلاقاته التي تتركب في تنسيق مترابط ومستساغ([13]). ويمكن أيضاً ـ من زاوية أخرى معرفية ـ عد اللغة نظام الأنظمة، بناء على أنها تتدرج في التكون من " التشكل " الذي يدرك بالحس حتى تصل إلى كونها جهازاً ثم كونها مؤسسة اجتماعية، ويمكن التعبير عن هذا التدرج بسلسلة من المعادلات بهذا الشكل([14]):

صورة × قناة حسية = تشكل

شكل × مواضعة = علامة

علامات × علائق = بنية

بنى × تنضيد ( تكاتف ) = نظام

أنظمة (كالنظام النبري والنظام الكلامي) × نسق ( تواؤم ) = جهاز

جهاز × وظيفة = مؤسسة

مؤسسة × عقد جماعي = مؤسسة اجتماعية

11-  صفة الثبوت والتبدل، وتعني هذه أن العلامات اللغوية ثابتة تتوارثها الأجيال فيؤدي هذا إلى بقاء الاتصال بين الماضي والحاضر، ولكن مع وجود التطور في الألفاظ والمعاني على مدى الزمن([15]).

12-  عدم الجهة (non-directionality) وتعني هذه الصفة أن بإمكان أي شخص استقبال العلامات اللغوية سمعاً أو قراءة.

13-  سـرعة التلاشــي (rapid fade) أي أن العلامــة اللغوية تنتج سريعاً كما تختفي سريعاً. وهذا يصدق على اللغة المنطوقة([16]).

إننا حينما ننعم النظر في هذه الخصائص والسمات اللغوية، سندرك أن كثيراً منها يتعلق بوضوح بالجانب الدلالي في اللغة، ويشير إلى قضية من قضاياه المهمة التي تستوجب النظر والتوقف عندها. والخصائص التي يتضح فيها هذا مما سبق ذكره هي: التوصيل الهادف للمعلومات، وكون اللغة أصواتاً ذات معنى، والإنتاجية والثنائية والإزاحة والثبوت والتبدل وعدم الجهة. وفي هذا الصدد نجد أن التوصيل الهادف للمعلومات من خلال الأصوات اللغوية يعني أن اللغة تنزع إلى إيصال معنى محدد أو رسالة معينة في كل خطاب، وأن هذا جزء من السبب الذي وجدت من أجله، حيث جعلها الله ملكة في الإنسان وسماها بياناً مصداقاً لقوله تعالى: " خَلَقَ الإنسانَ علّمه البيان " [الرحمن: 3 ، 4]؛ فالبيان ـ كما ذكر المفسرون ـ هو " المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير "([17]). والإنتاجية والثنائية كلتاهما تعنيان توليد عدد لا حصر له مستمر من تراكيب اللغة وعباراتها على لسان أبنائها في كل عصر([18])، والمعنى في كل هذا يكون أكثر تنوعاً وتجدداً من التراكيب نفسها وأدعى ـ من ثم ـ للتأمل.

ونجد أمراً آخر يجعل المعاني جديرة بالنظر، حينما ندرك أن دلالة الكلام كأنها تقف في منزلة وسطى بين صفة الإزاحة (وهي تعني إمكان التعبير عن أشياء وأحداث غير موجودة في سياق التكلم ) وصفة عدم الجهة التي تعني كون كثير من الجمل والعلامات اللغوية مباحة لأي شخص يمكن أن يستقبلها، وإذا أضفنا إلى هاتين الصفتين صفة الثبوت والتبدل، سندرك أن الدلالة بهذا الشكل كأنها توجد في منطقة متوسطة مفتوحة وأنها حرة الحركة؛ فهي تأتي من أي مشار إليه قريب أو بعيد في المكان أو الزمان أو فيهما معاً، ويمكنها أن تذهب إلى أية جهة إذا استدعى الأمر، لذا فنحن نلهث وراءها باحثين عنها وكاشفين لها.

              

([1]) انظر: جورج يول، معرفة اللغة، ترجمة د. محمود فراج ( دار الوفاء ـ الإسكندرية ـ 1999) 31-40، وماريو باي: أسس علم اللغة، ترجمة وتعليق د. أحمد مختار عمر ( عالم الكتب بالقاهرة ـ 1998م) 40-42، ويوسف غازي: مدخل إلى الألسنية، 64-75، ومازن الوعر: قضايا أساسية في علم اللسانيات الحديث ( دار طلاس بدمشق ـ 1988م ) 45-52.

([2]) مازن الوعر: قضايا أساسية 48.

([3]) انظر: سمير ستيتية: المشكلات اللغوية في الوظائف والمصطلح والازدواجية (دار القلم بدبي ـ 1996) ص24، 25.

([4]) فردينان دي سوسير: علم اللغة العام، ترجمة د. يوئيل عزيز ( جامعة الموصل بالعراق 1988م ) ص89.

([5]) انظر: يوسف غازي: مدخل إلى الألسنية ص 66، 67.

([6]) رمزي بلعبكي: معجم المصطلحات اللغوية ص 154.

([7]) انظر: جورج يول، معرفة اللغة ص36،37، ورمزي بعلبكي، ص401.

([8]) جورج يول ص39، وانظر: يوسف غازي ص 69-72.

([9]) انظر: جورج يول، معرفة اللغة ص33.

([10]) يخالف سمة الاعتباطية هذه ما كان عليه رأي معظم اللغويين العرب القدماء؛ حيث كادوا يجمعون على ثبوت المناسبة بين الألفاظ والمعاني. وقد نقل أهل أصول الفقه عن عباد الصيمري من المعتزلة أنه كان يذهب إلى هذا أيضاًَ. والفرق بين رأيه ورأي أهل اللغة أن المناسبة عنده ذاتية موجبة بخلافهم. وقد أنكر الجمهور على عباد هذه المقالة. انظر: السيوطي، الأشباه والنظائر (طبعة دار أحياء الكتب العربية بالقاهرة) المسألة العاشرة من النوع الأول ـ 1/47، وابن جني: الخصائص (باب إمساس الألفاظ أشباه المعاني) 2/154.

([11]) انظر: دي سوسير، علم اللغة العام ص86-89، ويوسف غازي 64-66.

([12]) مازن الوعر: قضايا أساسية ص47.

([13]) انظر: السابق نفسه.

([14]) انظر: د. عبدالسلام المسدي: مباحث تأسيسية في اللسانيات ( مؤسسات عبدالكريم بتونس ـ 1997م ) ص 129، 130.

([15]) انظر: مازن الوعر، قضايا أساسية ص47.

([16]) انظر: جورج يول، معرفة اللغة ص40.

([17]) شهاب الدين الألوسي: روح المعاني ( دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 1994م) 14/99.

([18]) انظر د. عبدالقادر الفهري:اللسانيات واللغة العربية ( دار توبقال ـ الدار البيضاء –2000)2/217، ود. ميشال زكريا: الألسنية، المبادئ والأعلام ص34.